طباعة هذه الصفحة

المختصّون يؤكّدون دورها في تعزيز الهوية الوطنية

الأغنيـة التّراثية بالأوراس تتحــدّى النّسيـــان

باتنة: لموشي حمزة

يتذكّر أجدادنا بفخر كبير التضحيات الكبيرة التي قدّموها لنيل الاستقلال، ويعترفون بصعوبة ذلك لولا تضافر جهود جميع الجزائريين، حيث استغل المجاهدون في ظل شح الوسائل والأدوات الخاصة بالتواصل، الفن والأغاني بالتحديد لإيصال رسائلهم السرية إلى المجاهدين في الجبال أو إلى الأبطال المجنّدين خدمة للثورة المباركة في صفوف الاستعمار الفرنسي، حيث لعبت الأغاني الشعبية والثورية دورا بارزا في تأجيج مشاعر المجاهدين
ورفع معنوياتهم لمواصلة النضال، غير أنّ الواقع اليوم يؤكّد تراجعا كبيرا في ربط أجيال الحاضر بماضيها الفني المشرف العريق، حسب ما أكده لجريدة “الشعب” الفنان الشعبي محمد أونيسي.
 فعندما نتحدث عن الثقافة الشعبية الممثلة في الأغنية الوطنية والثورية مثلا، لا بد لنا - حسب الفنان محمد أونيسي - أن نعيد الاعتبار لمركباتها المختلفة من تراث شعبي وقيم وأخلاق وعادات وتقاليد وأنماط سلوكية ورموز وإبداع، تعمل على ترسيخ الطابع الوطني والشعبي الذي نبغي تدوينه وتأصيله في نفوس أجيالنا وعقولهم، حتى لا ينصهر ذوقهم الفني إلى فن “الفاست فوود”.
تعتبر الأغنية الشاوية من بين أعرق الأغاني الجزائرية، وهي تمثل موروثا حضاريا كبيرا لعب دورا مهما قبل، أثناء وبعد الثورة التحريرية المباركة، حيث كانت ولا زالت مصدر فخر كل الجزائريين وسكان منطقة الاوراس خاصة.
ويعتبر التراث الشعبي بالأوراس مكونا أساسيا من مكونات الثقافة الشعبية بالجزائر، ودوره الأساسي هو صياغة الشخصية الوطنية وبلورة الهوية كذلك، ولكن تمر السنين ويشهد قطاع الفن والثقافة بالجزائر تطورا ملحوظا بفضل مجهودات الفنانين والدعم الذي تقدمه الدولة للنهوض بالقطاع، وجعله يتماشى مع التطورات الكبيرة التي شهدتها الجزائر في الـ 50 سنة الماضية، غير أن نقل هذا الموروث للأجيال الحالية ما يزال يواجه الكثير من التحديات.
ويستحضر محدثنا العديد من الأغاني الثورية التي ما تزال في وجدان الجزائريين على سبيل المثال:
يا ربّي سيدي واش أعملت أن  ووليدي.......أنربي أنربي فيه وفي الأخير أدّاتو الرومية
وجاءت هذه الأغنية عندما بدأ الاستعمار الفرنسي يجنّد إجباريا الجزائريين، وتعبّر عن “حرقة” الأم لفقدانها ولدها،
ونجد أيضا:
زوج ذراري طلعوا لجبال........هزّوا السبتة زادو الرفال......ضربوا ضربة جابوا رشار...يا حمودي نجمة وهلال
وهي أغنية في الترغيب على الجهاد والالتحاق بالجبل لاستعادة الكرامة والحرية.
ونجد أيضا:
ماينا للرجال ماينا ليهم..إيباتوا فالجبال البرد عليهم..الفوشي فالأكتاف العوين في يديهم
بسم الله وبديت بالذكرى نشعر...ولشفت بالعين نعبرو باللسان
أعظم مظاهرة في حداش ديسمبر..وخرج شعب الجزائر رجال ونسوان
في مركز أولاد سلام هجموا على العسكر...لعدو ضرب بالرشاش وزاد بالطيران
القصبة والبندير سلاح الأغنية الشّاوية في اختراق عقل وقلب المستمع
ومعروف أنّ الأغنية الشاوية عرفت وما زالت نقلة نوعية في الألحان والكلمات وحتى طريقة الأداء، حسب ما أكده لجريدة “الشعب” الأستاذ محمد أونيسي، الباحث والمختص في الأغنية الاوراسية، مؤكدا أن الأغنية الشاوية في الطابع السراوي ما تزال تعتمد على “القصبة” و«البندير” و«الزرنة”.
ورغم التطور الإيجابي والكبير الذي عرفته مع العمالقة كفرقة “باندو” بأريس المعروفة وطنيا، والفنان محمد سمير، يحيى الهادي، حميد سرير، بلحمرة قدور، الأستاذ محمود شريف، قندو ، كمال شيخي، كمال قوراري، هي الآن تعاني كون الفن بصفة عامة أصبح مفتوحا على مصراعيه لمن هبّ ودبّ، وهو السبب في الوضعية المتعفّنة التي باتت تعيشها الساحة الفنية اليوم، بعد أن فقدت بريقها، و في ظل تحوّل الغناء إلى تجارة، همّ الفنان الوحيد منها هو تحقيق الربح، وأؤكّد أنّ أغلب الفنانين الشباب لم يدرسوا الموسيقى وليس لديهم تكوينا صحيحا يمكنهم من التوفيق بين القديم والحديث، نجد الكثير من الفنانين الذين يدّعون أنهم يؤدون الأغنية الشاوية قد تخلوا عن البندير وعوّضوه بـ ‘’السانتي’’، وهذا أمر مرفوض لأن الإيقاع الشاوي الصحيح والأصيل لا نحصل عليه إلا باستعمال البندير، وهنا يكمن التأثير السلبي في استعمال الآلات الموسيقية الحديثة
على الأغنية الشاوية الحرة، ولكن ذكاء الفنان وعشقه للأغنية الشاوية يجعله يستغل الآلات الحديثة في صناعة الأغنية كليفيلوا، الناي، لكوردي، القانون، الكلافي، سانتتزور...في إنتاج فن راقي بروح شاوية أصيلة.

توظيف التّراث الفنّي ضروري لتعزيز الهوية الوطنية

لا يختلف اثنان على الدور الكبير الذي يلعبه التراث الشعبي في صياغة الشخصية وبلورة الهوية والحفاظ على تواصل الأجيال حسب الدكتور طارق ثابت، رئيس جمعية “شروق الثقافية” لكل شعب من الشعوب، بل هو المركب الأول والأساسي لذلك، ولذا لا بد من توظيف هذا التراث لتعزيز هويتنا الوطنية فهو يؤكد في لقائه مع جريدة “الشعب” على أن للأغنية الشعبية والوطنية صفات كثيرة على غرار أنها شعرية، شعبية، تُغَنّى، مجهولة الأصل، شائعة في المجتمع، وجماعية، فهي تعبر أصدق تعبير عن وجدان ورغبات الجزائريين الذين تغنوا بها في فترات حاسمة في تاريخ الجزائر السعيدة والحزينة، ومن هنا تصبح الأغنية الشعبية جزءاً مهما من ثقافة الشعب ومرآة صادقة لهذه الثقافة، بحيث نستطيع أن ندرس عاداته وتقاليده وضروب تفكيره ومختلف تطلعاته من خلال أغانيه.
يجب عدم الفصل بين التراث الفني والتاريخ، فلا بد من الوعي بهما معا ـ يضيف المتحدث ـ فالوعي بالتراث بدون الوعي بالتاريخ معناه الجمود، والوعي بالتاريخ بدون الوعي بالتراث هو قطيعة معرفية بتاريخية الإنسان، وفي الحالتين يفقد كل منهما أهميته.
وهنا لا بد من التأكيد على أنه رغم الجهود المبذولة الشخصية والرسمية في جمع تراثنا والحفاظ عليه ونقله للأجيال، ما زال الأمر يحتاج لتضافر جهود الجميع، لأن الجهود الحالية غالبيتها جهود فردية، في الوقت الذي أصبح
لابد من خلق مؤسسات رسمية وشعبية لتتولى هذا الأمر، وبشكل موضوعي جادّ من أجل توظيف التراث بشكل صحيح وفعّال في خدمة الأمة وقضاياها، فالتراث لا يمكن أن يعني الماضي فقط، بل هو الموروث الذي يصل الماضي بالحاضر والمستقبل، وذلك من خلال الأجيال، فلابد من وضع برامج دراسية تعليمية خاصة بتراثنا الفني، في كل مراحل التعليم من الابتدائي حتى الجامعي، يشرف على إعدادها كوادر مهنية مطلعة بعمق على التراث، وتدرك أهمية تدوينه في عقول أبنائنا ونفوسهم، لما له من أهمية في تهذيب النفوس وتعزيز الشعور بالانتماء.