طباعة هذه الصفحة

محمد وزاني... عشرية كاملة من المسؤولية بمطبعة “أودان”

عملنا في ظروف قاسية... خطورة مادة الرصاص، انعدام التهوية وكثرة الحوادث

جمال أوكيلي

 

قرار تغيير المقر إلى “حسين داي” يعود إلى المجاهد والمناضل محمد الشريف مساعدية

ذاكرة مسار إصدار جريدة “الشعب” ماتزال حية وخصبة لدى رجال من الرعيل الأول الذين أفنوا حياتهم في خدمة هذا العنوان: “التاريخي” المرتبط اسمه بجزائر الثورة والنضال والتنمية... ولادته كانت عسيرة وحتى شاقة إلا أن إرادة رؤية الحرف العربي يحلق في سماء هذا الوطن زاد من عنفوان هذه العزيمة وثباتها في مفاجأة القارئ في يوم يرمز الى أكثر من مغزى إنه ١١ ديسمبر ١٩٦٢ بعد شهور معدودة من استقلال الجزائر.
من هنا تبدأ مسيرة جريدة اسمها “ الشعب” بتعداد بدأ صغيرا ومن سنة لأخرى يشتد عوده لينطلق حاملا المشعل نحو أفق رحبة ليكون لسان حال جزائر القيم الثورية والوطنية الحقة في معركة البناء والتشييد مترجمة المحطات الحاسمة: الثورات الثلاث التطوع، الميثاق الوطني، الدستور، والحضور الجزائري القوي على الصعيد الدولي... طريق الوحدة الافريقية السد الأخضر.
لا يمكننا أبدا فصل “الشعب” عن انجازات هذا الوطن العزيز وهذا عندما يكون حاملا لقضية يؤمن بها إيمانا قاطعا ويجتهد على جعلها من أولوياته حتى تبلغ مداها.
هذا العنوان كان رائدا في تأدية هذه الرسالة الاعلامية النزيهة بعيدا عن التهريج.. بل هو عين لكل الأحرار في هذا الوطن الذين عملوا بإخلاص وتفان من أجل ان تكون الجزائر دائما في القمة والنموذج التحرري والنضالي والتنموي الذي يقتدى به.. وهكذا كان الأمر.
وعُمر قصة “ الشعب” هو عمر كل هذه العشريات من الاستقلال وكل من يريد البحث في أغوار هذا الوطن ماعليه إلا العودة الى الأرشيف الذي هو صفحات مفتوحة على هذا الوطن في كل انجازاته التاريخية صفحات مشرقة ومشرفة في آن واحد.
عنوان لم يولد من العدم بل هو نتاج قرار رجال أفذاذ آمنوا بمستقبل الجزائر من الجهاد الأصغر، الى الجهاد الأكبر إنه بناء الوطن... هم من الخيّرين، من بينهم السيد وزاني محمد الذي واكب محطات تأسيس جريدة “الشعب” الى غاية أن أحيل على التقاعد المسبق سنة ٢٠٠٨، اشتغل مديرا تقنيا من سنة ١٩٧٤ الى سنة ١٩٨٥، كما كلف بمتابعة انجاز مشروع مطبعة “حسين داي” له خبرة ومهارة واسعة في اختصاص فن الطباعة مايعرف بـ« لينوتيب” من خلال استفادته من دورتين تدريبيتين خلال الثمانينيات.
حرص طيلة حياته المهنية على أن يكون منضبطا وجديا وصارما مما أكسبه الكثير من الاحترام والتقدير في وسطه المهني استفاد العديد من خبرته التي وضعها في خدمة الشباب. أدق التفاصيل المتعلقة بالارهاصات الأولية لتشكل الاعلام المكتوب في الجزائر عقب الثورة.
مازال في ذهن السيد وزاني تاريخ يؤسس لبداية “صناعة الصحافة” مع بداية عهد الاستقلال يرويه بكل هدوء ويبّلغه بفخر واعتزاز لمن لم يعش تلك اللحظات الحاسمة في الشروع في وضع اللّبنات الأولى لبلورة منظومة إعلامية في الجزائر.
صنّاع الانطلاقة
السيد وزاني من بين صناع معالم هذه الانطلاقة المعوّل عليها تكوّن على أسس متينة بالرغم من غياب الأدوات القوية التي تدّشن هذا العهد خلال هذا الزخم الوطني المتنامي. كان السيد وزاني يشتغل في مطبعة “المجاهد” الأسبوعي “فونتانا” آنذاك “روبليسي” سابقا شارع خلدون حاليا وكانت المطابع آنذاك تحت اشراف ادارة واحدة لم يكن هناك التقسيم الموجود اليوم لأن التوجه آنذاك عمل على استرجاع الأملاك الى الجزائر المستقلة.
وبمجرد ان أسندت مهمة اصدار الجريدة الى السيدين مفتاحي والميلي بشارع الحرية كان السيد وزاني ينتقل الى المطبعة لمساعدة هذا الفريق وهذا بعد الفصل بين الأسبوعيات واليوميات، وقد تم في هذا الاطار الاستعانة بالمتعاونين المصريين وذوي الخبرة الذين كانوا في صحف جمعية العلماء.
وهكذا أعلن ميلاد جريدة “الشعب” ومع بداية شهر جانفي من سنة ١٩٦٣ كانت في أيدي القراء، كل صباح تعرض في الأكشاك متضمنة الأخبار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية، هكذا بدأت هذه التجرية “الجنينية” في الجزائر بعد الاستقلال.
وعقب حوالي ٣ سنوات انتقل العنوان الى ساحة “موريس أودان” الى مقر آخر كان تابع لجريدتي “لاديباش دالجي” و« ألجي ريبوبليكان” الطابق الأول للتحرير والادارة والطابق الأول الأرضي للمطبعة.
المعالم الأولى هي التكامل في استحداث الأقسام المكلفة بانجاز الجريدة (التحرير، التقني، الادارة) العدد الاجمالي لم يتجاوز الـ٥٠ عاملا كانت تطبع ما بين ١٢ و٢٠ ألف نسخة بـ ١٢ صفحة.
هكذا كانت البداية وان كان الطابق الأول المخصّص للتحرير يسمح بدخول نسمات الهواء، فإن الطابق الأرضي حيث توجد المطبعة تكاد تكون التهوية منعدمة فيه ولا يوجد مخارج مايصدر من روائح منبعثة من مواد كالرصاص والورق والتشحيم، ناهيك عن تلك الأصوات الحادة الناجمة عن اشتغال آلات الـ “ لينوتيب” وفي المساء عملية السحب.
هذا الوضع، بحسب السيد وزاني أدى الى اتخاذ اجراءات عاجلة وهذا بالعمل بطريقة “الأفواج” هناك القسم التجاري بـ ١٨ عاملا يتكفل بطبع الوثائق الى جانب ذلك هناك فريق نهاري وآخر ليلي وهناك قسم السحب.
وفي هذه الظروف عانى العمال من غياب التهوية والضوء الكثير وكان العمال كانوا يرتدون لباسا خفيفا نظرا لشدة الحرارة.
الجو العام بداخل ذلك “القبو” خلّف أمراضا مزمنة من خلال الكشف الدوري للطبيب الذي مافتئ يطالب بتغيير المقر وقد أطلع هو بنفسه على وضعية العمال ناهيك عن تشديده على شرب مادة الحليب وهكذا استمر الحال على هذا المنوال لفترة طويلة جدا ففي كل مرة كان العمال يذّكرون مسؤوليهم بضرورة تغيير المقر.
وهكذا كانت سنة ١٩٨٤ المنعطف الحاسم، وهذا بحصول المدير العام آنذاك محمد بوعروج على مقر بحسين داي، وهذا بفضل مساعي المجاهد محمد الشريف مساعدية وكان التدشين الرسمي في سنة ١٩٨٦ لتدخل الجريدة مرحلة جديدة في مسيرتها عندما انتقلت من عهد الـ “ لينوتيب” الى عهد “الأوفيست” لينتهي عهد “الرصاص” والدخول في “الرقمنة”.
القرار... الصعب
هذه الشهادة الحيّة والتاريخية للسيد وزاني الذي التحق بصفة رسمية بالجريدة في شهر سبتمبر ١٩٧٣ تبين مدى التضحيات التي قدّمها هؤلاء الرجال الذين كانوا يؤمنون بالعمل المنجز آنذاك بالرغم من الظروف الصعبة.. وحتى يكون العنوان قائما يؤدي الرسالة المنوطة به في تلك المرحلة التي كانت فيها الجزائر قوية اقتصاديا ودبلوماسيا كلمتها لها الوقع الكبير في الأوساط الدولية في الأمم المتحدة والأوبيك، عدم الانحياز،القمم العربية، إفريقيا، وعلاقات متينة مع دول آسيا وأمريكا اللاتينية باسم الثورات والتحرّر، كوبا، الفيتنام، والحركات الوطنية في القارة السمراء، بالاضافة الى تلك الروابط المتينة مع الكتلة الشرفية.
هذه العناوين الكبرى أي هذا المجال الحيوي للجزائر كان لابد أن يجد ترجمته لدى القارئ وكل المتتبعين للشأن الخارجي وكانت جريدة “الشعب” نعم المرآة التي تعكس كل تلك المجهودات الجبارة من أجل نظام دولي جديد.
وكانت الجريدة تسمى”مؤسسة الشعب” كونها كانت تؤدي نشاطا تجاريا كذلك من خلال طبع العديد من الوثائق، الكتيبات، مجلة آمال، نصوص القوانين وغيرها من الأعمال التي كانت مخولة لقسم خاص قائم بذاته وهذا بإضافة عناوين جديدة “المساء”، “المنتخب” “أضواء” تحت اشراف مدير واحد بمقر حسين داي.
وعند حلول التسعينيات وباسم الاصلاحات والانفتاح الاقتصادي، وتغيير أساليب التسيير حل كل هذا التراث الاعلامي بجرّة قلم وكأن شيئا لم يكن وهكذا فصل العنوان عن المطبعة كل جهة أصبحت لها كيان خاص بها وتقرّر وضعها تحت وصاية جبهة التحرير الوطني ثم نزعت منها لتعود الى طابعها العمومي.
لسنا هنا اليوم بهذه المناسبة قصد اصدار الأحكام على الرجال الذين سيّروا هذا العنوان تاركين ذلك للتاريخ وأما ذكرنا لتلك المحطات التي واجهت مسيرة العنوان خاصة خلال فترة التسعينيات وما اتخذ من قرارات مؤلمة زيادة على تسريح العمال في نهاية هذه الفترة، عندما كنا في مقر باستور وهذا لمتطلبات اقتصادية.. هكذا كان يقال في تلك الفترة.
هذا التوجه المبني على إعادة تنظيم العنوان، اتضح مع إدراجه ضمن الـ« هولدينغ” ثم “المجمّع” ودعّم بمجلس إدارة.. هذه هي صيغة التسيير الحالية بعد حل الشركة القابضة... لذلك لا يمكننا الغوص في مسائل تقنية بحتة ولكن هذه مؤشرات تبين التواصل في السعي للحفاظ على العنوان بتحدي الواقع الصعب.