مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر الخالدة، هي محطة من المحطات الحاسمة في تاريخ الجزائرالمكافحة، وهي فصل من فصول المجابهة والتحدي بين شعب مؤمن بقضيته ومصمم على انتزاع حريته بوساطة الإستشهاد ومواصلة الكفاح بشتى الوسائل، وبين استيطان إستدماري غاصب ومتغطرس، ليس له من وسيلة سوى القهر والقمع والتنكيل وإراقة الدماء، ولا يعنيه بعد ذلك إلا الإحتفاظ بالأرض وفرض هيمنته الطاغية، وتأكيد إرادته القائمة على المحو والإجتثاث والإبادة الشاملة لشعب بأكمله، تلك هي حقيقة حسابات أُمُّ الإستدمار فرنسا العجوز التى بدأت معالم مظالمها تزول وتندثر تباعًا، وتتلاشى من أمام عينيك، كما تختفي مظاهر السراب الخادعة كلما اقتربت منها .
ديغول يراجع حساباته
وقد فهم ( دوغول ) ـ بعد أن درس كل الإحتمالات ـ أنه لا خلاص لفرنسا من ورطتها في الجزائر إلا الفرار بجلدها، وأنه لا خيار أمامها سوى مواجهة الحقيقة على الرغم من مرارتها وعدم تقبلها بسهولة بالنسبة للكثيرين من الغلاة والمتطرفين، وقد أدرك ـ بعداستنفاده لكل الجهود ـ أنه لا مستقبل لفرنسا قوية في المجتمع الدولي وهي باقية في المستنقع الجزائري تتكبد الخسائر تلو الأخرى على أيدي كتائب جيش التحرير الجزائري الذي أصبحت له قدم راسخة في إدارة المعارك بمهنية واقتدار، وآمن بعدالة قضيته، وصمم على المضي في طريق الإستشهاد.
وقرأ ( دوغول ) كل ذلك قراءة فاحصةً ومُتَأَمِّلَةً، واستخلص أن الإستمرار في مواجهة جيش التحرير أَو الإدعاء بالقضاء عليه في الميدان هو ضرب من الإنتحار، واستنزاف للقدرات الفرنسية التي لَمْ يعد بإمكانها مواصلة هذا النهج الخاسر الذي كلفها الكثير من تبديد المال، وكبدها خسائر مختلفة على مستويات شتى، وبعد أن فكر وقدَّرَ تأكد أن أسوأ الحلول هو الحل، وأن البقاء في الجزائر هو القضاء على فرنسا، ومن ثم جاءت كل الإجراءات التي اتخذها ( دوغول ) لإنقاذ فرنسا، إجراءات تصب في مصلحة المستقبل الفرنسي، على الرغم من المواقف المتطرفة للأوروبيين في الجزائر، ومن ورائهم طائفة الضباط المتمردين على توجهاته وسياسته التي خالفت مصالحهم، وتعارضت مع تطلعاتهم الكولونيالية ومستقبلهم الآفل الذي غدا هدفا من أهداف الثورة الجزائرية.
وفي ظل تلك الأجواء المشحونة بالتوتر والتشنجات التي تنتج عن المجابهة والصراع قرر ( دوغول ) زيارة الجزائر يوم 08 ديسمبر 1960 لِجَسِّ نبض المناوئين لسياسته من الأوروبيين والضباط، وقد تَضَمَّنَ برنامج زيارته متابعة مشروع الإستفتاء الشعبي المقرر تنظيمه في نهاية الأسبوع الأول من شهر جانفي 1961 ( داخل فرنسا يوم 08 / 01 / 1961، وفي الجزائر ما بين 06 و 08 / 01 / 1961 ) . ولَمْ تُفَوِّتْ فئة المستوطنين الأوروبيين زيارة ( دوغول )، واستقبلته بمظاهرات غاضبة ومنددة بسياسته، وقد طبع تلك المظاهرات التوتر والسخط، وشملت العديد من المدن التي يستوطنها الأوروبيون، وقد حاول الأوروبيون أن يعطوا لمظاهرتهم طابع الشمول ليثبتوا لِـ ( دوغول ) مدى تماسك صفهم، فضلا عن الترويج الدعائي لورقة (جبهة الجزائر الفرنسية) التي راحوا يستثمرونها في هذه المناسبة .
مطالب ثابتة…. الاستقلال أولا وأبدا
وبالمقابل كان للمسلمين الجزائريين ـ من جهتهم ـ الذين يمثلون الأغلبية الساحقة والكثرة الكاثرة الدور الإيجابي في طرح مطالبهم التي لا تتقاطع مع مطالب الأوروبيين، واغتنموها فرصة للتعبير عن قضيتهم العادلة، ونزلوا للشوارع مطالبين بـ (استقلال الجزائر) ورافعين للشعارات المنادية بـِ : (تحيا جبهة التحرير) و(تحيا الحكومة المؤقتة للجمهورية (الجزائرية)
وتقرير المصير) و(الجزائر المسلمة) ـ رَدًّا على شعار : (الجزائر جزائرية) ـ و(المفاوضات العاجلة) و(المفاوضات مع ممثلي جبهة التحرير) و (الإستقلال للجزائر) وغيرها من الشعارات المناهضة لاستمرارية التواجد الفرنسي في الجزائر، وظهرت الراية الوطنية وبكثرة بين أيدي جموع المتظاهرين الذين غَصَّتْ بهم شوارع (بلكور) و(صالامبي) و(ساحة أول ماي) و(ديدوش مراد) ـ ميشلي سابقا ـ و(الحراش)
و(القبة) و (ديار السعادة) و (بئر خادم) و(بئر مراد رايس) وغيرها من مختلف الشوارع، وشارك في هذه المظاهرات العارمة حتى النساء والأطفال، وفي سرعة البرق انتقلت المسيرات الشعبية الحاشدة إلى أحياء أخرى كـ : (العناصر) و(القصبة) و(وادي قريش) ـ باب الواد ـ، وانضم الشعب إلى المظاهرات بتأييدها وتأطيرها وتوجيهها الوجهة الملائمة التي تخدم القضية الوطنية، وتساهم في التعبير عن الشعور الوطني وما يختلج في النفوس من المعاناة . وأثناء تلك المظاهرات التاريخية وقعت مشادات بين الأوروبيين والمتظاهرين الجزائريين، وبلغ الإستفزاز مداه ولم يبق مجال لضبط النفس، وانفلتت الأمور، وأطلق المجرمون النار على الجزائريين، وتطورت الأحداث وأخذت منعطفا جديدا، وكان رَدُّ فعل المتظاهرين الجزائريين على القتلة قويا ومتناسبا مع درجة العدوان وحجم الجرم، وامتد ردُّ الفعل إلى تحطيم متاجر الأوروبيين وسياراتهم، وتدخلت عناصر الجيش والشرطة والدرك والمضليين، فضلا عن المستوطنين الذين كانوا مسلحين، وظلوا يمارسون ـ بشكل انتقامي ـ لعبة اصطياد الجزائريين من شرفاتهم فيردونهم قتلى، وسقطت أعداد غفيرة من الضحايا والمصابين . وانحازت قوات المضليين والشرطة والجيش والدرك إلى جانب القتلة والمجرمين، وأصبح الرصاص من كل الإتجاهات يُصَوَّبُ نحو المتظاهرين الجزائريين الذين راحوا يتهافتون على الموت في سبيل قضيتهم المقدسة، ولَمْ تغنِ لا المتاريس ولا الأسلاك الشائكة التي تَحَصَّنَ بها الجبناء خوفا من وصول الجزائريين إليهم، لأن الشعب برمته تحدى آلة البطش، وحَطَّمَ كل ما من شأنه أن يقف في سبيل نصرة قضيته، فضلا عن موقفه الموحد ووعيه الوطني وإدراكه لساعة الحقيقة، وقناعته الراسخة من تحقيق التحرير بوساطة المجابهة والمفاداة والإستشهاد.
صدى المظاهرات تدوي في منهاتن
واستمرت المظاهرات على مدى ثلاثة أيام كاملة في العديد من المدن الجزائرية كالجزائر العاصمة ووهران والبليدة وتيبازة وقسنطينة وعنابة وشرشال والشلف وبجاية وباتنة وبسكرة ووهران وسيدي بلعباس ... وأثبت الشعب الجزائري للمجتمع الدولي ولكافة أمم العالمين عدالة قضيته ومشروعية كفاحه، ووضع المحتل الغاصب وساسة فرنسا ومن يقف إلى جانبهم ويتحالف معهم ـ من قوى الظلم والطغيان ـ ضد الشعب الجزائري أمام الأمر الواقع، وجعلهم في مواجهة حرب ضروس مفتوحة على كل الإحتمالات، ومستمرة في ميادين الوغى، والخاسر في هذه الحرب هو من يغذيها ويدفع ثمنها، ويعمل على استمرارها وإطالة أمدها، ويطمح إلى الإستثمار في مشاريع مبنية على الوهم وسراب مزاعم ( الجزائر الفرنسية ) التي انهارت أُسُسُهَا، وخَرَّ سقفها وتلاشت معالمها مع بدايات الساعات الأولى من فاتح نوفمبر 1954 .
وكان ذلك اليوم الخالد في تاريخ الثورة الجزائرية درسًا حاسمًا تأكد من خلاله حفدة القردة والخنازير من ضآلة حجمهم وحقيقة عددهم التي تمثل الأقلية التي لا معنى لها، واستخلص المستمسكون بأكذوبة (الجزائر الفرنسية) الواقع الحقيقي الذي أفرزته مشاهد صارخة من مَخْبَرِ ذلك اليوم الأغر، وربما يئس المتطرفون منهم قبل المعتدلين من جدوى مواصلة (مواجهة سياسة التخلي) التي أرادوا أن يُمْلُوا بها شروطهم للإبقاء على هيمنتهم الطاغية وإرادتهم المجحفة القائمة على البطش والعدوان . وتبقى مظاهرات الحادي عشر ديسمبر الخالدة محطة فارقة في تاريخ الشعب الجزائري، وخلاصة للصراع المرير الذي أفرزه تفاقم المظالم والجور على مدى سِتِّ سنوات كاملة من اندلاع ثورة نوفمبر المجيدة التي كانت فاتحة وأملا لنهاية البؤس وعهود الإحتلال الثقيلة والْمُظْلِمَةِ، وما صاحبها من تخلف وانحطاط ومسخ وفقدان للسيادة الوطنية طيلة أكثر من قرن واثنتين وثلاثين سنة.
«انتهى»