طباعة هذه الصفحة

الإعلامية خديجة طاهر عباس في حوار لـ «الشعب»:

المدرسة الأولى والتاريخية التي احتضنتني وعلمتني فن السياسة

أجرت الحوار: سهام بوعموشة

خديجة طاهر عباس إعلامية متميزة بقلمها، مسيرة 25 سنة تجربة في ميدان الإعلام، عملت في جريدة «الشعب»، واصفة إياها بالمدرسة الأولى التي احتضنتها بعد تخرجها من الجامعة، علمتها السياسة وحررت أفكارها، ومن حظها أنها تعلمت على يد كبار الأقلام الصحفية، الذين تحتفظ لهم بذكرى طيبة، وترى أن أسوأ فترة مر بها هذا العنوان هي إعادة الهيكلة، وبحسبها «الشعب» بحاجة إلى أقلام نيرة وقوية للارتقاء أكثر، وهي حاليا تعد نشرة اقتصادية بالتلفزيون الجزائري.
- الشعب: بداية، حدّثينا عن التحاقك بجريدة «الشعب»؟
*  خديجة طاهر عباس: نهاية سنة 1989 إلتحقت بجريدة «الشعب»، وعمري 22 سنة في فترة كانت سياسيا خاصة واجتماعيا فترة مخاض وثوران بحث عن ذات جزائرية جديدة، لم أكن متكونة سياسيا وإعلاميا مادة خام من الجامعة مباشرة إلى العمل الإعلامي الميداني، في بداية 1990 وظفت بصفة رسمية، بعد فترة تربص دامت 6 أشهر على يد كبار صحفيي الجريدة مثل بوعقبة، بوطيبة، سعيد قرايت، محمد عباس محمد دحو مررت تقريبا على كل الأقسام، بدأت في القسم الثقافي ثم قسم المجتمع لفترة قصيرة، ثم مباشرة إلى القسم السياسي أو ما يسمى بالقسم الوطني، أجبرت كغيري من الصحفيين الجدد آنذاك الخوض في معترك السياسة دون أن أكون جاهزة أو متكونة، لكن في الجامعة كان الطالب يتكون في الميدان يتلقى المبادئ الأساسية وسياسة بلده من طرف الأساتذة.
وتخرجي من الجامعة صادف فترة بداية انهيار الاتحاد السوفياتي (روسيا حاليا)، كنا نعيش على الفكر الشيوعي ومبادئ الاشتراكية التي درسناها في الجامعة، لكن وجدنا أنفسنا في منعرج حيث أن كل ما درسناه تقريبا تغير، كنا مضطرين لولوج عالم آخر هو عالم الاحتياجات، المسيرات، النضال، المظاهرات ظهور جناح إسلامي وما يسمى بالتعددية، كشباب لم نكن جاهزين لذلك، كنا نبحث عن شئ ما نريد أن نفهم. دفعنا دفعا نحو بحر هائج نحاول تعلم السباحة مع الذين يجيدونها والتأقلم بسرعة. الظروف اجبرتنا وكذا تكويننا في الجامعة آنذاك ساعدنا كثيرا في الاعتماد على النفس، بالرغم من أن التعليم في الجامعة كان يختلف عن الميدان. اعتمادنا على أنفسنا نحن لم يكن لنا فرص للتكوين والسفر كانت الإمكانيات قليلة، أجبرنا على التعلم. كنا شبه منغلقين، الآن الشباب لهم فرصة للتعلم.

- الشعب: هل تخصصك إعلام وهل التحقت بالجريدة صدفة أم عن طريق مسابقة؟
* درست علوم سياسية وعلاقات دولية، دخلت الجامعة صدفة عن طريق مسابقة تم فيها اختيار 100 طالب تخرجنا تقريبا 50 طالبا، تكونا على يد أساتذة ومشرفين أكفاء وبارعين في السياسة وبفضلهم بدأت أحب السياسة بالرغم من أنني انطلقت في أقسام ليست لها علاقة بالسياسة، لكن حبي للكتابة في المجال السياسي كان يفوق كل شئ، صدقيني لا أتذكر لحد الآن كيف التحقت بجريدة «الشعب»، كنت أحب ميدان الإعلام، في البداية عشقت التلفزيون الذي منحي هو الآخر فرصة.
 أنا تربيت في منزل أفراده يحبون المطالعة، حيث علمنا والدي رحمه الله المطالعة وكنا نقضي الصيف في مسابقات فيما بيننا، دخلت التلفزيون لكني لم أجد ذاتي فيه، كانت فرصة مع زميلتي للعمل هناك وتم قبولنا، لكنني توجهت نحو جريدة «الشعب»، حيث قاموا بدراسة ملفي، وقام المدير بن زغيبة آنذاك باختبار بسيط، ثم في مدة معينة التحقت بالجريدة وأنا لا أعرف أبجديات الإعلام إطلاقا.

- كيف كان الإعلام في جريدة «الشعب» آنذاك؟
* بصدق كان لجريدة «الشعب» وهج وقيمة إعلامية وحضور. لها أسماء ثقيلة، كانوا محتضنين الجريدة ويسيرونها بطريقة احترافية آنذاك ربما الظرف السياسي المحيط بنا، كان يدفع لأن تكون هناك حركة وتغيير وتنافس، ربما الجريدة كانت الوحيدة في الميدان لهذا كان لها ذلك الوهج.
 وبتغير الأحوال تغير توجه الجريدة بدخول مرحلة التعددية الإعلامية، حيث فتح المجال للزملاء لتكوين جرائد خاصة بهم، وانطلقت عدة جرائد من رحم «الشعب»، من بينها «الخبر»، «السلام» و«المساء»، وكانت المنافسة شرسة ترددت وتساءلت في نفسي بين مغادرة الجريدة أو البقاء فيها، وفي الأخير قررت البقاء كوني في بداية التجربة، كما أردت المواصلة على النهح نفسه، بينما ظهرت جرائد أخرى وأصبحت على ما عليه الآن، وعلى فكرة حدثت صدامات بيننا وزملاء في هذه الجرائد لكن بقي الاحترام بيننا، لكن بعض الزملاء الغرباء عن الجريدة تجرؤوا آنذاك على تجريح اليومية وزملائهم، لكن اعتبرها إخفاقات وعثرات كان ينبغي المرور عليها بحكم أننا كنا في مخاض عسير، والكل لم يكن يعرف كيف تنتهي التجربة لأنها كانت جديدة وقابلة للفشل أو النجاح.

- كيف كنت تتعاطين مع الملفات الأمنية، خاصة أنك عايشتِ فترة العشرية السوداء؟
* الملف الأمني كان طاغيا، والوضع الإعلامي في موقع حرج جدا، كل كلمة محسوبة عليك كصحفية ومفكرة، بينما الآخرون يتعاطون مع الملف الأمني من جانب تجاري، على عكس جريدة «الشعب»، لم تكن ما يسمى النوايا الحسنة والحياد، كنا مجبرين على اتخاذ موقف لأن الظرف كان حساسا، والوضع الأمني جد خطير.
بالرغم من هذا الخوف والصعوبة في تناول المواضيع شكلنا موقفا، ولا تنسي أن جريدة «الشعب» مرت بعدة مراحل كانت في البداية حكومية ثم أصبحت تابعة لجبهة التحرير الوطني ثم استرجعتها الحكومة، كنا مجبرين على التعاطي مع الخبر الأمني والسياسي بطريقة ذكية وبمسوؤلية.
 كانت هناك عدة أقلام معروفة من بينها الوزير الحالي عز الدين ميهوبي، الذي كان يتميز بأخلاق عالية ومهني، وكذا الفقيد كمال عياش، تلك المرحلة تركت أثارا رغم الصعوبات، ثم جاءت مرحلة الإرهاب التي غطت على كل شئ واستقرت الجريدة وأصبحت حكومية ولها خطها الافتتاحي وتوجهها واضح.

- كيف كنتم تصلون إلى مصدر المعلومة؟
* كان مصدر المعلومة صعبا، لكن كنا نتحصل عليه من مصادر رسمية، وكنا نتنقل إلى عين الحدث لتغطية البشاعات الإرهابية في عدة مواقع كتفحيرات مطار هواري بومدين وعميروش ومجازر بن طلحة وسيدي يوسف، ترين يوميا هذا النوع من المجازر.
وكيف تعالجين تلك الصورة وتوصيلها للقارئ، تنقلين بقلمك صورة ومشاعر وأفكار وخلفيات وكل ما يرى بطريقة يفهمها العام والخاص، والسياسي بعيدا عن الموقف الشخصي، وهذا ما لم يكن دائما لأن بشاعة الإرهاب تضطرنا للتعبير عن مشاعر الاستنكار والازدراء.
البعض يتساءلون من وراءكم ويملي عليكم هذه الكتابات، كان ضميرنا هو الحكم، الدولة تعمل بطريقة قوية جدا.
أقسى ما عانيت منه الربورتاج، كنت أنا والمصور عباس تيليوة نذهب للمناطق الساخنة، حيث مرة طلب منا الذهاب إلى الدويرة كما يقال إلى عرين الأسد، أين كانت بقايا الإرهابيين ما تزال بالمكان، ولم نكن جاهزين، وكنا في أي لحظة معرضين للموت شاركنا في عملية تتبع الإرهابيين.
 كيف تتصرفين في ذلك الموقف، ومع ذلك قمنا بربورتاج وكان له صيت، تأثرنا به. لكن حين تسترجعين الماضي تتساءلين كيف وصلت إلى ذلك المكان، فقدنا عدة زملاء ماتوا كانوا أناس بسطاء طيبين، ذنبهم أنهم كانوا يشتغلون في الإعلام فقط.
- في هذا الإطار، كنت قد أرسلت إلى بلجيكا لإعداد روبورتاج، حدثينا عن تلك التجربة؟
* بدأت الدولة تفكر في سياسة إعلامية جديدة وكيف تكشف القواعد الخلفية للإرهاب في أوروبا بفرنسا، ألمانيا، بريطانيا، وبلجيكا التي كانت ملاذا آمنا لهم، يحضرون منها الأسلحة والمال والمعدات اللوجستية، كما أن الدولة جربت كل الوسائل والطرق، منها تصوير الضحايا في التلفزيون ليشاهده المواطن.
 وفي هذا الإطار، اختيرت ضمن ثلاثة صحفيين للذهاب إلى بلجيكا قضيت فيها عشرون يوما تقريبا، وكانت لي علاقات مع صحفيين بلجيكيين وألمان، واستطعت تصحيح أفكارهم بخصوص ما يحدث في الجزائر، خاصة مقولة من يقتل من؟، كما التقيت بالوزراء البلجيكيين كوزير الدفاع والداخلية، واكتشفت أن هناك مدينة في الحدود مع ليل هي الملاذ الآمن للإرهابيين، وكذا أحد موانئ بلجيكا هي نقطة انتقال معدات لوجستية وأسلحة نحو الجزائر حتى الإعلام استخدموه.
 الروبورتاجات التي قمنا بها كان لها وقع حتى في الداخل وأدرك الشعب الجزائري أن ما يجري له علاقة بالخارج.
آنذاك كانت ترسل لي رسائل تهديد من الإرهابيين، كنت أشاهد في الطريق الأشجار، السيارات، والحافلات تحترق فأصاب بالرعب وأنا ذاهبة إلى منزل عائلتي، كنت ألقى التحذيرات من المحيط لأنني كنت مستهدفة وأخاف على عائلتي.
 كانت لي فرص للسفر إلى أوروبا، فضلت البقاء في الجزائر من أجل عائلتي، ولا أتصور نفسي العيش خارج الجزائر التي تربيت بها لتأدية واجبي، وقد أديته بإمكانياتي وأفكاري ومواقفي، ولا تزال الصورة المرعبة للأحشاء الداخلية للضحايا بمطار هواري بومدين راسخة في ذهني، زرت النساء المغتصبات اللائي يعانين لحد الآن جراء الإرهاب، يجب الاعتناء بالمرأة اجتماعيا، ونفسيا وماديا، حتى نحصل على مجتمع متوزان أخلاقيا ونفسيا، لابد أن نستمر في علاج تلك المرحلة الصعبة.
 ليس من السهل تحقيق الأمن والاستقرار. هناك من قتل ولا يعرف لماذا قتل، يجب أن يكون لك موقفا مشرفا ولو على حساب نفسك. 25 سنة خدمة في الإعلام لم أحقق فيها أشياء مادية لكن حققت ذاتي، وهي كتابة كل ما يهم الشعب.

- ما هي أحلك وأصعب مرحلة مرت بها جريدة «الشعب»؟
*  أظن أن المرحلة الصعبة التي مرت بها البلاد والجريدة هي مرحلة الأزمة الاقتصادية التي اضطرت الجريدة فيها التخلي عن أكثر من نصف عمالها، وكان الأمر موجعا أن ترى زملاء لك يغادرون لتعصرهم البطالة، لكن قدرة الله فوق كل شيء، فقد تمكن كل هؤلاء من إيجاد مناصب شغل في مؤسسات أخرى ووضعهم الآن ربما أحسن مما لو استمروا في الجريدة. كانت أزمة أشد من الأزمة الحالية، كان يجب استخلاص الدروس. لحد الآن أحتفظ بذكريات سيئة عن هذه المرحلة، لكن تبقى فترة الإرهاب هي الأسوأ والأكثر مرارة، لأنني فقدت الكثير من الزملاء. أعتقد أنها المرحلة الأقسى والأمر.

- ما هي أهم المحطات التي سجلتها كصحفية بجريدة «الشعب» وبقيت راسخة في ذهنك؟
* لدي امتنان للجريدة، لها فضل عليّ، أعطتني الكثير وفتحت لي أبواب التكوين، تعلمت كثيرا خاصة في المجال السياسي، حيث منحت لي فرصة للمشاركة في عدة أحداث سياسية هامة، وفي تتبع يومي لكل ما يحدث في الجزائر وما حولها لدرجة أنني استطعت أن أكتب عن الجزائر بكل سهولة وعن همومها والوضع السياسي بها والتغيرات، حتى في ما يسمى أزمة القبائل، وقد حصلت على مرتبة كاتبة افتتاحية ومارسته بكتابات رأي خلال فترة دقيقة وحاسمة من المرحلة الأخيرة في تاريخ الجزائر. عملي حاليا بالتلفزيون يفقدني الكتابة التي أنا شغوفة جدا بها.

- ماذا أضافت لك تجربتك بجريدة «الشعب» وأنتِ الآن تشتغلين بالتلفزيون الجزائري؟
* أضافت لي الكثير، لكن حين ذهبت إلى التلفزيون شعرت وكأن حبل مسيرتي انقطع، العمل بالتلفزيون مختلف جدا، لأن الصورة هي كل شيء وليس لهم تعليق، يقدمون الخبر فقط، ليس مثل الصحافة المكتوبة، خاصة يومية «الشعب» التي كان فيها الخبر والتعليق.

- كيف ترين جريدة «الشعب» اليوم مقارنة بما كانت عليه في السنوات الماضية؟
* بصراحة كان الوضع السياسي في بداية التسعينيات من القرن الماضي مختلفا، وكان لابد على الجريدة أن تسجيل مواقف، وهو ما كنت أقوم به وزملائي في الوقت الذي كان فيه الموقف مسؤولية قد تكلفك حياتك. علما أن «الشعب» كان لها أقلام ثقيلة وأسماء معروفة، لكن العصر تغيّر وأضحى جيل جديد يشتغل بالجريدة وهم مجبرون على التأقلم، ربما ليست لهم تجربة، لكن هم قادرون على فعل الكثير، ومواصلة المسيرة الإعلامية وأنا أحييهم بالمناسبة، وأتمنى لهم النجاح. أنا أثمن ما قامت به المديرة العامة لـ»الشعب» من خلال الملحقات والارتكاز على الجانب الجمالي، دون إهمال جانب المحتوى، أرى أنها بحاجة إلى مزيد من الأقلام القوية والنيرة لها وزن، ليس بالضرورة أن يكون القلم القوي معارض، يمكن أن يدافع عن إنجازات شيدت خلال 15 سنة الأخيرة ويجب الحفاظ عليها.

- ماذا تقولين في ذكرى تأسيس جريدة «الشعب» وأنتِ ابنتها؟
* هي المدرسة الأولى التي احتضنتني وفتحت لي المجال، وأعطتني كل شئ بدون مقابل، حيث كنت أقدم رأيي بحرية وأتواجد في كل المناطق وشاركت في عدة مؤتمرات وقمم ومناسبات رائعة، والتي صقلتني كمهنية، تعلمت منها كيفية المجابهة، كما سمحت لي بالاحتكاك مع غيري من الإعلاميين. يومية «الشعب» هي أول من التجأت إليها حين تخرجت من الجامعة، وبالتالي أنا اشكرها ربما كنت مقصرة اتجاهها ولم أقدم لها ما يجب إعطائه، أعتز بانتمائي لها وأحيي أفضالها عليّ والتلفزيون أيضا له أفضال كثيرة عليّ، فقد لامست من خلاله جانب السمعي البصري وهي تجربة اعتز بها.
 أرى أنه يجب على الشباب الاهتمام بالجريدة، وهي ليست كبقية الجرائد، لها اسم تاريخي قوي، له وهجه وقوته وخطه الافتتاحي، مهما حاول بعض الناس تقزيمها، ليس ضعفا أن يكون لها خط مهادن، لكن لا ينبغي أن نكون بعيدين عن التيار، لم لا تكون جريدة «الشعب» لها قوتها مثل جريدة «الأهرام» المصرية، آمل أن تكون في هذا المستوى.
وبهذه المناسبة، أوجه تحية لزملائي القدماء، أقول الأيام فرقتنا لكن الذكريات جمعتنا، حتى التلفزيون تعلمت منه، حيث منحني قيمة، وإضافة إعلامية افتخر بها أنا، لم أتعالى على التعلم، مازلت أنهل، آمل الأيام القادمة يكون اهتمام أكثر بالصحفيين كمثقفين ومهنيين، خاصة بالجيل الجديد الذي عايش مراحل صعبة من تاريخ الجزائر، آمل في خلق أطر تحمي مصالح الصحفيين وتفعيل الهيئات التي تحفظ للإعلام مصداقيته كسلطة رابعة في المجتمع..