شيء جميل وجريدة «الشعب» تحتفل بعيد ميلادها الـ 53 أن نقتفي آثار الذين مرّوا عبر أقسامها وبين دهاليز مطبعتها ليجعلوا صوتها يصدح في كل مكان ويحولوا عنوانها إلى مدرسة كبيرة تخرّجت منها أبرز الأقلام والكفاءات التي تبوأت ولازالت مسؤوليات عليا في أجهزة الدولة المختلفة، والجميل أيضا بهذه المناسبة أن نقف عند رسالة عميدة الجرائد الجزائرية، من خلال صفحاتها التي كانت دوما في الموعد مع الحدث تقدمه خبرا وتعالجه تحليلا بعيدا عن الإثارة التي كثيرا ما تكون أهدافها بعيدة كل البعد عن المهمة الاعلامية النبيلة.
ولعلّ من أبرز الصفحات في «الشعب» وأحد أهم ركائزها، صفحة «الدولي» أو العالم الذي تحمله الجريدة بين طياتها يوميا بكل ما يعيشه من هموم وأزمات من أقراح وأفراح.
«الدولي» هي صفحة تختزل العالم بأدق تفاصيل أحداثه اللامتناهية، تتابع أطوار الأزمات التي تنفجر والحروب والتي تندلع، تتفاعل مع مستجداتها وتطوراتها، وفي كثير من الأحيان يرفض الاعلامي بهذا القسم أن يقف موقف المتفرج، فتراه «يستل» قلمه محاولا من خلال تعليق أو مقال تصحيح هذه الفوضى الخلاقة التي جثمت على صدورنا نحن العرب والمسملين دون سوانا من شعوب المعمورة.
مهمة صعبة لكنها ممتعة
لا يبدو القسم الدولي محبذا لدى الاعلاميين، إذ نسجل عزوفا لدى أجيال الصحافيين الشباب عن الالتحاق به، ربما لمشقة العمل به وللأمانة فالمهمة في هذا القسم صعبة، حيث تتطلّب متابعة يومية للأحداث التي تتغير في كل لحظة، وقراءة متخصصة في حيثياتها وخلفياتها، كما تتطلب مستوى معرفيا كبيرا بالقضايا الدولية وقدرة فائقة على التحليل وعلى الكتابة لغة وتركيبا.
ورغم المشقة، فللعمل بالقسم الدولي متعة خاصة، إذ أنه يُشرّع لك الأبواب لتصول وتجول عبر ربوع العالم وأنت جالس في مكتبك، ومن خلال قراءاتك المختلفة يتعزّز رصيدك المعرفي ويرتقي زادك اللغوي والتحليلي والنتيجة أن مستواك يتطور بشكل يومي.
بين الأمس واليوم
لعلّني بعد أن أمضيت نصف عمري في القسم الدولي، يمكنني أن أقيم بعض المقارنة بين الأمس واليوم، فرغم أن المهمة هي نفسها لم تتغير، إلا أن الظروف المحيطة تغيرت إلى حدّ كبير، فقبل الانترنيت والفضائيات كانت مصادر المعلومة محدودة بشكل كبير ومحصورة في أشرطة الأخبار التي تأتينا من وكالات الأنباء العالمية المعروفة وتحديدا «وكالة الأنباء الفرنسية» و»رويتز» البريطانية عبر اشتراك من الجريدة.
وبالنظر إلى أن هذين المصدرين هما باللغة الفرنسية، فقد كان لزاما علينا ترجمة الخبر ومعالجته إعلاميا وتقديمه مقالا مكتمل الأركان للقارئ.
لقد كانت مهمتنا في القسم الدولي في عهد «التلكس» مزدوجة، مترجمين وإعلاميين، ورغم أن هذه الازدواجية كانت تنفّر الصحافي الجديد من الالتحاق بالقسم خاصة الذين لا يحسنون اللغة الفرنسية، إلا أنها في المقابل كانت مفيدة جدا، إذ بفضلها تعلمنا أبجدية الكتابة الصحفية، كما تعلمنا الترجمة الصحيحة خاصة وأننا كنا محاطين برئيس قسمنا السيد محمد العربي عبد الرحماني الذي أشرف على هذه المهمة ببراعة المتمكن من اللغات الأجنبية والنزيه في أداء واجبه المهني.
ولم يتوقف عملنا عن كتابة الأخبار حيث كنا نكلف بتغطية الندوات وبالخصوص لقاء الصحافة الذي كانت وزارة الخارجية تقيمه مساء كل أربعاء، إضافة إلى المهمات في الخارج التي يتعلم منها الصحافي الكثير.
من «التليكس» إلى «الأنترنيت»
رغم الامكانيات المحدودة، فقد كان عطاء الصحافي كبيرا، ورغبته في التعلّم لا يحدها حدود، إذ لم نكن نكتفي بترجمة الأخبار وتحويلها إلى مقالات، وإنما كنا نتنافس على كتابة العمود اليومي (ماوراء الأحداث) ونقف عند الأحداث بالتحليل في مقالات تصدر كل خميس.
من عهد «التلكس» إلى «الأنترنيت» مرت سنوات، تغيرت خلالها قيادات الجريدة ومقراتها، رحل كثير من أبنائها طوعا إلى مجالات عمل أخرى، وأجبر آخرون على مغادرتها قسرا، لكن الجريدة بقيت صامدة رائدة تواصل مهمتها التي دخلت عهد الرقمنة بما حملته من تقنيات سهلت إلى حدّ كبير من مهمة الصحافي، ففي القسم الدولي مثلا، لم نعد مجبرين على ترجمة الأخبار ولا البحث عنها بين ثنايا شريط «التليكس» فمواقع الأنترنيت المختلفة تمنحك كل ما تريد ومالا تريد، فقط يجب أن تكون بالكفاءة التي تساعدك على التمييز بين الغث والسمين ضمن الكمّ الهائل من الأخبار المتهاطلة، ولك القدرة على كتابتها وتحليلها، وهي المقدرة التي تكتسبها مع الأيام.
كما ساهمت وسائط الاتصال الحديثة في تقريب المسافات إذ بات بالإمكان الاتصال بالخبراء والمحللين ومحاورتهم حتى وإن كانوا في قارات أخرى.
الملحق الدبلوماسي
ما يمّيز القسم الدولي أنه لا يكتفي بتحرير الأخبار وإنما يبحث في خلفياتها وبين ثناياها من خلال حوارات ومقالات وتحاليل، وقد كان دوما للدولي ملاحق أسبوعية لهذا الغرض، وإن تغيّرت أسماؤها من الملف الدولي «فحصاد السياسة الدولية» إلى «الشعب الدبلوماسي» إلا أن محتواها وهدفها ظلّ واحدا وهو معالجة القضايا الدولية الساخنة بشكل أعمق وأبعد..
ولـ»الشعب الدبلوماسي» صدى طيّب لدى القارئ الذي يجد دوما في جريدة «الشعب» الأسلوب الموضوعي البعيد عن المزايدات والإثارة الفارغة كما أنه يجلب اهتمام السلك الدبلوماسي الخارجي في الجزائر، وكثيرا ما تلّقينا ثناءً من بعض السفراء على المعالجة النزيهة للقضايا العربية على وجه الخصوص.
« الدولي» باختصار هو العالم في صفحة يومية نحاول أن ننجزها بنزاهة وأمانة.