من غرائب الصدف أن يرحل أبو النضال الفلسطيني ياسر عرفات “أبو عمار” في نوفمبر، الذي نعرف أن اكبر القرارات وأكثرها قوة وسندا للقضية الفلسطينية تمت خلال هذا الشهر إذا استثنيا وعد بلفور المشؤوم، حدث في هذا الشهر استشهاد أبوعمار يوم 11 نوفمبر 2004، والإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عاصمتها القدس من الجزائر في 15 نوفمبر 1988. وتقرر جعل 29 نوفمبر محطة للتضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني دون نسيان اتخاذ من هذا التاريخ يوما للإعلان عن الدولة الفلسطينية غير المعترف بها عام 2012.
شاءت الصدف أن يرحل ابوعمار خلال شهر نوفمبر وعمره 75 سنة وهو يقاوم طريح الفراش المرض بكلامار إحدى ضواحي باريس حيث كان يعالج في مستشفى بيرسي منذ 29 اكتوبر2004.رحل بعد معاناة مع المرض الذي يبقى لغزا محيرا ولم يفصل التحقيق الطبيي الذي تولته فرنسا في هذا الأمر المحير وبقي ما تردده أوساط والشارع، بان الرئيس قد تعرض لتسمم من قبل جهاز الموساد الذي ظل على مدار السنين يطارده اعتقادا خاطئا بان استشاده ينهي النضال ويغيير مجرى الصراع في الشرق الأوسط باتجاه الاستسلام للكيان الصهيوني.
كم كان الإعلان عن وفاة أبو عمار من قبل الطيب عبد الرحيم الأمين العام صباح الخميس 11 نوفمبر 2004 على الانفس. كم كان ذلك اليوم ثقيلا على متتبع الحدث عبر الفضائيات المساند لقضية العرب الأولى، المتطلع لمعرفة تفاصيل التراجيديا التي أعلن عنها الطيب عبد الرحيم وسط حزن وكآبة لا توصف: “تنعي القيادة الفلسطينية إلى شعبنا الفلسطيني وامتنا العربية والإنسانية جمعاء القائد والمعلم ابن فلسطين ورمزها صانع حركتها الوطنية المعاصرة وبطل كل معاركها من أجل الحرية والاستقلال والدنا ورائدنا وحامل رايتنا نحو المستقبل الجديد الاخ الرئيس الشهيد ياسر عرفات الذي انتقل الى رحمة ربه راضيا مرضيا في الساعة الرابعة والنصف من صبيحة الخميس 11 نوفمبر 2004”.
مثلما رفع الشعار بداية النضال “الاستقلال أو الاستشهاد” بقي ابو عمار وفيا لهذه العبارة التي رددها بلا توقف على الملأ رافضا الاستسلام للعدو الذي ظل يحاصره مدة ثلاث سنوات وقطع عنه كل شيء مؤكدا انه مقاوم من طين آخر. وثوري لا يقبل التنازل قيد أنملة عن الحرية والانعتاق.
برز أبو عمار قائدا محنكا وثوريا ملتزما مجسدا على مدار أكثر من نصف قرن مبدأ وحدة الكلمة والصف وإعلاء صوت المقاومة على كل فصيل. وهو الذي ردد من قمة الانتفاضة بالجزائر “لا صوت يعلى على صوت الانتفاضة”. أطلقها مدوية من الجزائر التي كانت بالنسبة إليه و القادة الفلسطينيين الآخرين الصدر الحنون والمحطة المفصلية لكل خلاف واختلاف. أطلقها بأعلى الصوت وهو يردد على الحضور بعاصمة الجزائر الإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة يوم 15 نوفمبر 1988.”
رحل ابو عمار ولا زالت العبارات التي رددها دوما اثناء الصعاب والتحديات مثل “يا جبل ما يهزك ريح”. رحل وقد اوصل صدى النضال الفلسطيني واسمع صوت البندقية المدوية كافة أنحاء المعمورة منتزعا الاعتراف من غالبيه الدول والمنظمات. وكان رفع العلم على مقر الأمم المتحدة هذا العام امتداد لنضال فلسطيني وضع أسسه ابو عمار ومنحه قوة واعتبارا اعتماد على قوة السلاح ودبلوماسية اخترقت الحواجز والممنوعات وأوصلت القضية العادلة إلى منهاتن.
ضحى أبو عمار بكل شيء، وتمكن من كسب التأييد الدولي الواسع لإقامة الدولة الفلسطينية عاصمتها القدس الشريف التي امل دوما أن يقيم الصلاة فيها. رحل حاملا معه سر وفاته بعد تخلي النيابة العامة الفرنسية بصفة مفاجئة عن غلق ملف التحقيق في وفاة ياسر عرفات. نتذكر خرجة المدعي العام الفرنسي الذي كان مسؤولا عن التحقيق وهو يتلو على الإعلام بيان إغلاق التحقيق في قضية الاشتباه في وفاة ابو عمار مسموما بحجة عدم صدور قرار الاتهام. وهي حجة غير مؤسسة بطبيعة الحال ولم تاخذ في الحسبان ما تقدمت به سهى عرفات زوجة الشهيد من شكوى بناء على اكتشاف اثار البولونيوم على الأغراض الشخصية لفقيد الثورة الفلسطينية.
لكن ضغط اللوبي الصهيوني كان الأقوى وكانت له كلمة الفصل في المسالة والاعلى على فرنسا التي وصفت نفسها دوما على انها دولة الديمقراطية والعدالة والمساواة.