«الذاكرة المشتركة» تطالب باسترجاع أرشيف الجزائريين
ثورة نوفمبر المجيدة هي امتداد السلسلة من المقاومات الشعبية وصمود الحركات الوطنية.. التي قررت عدم مهادنة هذاالاحتلال، بملاحقته في كامل القطر الجزائري، لتأكيد له، بأن هذه الأرض الطيبة التي إستولى عليها بالحديد والنار، يستحيل البقاء فيها مهما طال الزمن.
وحمل الجزائريون هذه المسؤولية التاريخية والمصيرية، وأدركوا حقيقة مفادها أنه خير ما تتوارثه الأجيال هو مقارعة الاستعمار، فتح هذا الطريق الأمير عبد القادر ثلته شخصيات متمرسة في فن الحروب كأحمد باي، بومعزة، بوزيان، لالا فاطمة نسومر، أولاد سيدي الشيخ، المقراني والحداد، بوعمامة، والشيخ آمود في التوارق.
ولم يتراجع الجزائريون أبدا في مطاردة فلول الاستعمار بالرغم من القوانين العميقة الصادرة من أجل إغتصاب الأرض، والتضييق على الأفراد بل إقتحموا الفضاء السياسي عن طريق تأسيس الأحزاب، بدأ مع نجم شمال إفريقيا لمصالي الحاج، الذي في سنوات العشرينات مافتئ يطالب بالاستقلال وإرتقى هذاالفعل الثوري إلى بروز حزب الشعب، وهنا دخل التنظيم مرحلة متقدمة جدا في جميع النواحي خاصة من جانب السرية في الإعداد للمواعيد الكبرى الذي تنتظر هذاالشعب.
وظهر هذا الإتجاه بعد حوالي ٨ سنوات خلال مظاهرات ٨ ماي ١٩٤٥ والتحكم الدقيق في المسيرات المنظمة في كل من سطيف وڤالمة وخراطة إلى درجة إصابة البوليس السري الفرنسي بالهيستيريا عندما شعر بأن الأحداث تجاوزته وانتقم باطلاق النار عشوائيا على رافعي الراية الوطنية.
وترسخ لدى المناضلين، الجزائريين بأن هذا الاستعمار لا يفهم إلا لغة السلاح، هذه الرسالة فهمها الجميع، زادت من القناعة بأن هؤلاء سيدفعون الثمن باهضا إن آجلا أم عاجلا وفي ١٠ سنوات من إكتساب التجربة النضالية والثورية كانت القطعية الننهائية مع إحتلال غاشم واستعما وحشي لا إنساني.
ما وقع في ٨ ماي ١٩٤٥، لم يمح من ذهن الجزائريين أبدا بل كان محفزا لكشف فضائح الغلاة المستوطنين في تلك المدن ثارت ضد هؤلاء، وفي نشاط عملي وفعل ملموس، بادر مناضلون عايشوا الأحداث، ومجاهدون وحقوقيون والمهتمون بالتاريخ.
بتأسيس جمعية ٨ ماي ١٩٤٥ برئاسة بشير بومعزة، وسعت جاهدة من أجل التوثيق لهذه الجريمة ضد الإنسانية التي تحمل طابع الإبادة، وقد سجل عمل بارز في هذاالصدد، عندما رفعت دعاوى لدى المحاكم الأوروبية، بعد أن رفضتها نظريتها الفرنسية.
إلا أنه للأسف بقيت دار لقمان على حالها، وحاصر هؤلاء هذه المبادرة ليلقي بها في الأدراج، خوفا من كشف حقائق مثيرة، حول الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
وفي كل مناسبة تطل علينا، ترتفع أصوات الجزائريين مدوية ومطالبة الدوائر الفرنسية بالكشف عن أرشيف تلك الفترة والذي مازال ممنوعا على كل من يريد الاطلاع عليه خاصة تقارير لجان التحقيق آنذاك.
وبعد ٧٠ سنة من هذه المجزرة أو الإبادة الجماعية مايزال الفرنسيون يتحفظون في تصريحاتهم لا يقدمون على أي موقف تجاه ما وقع حتى الكلمات المستعملة لا ترقى إلى المستوى المطلوب الذي يحمل «الجلاد» المسؤولية كل المسؤولية في قتل ٤٥ ألف جزائري، وهناك من أحرق في أفران القرميد بـ «كاف البومبة» ناهيك عمن جمّعت أجثاثهم في الملاعب، وغيرها من الصور التي فاقت القدرة على تحملها نظرا للعبث بها وتشويهها.
جرائم… وليست مأساة
ونستغرب أشدّ الاستغراب عندما يعود البعض إلى تصريحات البعض من السياسيين الفرنسيين حول الأحداث منذ عشر سنوات.
لأنها «مأساة لا تغتفر» وأن النظام الاستعماري «ظالمم ووحشي» إلا أن الأشياء لم تتغير حتى الآن، ولم يتبع ذلك بأفعال ملموسة كاسترجاع الأرشيف مثلا، أو متابعات قضائية حيال كل من إقترف مثل هذه الأعمال الإجرامية، وعليه توقف الأمر عند حدود تصريحات فلان وعلان لا أكثر ولا أقل، تضف في خانة السعي لتجاوز وضع معين كان يقلق هؤلاء.
لذلك علينا أن نتخلص من هذا الإنتظار الخاص بالتصريحات تجاه كل ما يتعلق بـ ٨ ماي ١٩٤٥ أو حتى الثورة التحريرية، نحن لا نحتاج مثل تلك العبارات المنتقاة بدقة متناهية، نلاحظها في كل مرة لدى المسؤولين الفرنسيين الذين يرون بأن هناك سقفا لا يتطلب الأمر تجاوزه عند الحديث عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر، بدليل أن هناك من ماجرى في الجزائر ليس بابادة وإنما هي حرب، كيف نخاطب أجيال من هذا الشباب بهذا المنطق الغريب، وندخلهم في عالم التناقضات بعد أن كانت عقولهم نقية صافية، داركة بأن ماقام به الاحتلال في هذا البلد كان إبادة بكل معنى الكلمة.
ونود في هذه الإشارة إلى مادونه كاتب الدولة الفرونمسي المكلف بقدامى المحاربين والذاكرة السيد جان مارك تودشيني في السجل الذهبي للمتحف الأثري بسطيف خلال زيارته الأخيرة يوم ١٩ أفريل الماضي، بأنه يتواجد بسطيف من أجل التعبير عن اعتراف فرنسا بالمآسي المتكبدة، وأودي اليوم التفاتة قوية تجاه أصدقائنا الجزائريين، وأوجه تكريما للضحايا الجزائريين والأوروبيين بكل من سطيف وقالمة وخراطة، داعيا الفرنسيين والجزائريين باسم الذاكرة المشتركة بين بلدينا والتي تبني صداقتنا إلى مواصلة التقدم معا، نحو ما يجمعهما، وأنه قدم إلى الجزائر من أجل تجسيد الخطاب الرئاسي. علما أن تود شيني قد توجه إلى النصب التذكاري ووضع إكليل من الزهور أمام الشهيد بوزيد سعّال.
ويلاحظ أن الفارق الزمني بين ١٩ أفريل إلى ٨ ماي بقدر بحوالي ١٩ يوما أي أن زيارة أتت بعد كل هذه المدة الزمنية الطويلة، زيادة على أن تودتشي لم يتحدث عن «الجرائم» أو القتل أو «الإعدامات» أو «المجازر» وإنما استعمل مصطلح «المآسي» المرتكبة (tagedie) وهو مفهوم عام لا يترجم المقصود في حد ذاته.
لذلك فإن رفض الجزائريين للاستعمار الفرنسي، كان دائما قائما على أحداث واضحة، وعليه لا يمكننا الفصل بيم ٨ ماي ١٩٤٥ وأول نوفمبر ١٩٥٤ هذاالمسار الثوري متكامل وضعه أناس أشاوس ووطنيون أبطال، و«الذاكرة المشتركة» ليس شعارا تاريخيا.
وانما تجسيده يستدعي شجاعة كبيرة منها إعادة للجزائريين كل الوثائق المتعلقة بهذه الأحداث، ومثل هذه الخطوة تكسر هذا «الإحتشام» في التعامل مع هذا الملف.