لا تزال إشكالية الأمن الغذائي في صدارة الانشغالات الوطنية الكبرى باعتباره جوهر الأمن الشامل وضمانة تحصين المكاسب. ولذلك يطرح السؤال في كل مرة بشأن السياسة الملائمة لتحقيق الأمن الغذائي حاليا، ولكن في أفاق سنة 2025، في ظلّ التقلبات التي تعرفها الأسواق العالمية للغذاء بتأثير من تداعيات أزمة أسواق المحروقات ومصادر الطاقة بما فيها المياه. وعشية اليوم العالمي للغذاء الموافق لـ 16 أكتوبر يجيب محمد حشماوي دكتور في الاقتصاد عن تساؤلات تشمل جوانب الأمن الغذائي من خلال تشخيص التحديات والرهانات ويبرز أهم العناصر لتحقيق مسببات الأمن الغذائي في ظلّ أزمة الأسعار في الأسواق العالمية واضعا الفلاحة بمثابة القاطرة التي تجرّ باقي القطاعات التي تتحمّل واجب انجاز وتجسيد مكونات الأمن الغذائي في العشريات القادمة. وفيما يلي مضمون الحوار:
الشعب الاقتصادي: ما هي معالم الأمن الغذائي من حيث التحديات والرهانات؟.
الدكتور محمد حشماوي: الأمن الغذائي مصطلح يُقصد منه مدى قدرة بلد على تلبية احتياجاته من الغذاء الأساسي من إنتاجه الخاص أو شرائه من الخارج مهما كانت الظروف والأسعار وبشكل منتظم ويمكن التمييز بين الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي، فالإكتفاء الذاتي يعني إنتاج البلد لكل ما تحتاجه من غذاء بدون اللجوء إلى الخارج، أما الأمن الغذائي فهو القدرة على توفير هذه الاحتياجات محليا وبالتعامل مع الخارج. ويعتمد على ثلاثة مرتكزات: وفرة السلع الغذائية، وجود هذه السلع بشكل منتظم ودائم وأن تكون أسعار هذه السلع في متناول المواطن.
ولقد أصبح هذا الأمن الغذائي غير مكفول للكثير من الدول وبالأخص تلك الفقيرة التي تعتمد كثيرا على الأمطار في إنتاج غذائها وغير قادرة على اقتنائه من الأسواق الخارجية، فتزايد أسعار السلع الغذائية في العالم وصعوبة الإنتاج بسبب التغيّر المناخي وقلّة المياه وضعف الإنتاجية، حوّل الغذاء من مشكلة إلى أزمة فارتفع عدد الجائعين في العالم ليصل إلى مليار نسمة ووصل إنتاج الغذاء إلى مرحلة حرجة دفع بمنظمة “فاو” FAO
إلى دقّ ناقوس الخطر والدعوة لزيادة إنتاج الغذاء بـ ٧٠٪ في أفق 2050 لتغطية احتياجات الناس.
وهكذا، أصبح الأمن الغذائي من التحديات والرهانات الكبرى في العالم، فقد تحوّل الأمن الغذائي إلى هاجس أول للدول النامية في ظلّ الرهانات الاقتصادية والسياسية والأمنية العالمية الراهنة، وأصبح بمثابة التحدي الأكبر لهذه الدول في ظلّ ارتفاع أسعار السلع الغذائية وضعف الإنتاج والإنتاجية بها بفعل استنزاف الأراضي الزراعية والكوارث الطبيعية، وارتفاع عدد السكان وغياب الأمن والسلم بسبب الحروب والنزاعات، ورفع هذا التحدّي لا يقتصر فقط على إرادة هذه الدول لأن إرادتها وقدرتها غير كافية لتحقيق أمنها الغذائي.
فتحقيق أمنها الغذائي ارتبط ارتباطا وثيقا لإرادة الدول المتقدمة المنتج الرئيسي لهذه السلع وبكميات كافية لتغطية الاحتياجات الأساسية لهذه الدول. فالدول المتقدمة عوض مساعدة هذه الدول على سدّ حاجياتها من الغذاء أصبحت تستعمل الغذاء كسلاح لابتزاز الدول الفقيرة اقتصاديا وسياسيا وإلا كيف يفسّر تحويل كميات كبيرة من الإنتاج الغذائي إلى إنتاج الوقود الحيوي، وهدر ثلث الأغذية المنتجة عالميا بدل توجيهها وبيعها بأسعار معقولة للدول التي تعاني من الجوع، فهذه الخسارة الاقتصادية والتي قدرتها منظمة الفار FAO بـ 750 مليار دولار كان بإمكانها تغذية الملايين الجائعة بإفريقيا وأمريكا اللاتينية FAO.
توجد إشكالية الأمن الغذائي في صميم السياسة الفلاحية والصناعة الغذائية للبلدان النامية منها الجزائر، ما هي العناصر الجوهرية للنهوض بالقطاعات المعنية؟.
سبق وأن حذّرت عدة دراسات حول السياسة الزراعية والأمن الغذائي من مواجهة الجزائر لتحديات صعبة لضمان أمنها الغذائي في ظلّ تبعيتها الغذائية للخارج وضعف إنتاجها المحلي بسبب ضعف نسبة الأراضي الزراعية الموجهة لإنتاج الغذاء ومشكلة المياه.
ولتحقيق أمنها الغذائي على الجزائر رفع تحديات كبيرة منها:
ـ تحدّي المياه الذي يُعدّ من المحددات الأساسية للأمن الغذائي.
ـ تحدّي البيئة محاربة الأنشطة المعادية للبيئة للحفاظ على الموارد الزراعية والطبيعة.
ـ التحكّم في النمو الديمغرافي بسبب العلاقة بين معدلات النمو الديمغرافي والنمو الاقتصادي وتأثيراتها على الأمن الغذائي.
ـ تطوير وتحديث القطاع الزراعي أفقيا وعموديا والقطاع ذات الصلة.
ـ محاربة التبذير بالتحكم في أنماط الاستهلاك وكفاءة توزيع السلع الغذائية.
ـ تحسيس الرأي العام حول قضايا الأمن الغذائي.
رُصدت موارد مالية هائلة وإمكانيات كبيرة وخاضت تجارب عديدة، لماذا لا يزال هاجس الأمن الغذائي كالشبح الذي يطارد التنمية؟.
تعاني الجزائر على غرار الكثير من الدول من فجوة غذائية مافتئت تتزايد من سنة إلى أخرى، وما ارتفاع فاتورة الواردات الغذائية التي فاقت 10 مليار دولار إلا دليلا على هذا الاتجاه التصاعدي لهذه الفجوة وسحب بعض الدراسات، فإن الجزائر تواجه صعوبات كبيرة للحدّ من هذه الفجوة في ظلّ الحفاظ على أسعار النفط وغياب مؤشرات معاودة ارتفاعه في المدى القريب ووعيا منها لتحدي الأمن الغذائي وما يشكّله من تهديد لأمنها السياسي وقرارها الوطني، وأولت الجزائر أهمية كبرى لأمنها الغذائي من خلال تخصيص٢٠٠ مليار دج لقطاع الفلاحة للخماسي ٢٠٠٩ - ٢٠١٤ و٣٠٠ مليار دج للخماسي ٢٠١٥ ، ٢٠١٩ بحيث تعكس هذه الميزانية المخصصة للقطاع الفلاحي إرادة السلطات الجزائرية في العمل من أجل تحقيق الأمن الغذائي.
ولتحقيق هذا الأمن، اتخذت الجزائر عدة إجراءات لزيادة الإنتاج كإدخال تقنيات جديدة فيما يخص الري والمكننة والبذور واستخدام الأسمدة وتكوين الأطر الفلاحية وتنظيم القطاع الزراعي بشكل يستجيب لاحتياجات السوق.
ما دور الإستراتيجية الغذائية والصناعة التحويلية في التصور الشامل للأمن الغذائي، ومن هو مؤهّل لرسم هذا التصور حتى لا يبقى شعارا؟
في هذا الإطار، عملت الجزائر على تحسين تطوير القطاع ومرافقة مهنية من خلال تبني قانون التوجيه الفلاحي وقانون ١٠ . ٠٣ المتعلق بتنظيم العقار الفلاحي والذي يهدف إلى تأمين وتثبيت مستمر للفلاّح، وإلى جانب هذا حُظي التكوين بأهمية بالغة بكونه يساهم في تحسين الإنتاج والانتاجية ويتعلق الأمر بتطوير البحث لتعزيز القدرات المعرفية والتقنية للعاملين في الفلاحة وجعلهم يتحكمون في تقنيات الإنتاج الحديثة وزيادة كفاءاتهم في المجالات المختلفة المرتبطة بالقطاع.
وتعرف الجزائر عجزا ملحوظا في إنتاج السلع الغذائية بشكل عام والسلع ذات الاستهلاك الواسع بالحبوب والحليب واللّحوم الحمراء بشكل خاص ولمواجهة هذه الوضعية في ظلّ التقلبات المناخية وانخفاض القدرة على الاستيراد بسبب انخفاض الإيرادات من العملة الأجنبية. على الجزائر تبنّي رؤية واضحة تجعل من قطاع الفلاحة خيارا استراتيجيا ضمن إستراتيجية شاملة للتنمية المستدامة، فتطوير هذا القطاع أضحى مسألة جذرية لمكانته الاقتصادية والاجتماعية من حيث مساهمة في الناتج الداخلي الخام واستيعابه لليد العاملة وقدرته على المساهمة بشكل كبير في تحقيق الزمن الغذائي وتحريك عجلة التنمية.
وهذا التطوير والتحديث لا يتأتّى إلا بتحديث الإدارة الفلاحية والمرافقة بوضع الآليات المناسبة لتنظيم السوق وتشجيع المنتخبين وتعزيز الاستثمار العام وتحرير الاستثمار الخاص في هذا المجال وإطلاق عمليات الإدماج والتكامل ما بين القطاعات المختلفة وانتعاش الانتاج الفلاحي يمرّ بالضرورة أيضا بتطوير الصناعة بشكل عام والصناعات التحويلية والغذائية بشكل خاص لما لها من انعكاسات ايجابية قبلية وبعدية على قطاع الفلاحة.