لست مطلعا على كل الكتابات الادبية، ولكن أمثل واحدا من هؤلاء .
تحدث الكاتب عمار يزلي في حوار لـ«الشعب” عن تجربته ككاتب وأديب وصحفي ساخر مشيرا في ذلك لحبه للسخرية والتلاعب بها وولعه بقلب الألفاظ التي تعطي دلالات معاكسة، هذا ما جعله يتابع هذه التجربة رغبة وحبا منه في السخرية لأنها كانت بالنسبة له ليس فقط خيارا وإنما تنفسا وطريقة عيش.
ما واقع الأدب الساخر بالجزائر؟
ـ الأدب الساخر في الجزائر غير موجود كأدب خاص أو ككتابات منفردة بالسخرية، إلا فيما خلا تجارب قليلة وقصيرة أحيانا. وجدنا هذا عند أحمد رضا حوحو فيما يسمى بالمقال القصصي (الساخر) وأيضا أديب جمعية العلماء الكبير الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وكان هذا الأدب مخصصا للنشر الصحفي بنكهة أدبية. لكن السخرية كفن وكأدب وككتابة موجود منذ التاريخ القديم.. منذ أول رواية عالمية من الجزائري في رواية أبوليوس “الحمار الذهبي” في العهد الروماني. ثم وجدت تباعا في القصة والرواية والشعر (التهكم، الهجاء، الفكاهة) عند معظم الأدباء الجزائريين المحدثين ومن أمثالهم محمد ديب، كاتب ياسين، الطاهر وطار، بوجدرة وغيرهم كثيرون، حتى إننا لا نكاد نقصي أحدا من الروائيين أدخل أسلوب الهزل والسخرية والفكاهة والنكتة في السرد الروائي والقصصي والشعري. وقد نشرت قبل سنة كتابا في هذا الشأن بعنوان “السخرية والمقاومة الثقافية للاحتلال” يتضمن جزء من هذه الأعمال الروائية والشعرية ذات النكهة الساخرة في الجزائر.
من جهتي، أقول ولا أدعي أني منفرد في هذه الناحية، أني ككاتب وأديب وصحفي ساخر، شبه متخصص في الكتابات الساخرة أدبيا وصحفيا وأكاديميا. يعود هذا إلى أول عهدي لي بالكتابة القصصية، حيث كنت نشرت وأنا تلميذ في السنة ثانية ثانوي علمي أول تجربة أدبية لي في مجال القصة، حيث نشرت أقصوصة في مجلة آمال (مجلة الأدباء الشباب وقتها والتي تخرج منها جيل السبعينات كلهم)، العدد 85 سنة 1974، وكانت قصة ساخرة، كوني ومنذ نشأتي، كنت أحب السخرية ومولعا بقلب الألفاظ لتعطي دلالات معاكسة والتلاعب بها هذا المنحى، جعلني أتابع هذه التجربة رغبة وحبا مني في السخرية لأنها كانت بالنسبة لي ليس فقط خيارا وإنما تنفسا وطريقة عيش. فأنا أسخر من الواقع، لكن ليس بغرض الإساءة للأشخاص بعينهم إلا فيما يقومون به من مفارقات. فالمفارقة غير التي تصنع السخرية والنكتة.
على هذا المنوال، سوف أكتب مجمل القصص القصيرة التي نشرتها في مجموعتي القصصية الثانية “البصمات” (1986)، وحتى بعض القصص في مجموعتي الأولى “ما بعد الطوفان” (1984) والتي كانت تجربتي الأولى في القصة. نجد هذا أكثر جلاء في المجموعة الثالثة “ماء أحلى الرجوع إليه” (1995)، وأيضا في مسرحيتي “منامات الوهراني” (1991) للمسرح الجهوي بوهران، وفي باقي معظم الأعمال التي كتبتها للتلفزيون من تعاليق وسيناريوهات أفلام تلفزيونية (فيلم “أنا شكون هو” الذي هو أصلا كتبته كنص مسرحي أقتبس منه زكريا فيلما تلفزيونيا بنفس العنوان) وأيضا مسلسل “زوجة لزوجي” للتلفزة الجزائرية، الذي سيعرض ربما في شهر رمضان هذا).
هذا في مجال الأدب. لهذا أعتبر أني قد أكون الوحيد حاليا كأديب ساخر. لست مطلعا على كل الكتابات الروائية والقصصية، ولكن أزعم أني أمثل واحدا من هؤلاء على الأقل.
في مجال الكتابات غير الأدبية ومنها الصحفية، هناك الكثير ممن يكتبون بطريقة ساخرة وتهكمية وفكاهية وهم أصحاب أعمدة مشهورين ومعروفين لا أريد أن أعرض أسماءهم لأنها أسماء كبيرة ولها كل التقدير والاحترام... القدماء منهم والأقلام الجديدة المتميزة.
فيما تبرز أهمية الكتابة الساخرة وعلى ما تعتمد؟
الكتابة الساخرة، ليست مهمة فحسب بالنسبة للكاتب، بل ضرورية إن لم أقل حتمية ومفصلية. هذا بالنسبة للمبدع، لكن إذا قلت لي ما أهميتها لدى القارئ، أقول لك أنها متنفس أيضا، وهي تعبير رمزي لما يضيق به صدر القارئ ولا يتمكن من الإفصاح عنه. ففي نهاية المطاف، السخرية هي تنفيس وتفريغ لشحن ومكبوتات سياسية واجتماعية لا يجد المبدع أو المستهلك كيف يخرجها ويعبر عنها. فهي مثل الدواء المسكن الذي يهدئ النفس بمجرد إخراج الألم، حتى ولو كان يعلم أن هذا المرض مستعصي. حقنة مورفين في الجسد من أجل التخلص مؤقتا من الاحتقان الداخلي حفاظا على التوازن العقلي لدى المبدع. فالسخرية مثل النكتة، تلعب وظيفة المتعة والفائدة معا. متعة، لأنها تضحك وفائدة لأنها تبكي. إنها تعلم أشياء وتقول لك أشياء، بالمقابل، إنها تخفف عنك ألم الأشياء المستعصية هذه. لهذا نرى المواطن كلما ضاق صدره كثر تنكيته! المجتمع المصري مثلا، لكن أيضا المجتمع الجزائري، صار ينكث كثيرا. كنا لا نضحك، لأننا كنا لازلنا نبكي شهداءنا، جرحانا، مفقودينا، ديارنا المدمرة، حقولنا المسولة، المهرجين من عائلاتنا والمشردين من أحبتنا، كنا نخرج من مطحنة حربية. لكن بعد 60 سنة من الاستقلال، صار الجزائري يسخر ويتهكم وينكت و«يطنز” ويضحك.. وانظروا ما ينشر على اليوتوب وفي غرف الدردشات..! نفهم من هذا، بأن الجزائري يعيش حالة احتقان اجتماع تدفعه لإسكات الاحتقان الداخلي بحقن “مورفين” السخرية والتنكيت والضحك من الآخريين من حوله ولكن الضحك من نفسه أيضا. فمن الهم ما يضحك كما يقال.(أنظروا انتشار المخدرات وحبوب الهلوسة والمشروبات الكحولية، كل هذا عنوان على محاولة الهروب من واقع اجتماعي مرفوض اجتماعيا، والسخرية والتفكه والتنكيت، جزء من هذه الممارسة الانفلاتية من الواقع، إلا أنها أكثر إيجابية من باقي المواد المخدرة. فالسخرية مقاومة وليس هروبا. إنها تدفع إلى البقاء لا إلى الهروب والزوال.
هل تجدون بأن هذا النوع من الكتابات يتقبله المجتمع أم مجرد نكتة بالنسبة له؟
القارئ ذكي ويقرأ حتى ما بين السطور، لهذا لا أعقتد أن القارئ (خاصة في مجال السخرية في المقالات الصحفية والأعمدة)، إنما يعتبر هذه السخرية مجرد نكتة عابرة أتحدث هنا خاصة عما أكتب في أعمدتي (سيرك عمار، منامات عمار يزلي، منشاريات .. وباقي الأعمدة التي كنت أنشرها سابقا)، أنا لا أكتب من أجل الاضحاك، والقارئ يفهم هذا، بهذا المعنى أنا لست كاتبا فكاهيا! (إذا عرّفنا الفكاهة على أن أسلوبا الغرض منه الاضحاك وإدخال البهجة والفرح، باعتبار الفكاهة مصدرها “الفاكهة” والتفكه) فأنا كاتب ساخر: والسخرية تفيد معنى آخر غير الاضحاك، فهي تفيد أيضا الإيلام والتأذية والوخز والابكاء! فهي عنوان للبناء والضحك من نفس الشيء! عمل ثنائى، أو كما يمكن أن أعبر عنه “اثنان في واحد” مثل الشامبوان! على هذا الأساس، القارئ يفهم ما أقول، ويعي ما أريد أن أقوله هناك رسائل تضمينية في النص الساخر، وعليه، فأنا أكتب بمستويات ثلاث: المستوى الأولى المبسط وقد يقرؤه قارئ عادي بمستوى ثقافي بسيط ويجد فيها متعة الضحك وفقط، وهذاصنف أول، الصنف الثاني يتمثل في القراءة ما بين السطور، أي البعد الثالث في القراءة وهنا يتطلّب من القارئ أن يكون له مستوى ثقافيا يسمح به من معرفة الإحالات والدلالات السيميائية والروابط الدلالية الموظفة والغرض منها وطريقة توظيفها أما المستوى الثالث فهو مستوى أعلى، مستوى أرى فيها قراءة نخبوية، لا يقرأ تفاصيلها ودلالتها إلا المتمكن من فك الشيفرات التي يتضمنها النص أحيانا، لهذا أجد كثيرا من طلابي في الدكتورا هو الماجستير والماستر يقولون لي أحيانا أنهم قرؤوا عمودي كذا .. ضحكوا واستمتعوا، لكن لم يفهموا بعض الأمور، رغم أن لغتها بسيطة وأحيانا بالدارجة، مع أنهم يفهمون مقالات أخرى باللغة الفصحى لكتاب آخرين كما يقولون وهذا معناه، أن اللغة ليست هي المقياس أو المحدد أو الغاية في حدّ ذاتها في التوصيل، بل الدلالات لهذا أنا استعمل اللغة الدارجة أحيانا لكي أكثف من الصورة والدلالة التي أريد ان أرمي إليها فالكلمة في العامية أحيانا تفوق ثقلا ومدلولا خمس جمل أو أكثر.
أعتقد إجمالا أن القارئ لا يعتبر المقال والعمود الساخر والأدب الساخر مجرد نكتة، بل رسالة قوية “باطنه في الضحك وباطنه من قبله البكاء”.
ما هو واقع الكتابة الساخرة في الجزائر وفي الصحافة الجزائرية؟ من هم أشهر من أثر فيكم من هذا النوع من الكتابة؟
سؤال جميل، أول من أثر في شكل كبير، لاسيما مع بدايتي القصصية الساخرة هو الأديب عبد القادر المازني وخاصة ماقرأته له عن “السيارة الملعونة” بعدها صرت أقرأ كثيرا لكبار الأدباء الساخرين من أمثال “جورج برناد شو”، والشاعر الأمريكي “مارك توين” كما قرأت بطبيعة الحال رائعة ميغويل دي سيرفانتس “دون كيخوتي”، وأعجبت بكتابات الأديب التشيكي “ياروسلاف هاشك” وكثيرا من الأدباء في أمريكا اللاتينية “كارلوس فوينتس”، “خوخي لويس بورخيس”، وطبعا العالمي الراحل “غارسيا ماركيز” وغيرهم لكن في مجال السخرية، كنت ميالا إلى هؤلاء والذين استهوتني كتاباتهم لما فيها من مفارقات وتصوير مبك ومضحك نتيجة لعوامل الاحباط والقهر، لكن أيضا نتيجة للرغبة في البقاء والمقاومة ولو بأبسط شيء.. الضحك والتنكيت والسخرية..