صدر التّقرير السّنوي طبعة 2014 للجنة الوطنية الاستشارية لترقية حقوق الإنسان وحمايتها التي يترأّسها السيد فاروق قسنطيني في 318 صفحة، تضمّن أبوابا وفصولا وأقساما تعني بـ “حالة حقوق الإنسان في الجزائر” وفق مقاربة شاملة تراعي المبادئ الأساسية للحياة التي تتفرّع منها باقي القيم الأخرى، ولا يتعلّق الأمر أبدا بإضفاء تلك الصّبغة السياسية والمسحة الإيديولوجية على هذا المفهوم، وإنما المسعى هو إخراجه من هذه “الشرنقة” وجعله فضاء لتوجّهات إنسانية يلمسها دائما في يومياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كل هذا الكم الهائل له امتدادات في التّوافق والتّطابق مع الأبعاد الكامنة في القانون الإنساني الدولي.
ويصادف هذا “المولود” الرد المفحم لوزارة الشؤون الخارجية الجزائرية على الوثيقة المعنونة “تقرير عن وضعية حقوق الإنسان في العالم ٢٠١٤” لكتابة الدولة الأمريكية، واصفة إيّاها بـ “التوجه البيروقراطي يميل إلى استنساخ آلي لصور نمطية وتقييمات مغرضة، واستنتاجات مفرطة في التبسيط ومراجع بالية.
واستنادا إلى مصادر إعلامية فإنّ معدّي هذا التّقرير اعتمدوا في الصّياغة على معطيات تعود إلى فترة التّسعينات، ولم يطرأ أي تغيير على رؤية هؤلاء تجاه حقوق الإنسان في الجزائر بالرغم من الإصلاحات العميقة التي مسّت قطاع العدالة منذ أن فتحت هذه الورشة في ١٩٩٩ إلى غاية يومنا هذا، والتي توجّهت إلى إحداث ثورة في النّصوص التي تكفل حقوق الإنسان كالحق في الدفاع والتّخفيف من الإفراط في الحبس الإحتياطي، وتوسيع قاعات السّجون وفق المقاييس الدولية، ناهيك عن الحق في الإضراب، والممارسة النقابية والتجمع في إطار القانون وحرية الصحافة.
كل هذه الإنجازات التي يفتخر بها الجزائريون في فترة قياسية لم تشفع لهؤلاء، الذين للأسف يتلقّون من أشخاص هنا من الجزائر تقارير كاذبة مطعون فيها لا أساس لها من الصحة، يتعاملون مع من يسمّون أنفسهم بالمنظّمات غير الحكومية، لا يكتفون بهذا بل يوميا يشتمون الناس عبر مواقع الشبكة العنكبوتية، ولا يستحون في فعل ذلك، وهذا بعبارات نابية وغير لائقة.
ونتساءل هنا أي مرجعية استند إليها هذا التقرير الصادر عن الخارجية الأمريكية؟ لا يعتقد هؤلاء بأن الجزائر تسكت عن ذلك بل ردّت الصّاع صاعين عندما استقبلت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية جوان بولاشيك بوزارة الشؤون الخارجية، وتمّ إطلاعها بشأن رأي الحكومة الجزائرية حول التّقرير وتقييمها له.
حقوق الإنسان ثقافة
وعلى غرار الخارجية الجزائرية التي سارعت إلى قول كلمتها في الوقت المناسب، طالعتنا اللّجنة الوطنية الاستشارية لترقية حقوق الإنسان وحمايتها بتقريرها السّنوي لـ ٢٠١٤، الذي جاء ليضع النقاط على الحروف تجاه حقيقة حقوق الإنسان في الجزائر.
وأوّل مؤشّر على ذلك ما شدّد عليه قسنطيني في التقرير عندما قال صراحة أنّ مسألة حقوق الإنسان وضرورة تشييد دولة قانون أصبحت تحضى بإجماع الجزائريين، من حكّام ومحكومين بمجمل أطيافهم وحساسياتهم وعلى رأسهم المجتمع المدني، الجمعيات والأحزاب.
وأضاف قسنطيني أنّ حقوق الإنسان ثقافة تتطلّب الوقت والوسائل لتعميمها رغم وجود تشريع ملائم لا يزال من الصّعب تطبيقه، هذا ما جعل هناك تعرض لذم غير منصف في التقارير السنوية لبعض المنظّمات غير الحكومية التي تستدعي ملاحظات حيالها ووقوعها تحت التأثيرات الإيديولوجية.
وفي زاوية أخرى يرى قسنطيني بأن الجزائر سجّلت تقدّما كبيرا في مجال حقوق الإنسان مقارنة بالسّنوات الماضية، لوحظ في الحقوق الإجتماعية كالسكن والصحة. وهناك تحدّيات الدّولة مدعوة لرفعها، داعيا إلى فتح حوار أخوي بين مكوّنات منطقة غرداية وبشكل مستعجل من أجل حلّ الأزمة، منوّها للتّدابير التي اتّخذتها الحكومة لاستعادة الهدوء.
خلافا لما ورد في التّقرير الأمريكي من غموض وعموميات لا تحتمل، أسهب تقرير اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية حقوق الإنسان وحمايتها في الشق المتعلّق بالعدالة. وهنا ثمّن ما تمّ إنجازه في مجال الحبس الإحتياطي على أنّ ثلث الأشخاص المحبوسين من مجموع ٥٥ ألف في وضعية حبس احتياطي، وهذه رسالة قويّة إلى كل الذين يشكّكون في النّوايا الحسنة للجزائر، وليس هناك بلدا يقدّم رقما كهذا.
وتعزيزا لهذا التوجّه، هناك تكفّل جدّي بالإجراءات العقابية وتخصّص القضاة، والتّأطير واستعمال البصمات في التحقيقات القضائية ومكافحة العنف ضدّ المرأة وحماية الطفولة، كاشفا أنّ ٢٧٥ ألف ملف موجود بالمحكمة العليا بعد إصدار الأحكام من قبل المجالس القضائية، مع التأكيد على تحسين الأحكام والسرعة في معالجة التعاون، إذ يسند إلى القاضي حوالي ١٥٠ ملف، هذا ما قد يؤثّر في طبيعة الأحكام.
وممّا يدعّم هذا العمل الخاص بحقوق الإنسان في الجزائر، هو إنشاء صندوق مخصّص للنّساء المطلّقات الذي يتكفّل بالأطفال القصّر، يضاف إلى ذلك القانون المتعلّق بحماية الطفولة وتعديل قانون العقوبات لمحاربة العنف ضد المرأة.
آلية التكفّل بانشغالات النّاس
وأدرج التّقرير نقطة حسّاسة جدّا وهي آلية معالجة والتكفّل بالعرائض، وهما اللجنة الفرعية للوساطة واللجنة الفرعية للحماية.
الأولى تلقّت ٨٥٥ طلب خلال سنة ٢٠١٤ (٤٩ في التربية، ٣٦٣ في العدالة، ٣١ في التشغيل، ٨٠ في المجاهدين، ١٥ في الصحة، ١٩٩ في السكن)، وهكذا تمّ توجيه ٦٧٦ إخطار، ٣٥ منه فقط حضي بالمتابعة.
الثانية وردت إليها ٨٩٩ شكوى وعريضة تتعلّق بالمساعدات والتعويضات، وإثر ذلك كانت هناك ٨٠٤ إرسالية قد وجّهت إلى الجهات المعنية، ٤٨ لاقت الرد فقط، وهكذا تكفّلت اللّجنة بمعالجة ١٧٣٤ عريضة.
هذا ما بيّـن تلك الثقة القائمة بين هذه الهيئة والمواطن، الذي يتواصل معها من أجل مشاكله التي يقدر بأن الدوائر الأخرى عاجزة عن تسويتها، وبالرغم من انعدام الإستجابة نظرا لاعتبارات معروفة، فإنّ النّاس لا يفقدون الأمل في رؤية أنّه في يوم من الأيام تكون هذه القناة ممرّا للتكفّل بمشاكل هؤلاء.
تقارير لا أساس لها من الصحّة
وأورد التّقرير نقاطا هامة جدّا تستدعي تفحّص فيها مليّا، والتدقيق في محتواها نظرا لحملها إدّعاءات لا أساس لها من الصحة، وهي تلك التقارير الصّادرة عن “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية و«فريدوم هاوس” و«الكرامة” و«اللجنة الدولية للصليب الأحمر”، التي تشترك كلها في نمطية المحاور المطروحة، هذا ما يدلّ دلالة واضحة عن تنسيق العمل فيما بينها لإلحاق الضرر المعنوي بالجزائر، وتشوّه سمعتها لدى الأوساط الدولية الناشطة في هذا المجال، بالإضافة إلى “تسييس” مسألة حقوق الإنسان في الجزائر، وإخراجها عن مدلولها الحقوقي بإضفاء عليها طابع التهويل والإثارة خاصة إعلاميا، فماذا يعني اجترار نفس القضايا: حرّية التجمع وتأسيس جمعيات، التعبير، الملاحقات القضائية، الحقوق النّقابية؟
وهناك قضايا ذات طابع استفزازي تعدّ تدخلا مباشرا في شؤون الجزائر لا يسمح التعامل معها، ومثال على ذلك ما يسمى بـ “العمليات الإنتخابية” وكيفية عمل الحكومة والتعدّدية والمشاركة السياسية.
لا يمكن الدخول في نقاش بيزنطي مع هذه المنظّمات لأنّ نظرتها أحادية الجانب، أي لا تبحث على ما أنجز في الجزائر في مجال ترقية المجتمع والتكفّل بانشغالاته الملحة. هناك قرابة ٨٠ ألف جمعية في الجزائر تنشط وفق قانون المطابقة، كما أن النقابات المستقلة لا تعد ولا تحصى في قطاعات حاسمة، التربية والصحة. أين الخلل يا ترى؟ ما عدا وجود خلفيات مغرضة في هذا العمل الموجّه من قبل جهات معروفة تكنّ حقدا دفينا للجزائر في كل فرصة تتاح لها تخرج ذلك في شكل تدوين تقارير مليئة بالإفتراءات، هو عمل سياسي مغلف بمطلب يتعلّق بحقوق الإنسان تعود إلى مرحلة التّسعينات.
والمقاربات التي اتبعها تقرير اللّجنة في منهجيته مخالفة تماما على ما اعتدنا عليها، وهذا بالاعتماد على مفهوم حقوق الإنسان بأبعاد العامة، أي مدى قدرة الجهات المسؤولة أي السلطات العمومية في توفير الخدمات الحيوية للناس لضمان حقّهم في الحياة كالشغل، الصحّة والتربية.
زيادة على أنّ التّقرير أحاط إحاطة شاملة بكل ما يكتب عن الجزائر من قبل تلك المنظّمات التي تدّعي أنّها حامية لحقوق الإنسان في العالم، مبيّنا سقطات هؤلاء وانزلاقاتهم في محاولة ابتزاز الآخر باسم هذا الشّعار البرّاق.