طباعة هذه الصفحة

الدبلوماسية الجزائرية رائدة في تسوية الأزمات

أجرت الحوار آمال مرابطي

المقاربة السياسية بديل للخيار العسكري وأثبتت نجاعتها في الميدان

اتفاق السلام في مالي محطة حاسمة للحل في ليبيا

تحدث أستاذ العلوم السياسية الدكتور منصور لخضاري في حوار مع  “الشعب” عن أهمية الدور الدبلوماسي الجزائري في حل الأزمات  الأمنية التي تهدّد المنطقة، وأشاد بالمواقف الثابتة التي تحكم خط ومسار السياسة الخارجية الجزائرية القائمة على احترام سيادة الدول  ورفض التدخل الأجنبي والجنوح  للحلول السلمية.
توقف الدكتور لخضاري عند الأوضاع العربية والافريقية الراهنة  وعند ظاهرة تنامي الارهاب وفصّل في العديد من القضايا الدولية الشائكة  التي تضمّنها هذا الحوار.

“الشعب”: حقّقت الوساطة الجزائرية في مالي إنجازا تاريخيا، وتستعد باماكو والأطراف الشمالية منتصف الشهر القادم للتوقيع على الاتفاق النهائي للسلم والمصالحة فما تعليقكم؟
منصور لخضاري: لا يعود الاهتمام الجزائري بما يجري على الساحة السياسية، الاجتماعية والاقتصادية في مالي إلى فترة ما بعد الأزمة الأخيرة الناشئة بالأساس عقب الانقلاب على الرئيس أمادو توماني توري في مارس 2012، بل هو اهتمام يعود لعقود ماضية، ومرده أن طبيعة الجوار الجزائري المالي تتجاوز ما يقتسمه البلدان من حدود برية قوامها 1376 كلم، إلى اقتسام البلدين لتاريخ مشترك زاد من التحامه اقتسام جزء من شعبي البلدين لأصول قبلية واحدة وإن كان وضعهم قياسا إلى متغير المواطنة يختلف باختلاف انتماءاتهم الوطنية.
 وعليه وجبت الإشارة إلى قيام الجزائر بوساطات كثيرة وطويلة بين الفرقاء الماليين في سنوات التسعينيات من العقد الماضي، إذ لم تؤثر المشاكل الأمنية التي كانت تعيشها على درجة اهتمامها  بالواقع السياسي المالي، وقد رعت الكثير من جولات الحوار التي أسفرت عن العديد من الاتفاقات منها اتفاق تمنراست للسلام سنة 1991، واتفاق الجزائر للسلام سنة 2006... وهي الوساطات التي قادتها الجزائر بطلب من الفرقاء الماليين الذين عبروا عن ثقتهم في وساطتها ووقوفها على نفس المسافة منهم، وأمانتها وصدقها في السعي للوصول إلى تحقيق اتفاقات تنهي مواطن الخلاف القائمة في هذا البلد الجار.
بالعودة إلى الجولات الأخيرة من الرعاية والمرافقة الجزائرية لجولات الحوار المالي، نجد أنها شهدت مدا وجزرا يعود بعض المراقبين بأسبابه إلى دخول أطراف خارجية وراء التأثير على بعض الفصائل الأزوادية المالية في شبهة أقرب إلى اعتبارها تشويشا على الوساطة الجزائرية من اعتبارها مساعي لصيانة حقوق وتمكين هذه الفصائل من تحقيق المكتسبات السياسية والاجتماعية والتنموية التي تسعى لتحقيقها.
ومع هذه المناورات الفاشلة نستحضر حقيقة الثقل الإقليمي للجزائر الذي يقلق دولا وأطرافا من المنطقة ومن خارجها ممن يملكون رهانات ومصالح استراتيجية يسعون لتحقيقها ويصطدمون بوجود مقاربات جزائرية تقف في وجه التحقيق الأسهل لهذه الأجندات .

نظرة واقعية وحلول جذرية

 وأنتم تتحدثون عن المقاربات الجزائرية، نسجّل إشادة دولية متزايدة  بهاو بأهميتها فما قولكم؟
 تمثل الدبلوماسية الجزائرية الصوت المعتدل وتتبنى المقاربات الأقرب إلى تحقيق الإجماع والقبول لدى المجموعة الدولية بالرغم من وجود وجهات نظر تخالف النظرة الجزائرية لكننا نجد أنها لا تتأخر في الإشادة بالتحليل الجزائري للأوضاع الدولية، ولعلّ ما يستحضر من أمثلة في هذا الشأن اعتراف المسؤول العسكري لحلف الناتو بأوروبا في شهر مارس الأخير وإقراره بسوء تقدير الحلف لقرار التدخل العسكري في ليبيا، مشيدا بالمقاربة الجزائرية التي كانت الأكفأ والأنجع للوصول إلى حل سلمي وتسوية أسلم للأزمة الليبية.
ويستمد الاحترام الدولي الذي تحظى به الدبلوماسية الجزائرية من مواقفها الثابتة ووفائها الدائم للمبادئ التي تحكم خط ومسار السياسة الخارجية الجزائرية القائمة على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ورفض الحلول العسكرية،ونسجل ثقة الكثير من الأطراف الخارجية في الوساطة الجزائرية، بالنظر إلى التجارب السابقة الناجحة، كوساطتها لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين المحتجزين بالسفارة الأمريكية في طهران سنة 1981، فضلا عن رعايتها للحوار المالي والليبي...
 بالإضافة إلى جهود الوساطة في مالي، تلقي الجزائر بثقلها لحلحلة الأزمة الليبية التي باتت تشكل وجعا للمنطقة، فإلى أين  يسير قطار التسوية الليبية؟
أثبت الواقع وأبانت الأيام عن حكمة موقف الجزائر وقوة مقاربتها المقدمة كخارطة طريق لحل الأزمة الليبية التي آلت لمخرجات وقفت بالشعب الليبي الشقيق على حافة الحرب الأهلية، وبالدولة الليبية الجار على مشارف التقسيم والانقسام فصارت الوحدة الترابية على المحك وسيادتها الوطنية منتهكة ليعتبرها البعض كدولة فاشلة.
لقد وقفت الجزائر منذ اندلاع الأزمة الليبية في وجه استعمال القوة العسكرية، وتحفظت في مختلف المحافل الدبلوماسية (الجامعة العربية، الاتحاد الافريقي...) على التدخل الأجنبي المسلّح، وطرحت مقاربة سلمية لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين ومحاولة إيجاد جو من التوافق والحوار السياسي وهي المقاربة التي ما فتئت المجموعة الدولية تقر بحكمتها وصدقها وتشيد من خلالها بالموقف الجزائري من الأزمة الليبية في عزّ أيام الأزمة.
اليوم تحاول الجزائر إيجاد فرص وجو لتقريب وجهات النظر بين مختلف الفاعلين السياسيين لإيجاد توافق سياسي يحفظ ويصون السيادة الوطنية الليبية والتماسك الاجتماعي للشعب هناك وفاء من الجزائر لمبادئ سياستها الخارجية القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام مبدأ السيادة الوطنية، والانخراط في مساعي إحلال السلم وبناء الأمن الإقليمي والدولي.  
 
التوافق السياسي الحلقة المغيبة في الحراك العربي
 
الوضع العربي يزداد تردّيا خاصة مع مراهنة البعض على الخيارات العسكرية كما حصل في اليمن فما قولكم؟
 لا تعتبر الخيارات العسكرية الحل والطريقة الأنجع للتعامل مع الأزمات السياسية والاجتماعية، فلئن يكون الحل العسكري جزءا من استراتيجية الحل، فإنه لا يعتبر كل الحل وهو ما أثبتته التجارب  في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا...
أما عن التردي الذي يشهده العالم العربي فمرده إلى جملة من الأسباب من أهمها، عدم التوافق السياسي العربي حول ترتيب أولويات المسائل السياسية والاستراتيجية ذات الصلة بالشأن العربي، فضلا عن عدم وقوف كل الدول العربية على نفس الموقف ونفس المسافة من المتغيرات المؤثرة وذات الصلة بالترتيبات الاستراتيجية والسياسية العربية، فلو أخذنا القضية الفلسطينية على سبيل المثال لا الحصر باعتبارها المسألة العربية المحورية نجد أن الدول العربية لا تتقاسم نظرة توافقية حول طبيعة القضية، ولا أطرافها والفاعلين فيها... وهي نفس الملاحظة المسجلة على الاختلاف القائم بشأن حل النزاعات الناشئة في العالم العربي كاختلاف الدول العربية حول الطريقة الأمثل في التعامل مع الأزمة الليبية وبعدها السورية وحتى اليمنية...
فالمشهد العربي، بات يتميز بالاختلاف واللاتوافق، وبعض من الدول العربية تحاول لعب دور الريادة والزعامة على حساب أمهات القضايا التي تمسّ جوهر الاهتمام العربي، ما خلق فوارق سياسية واختلاف في وجهات النظر حول الكثير من متعلقات الشأن العربي ما انعكس سلبا على المشهد السياسي العربي الذي عوّض أن يلتفت إلى تحقيق الانسجام التنموي والتكامل نجده قد سقط في فخ الأزمات العربية - العربية ما يعتبر تفويتا لفرص الطفرة التنموية بالعالم العربي كفضاء حيوي استراتيجي (لا كمجموعة من الدول) يمكن له أن يلعب دورا إقليميا وعالميا رائدا إذا ما حصل التوافق والإندماج.
 
هشاشة الوضع الأمني في الساحل شكّل تربة خصبة للجماعات الإرهابية

يشكل تنامي الإرهاب في بعض الدول الافريقية تحديا أمنيا كبيرا، فما سبب تنامي هذه الظاهرة وكيف السبيل لمواجهتها؟
 بات الإرهاب يمثل تهديدا أمنيا لا تماثليا متعدد مستويات التهديد بين ما هو وطني، إقليمي ودولي.
ولئن انتظرت المجموعة الدولية أحداث 11 سبتمبر 2001، لتقف على خطورة ما يشكله الإرهاب من تهديد أمني جاد، فإنه من الواجب الإشارة إلى أن الجزائر سبق لها وعرفت خطورة الإرهاب قبل أكثر من عقد من الزمن عن تلك الأحداث. وسبقت المجموعة الدولية إلى لفت الانتباه إلى مخاطره وحقيقة تهديداته بل وانفردت بمحاربته ما أكسبها خبرة ودراية في التعامل مع المسائل ذات الصلة بموضوع الإرهاب واستراتيجيات مكافحته.
اليوم نجد أن إفريقيا تشهد نشاطا إرهابيا لافتا في العديد من مناطقها (شمال إفريقيا، الساحل الإفريقي، غرب إفريقيا...) نتيجة الظهور اللافت لجماعات إرهابية باتت تنشط على فضاءات وطنية، وتحاول الاستثمار في تسويق تبعيتها لتنظيمات إرهابية عالمية للاستفادة الإعلامية والدعائية من الادعاء بالانضمام والانتساب إليها (تنظيم القاعدة، تنظيم داعش...)، ولفت الأنظار إلى نشاطاتها المنتشرة على الصحراء الافريقية الكبرى التي وفرت بيئة حاضنة للعديد من الأزمات، ما كان الإرهاب ليفوّت فرصة الاستثمار فيها، خاصة وأن المنطقة تعتبر فضاء صحراويا طبيعيا مفتوحا يقابله فراغ دولاتي كبير نتيجة وجود دول أقرب إلى تصنيفها بالفشل لعدم تمكنها من بسط سلطة وسيادة القانون والانضباط على كامل أقاليمها الوطنية، ما أنتج مساحات فراغ أمن استثمرت فيها الجماعات الارهابية للنشاط، فضلا عن الظروف الاجتماعية القائمة على التعدد والولاء القبلي والنقص التنموي.
 كيف التعامل مع هذا الوضع؟
للتعامل مع هذا المشهد الأمني المتميز بكثافة النشاط الارهابي في افريقيا، تعدّدت المقاربات التي ترسم وتحدد استراتيجيات مكافحته، ومن بين أهمها تبرز المقاربة المرجحة للحلول العسكرية والداعية للتدخل الأجنبي، بحجة أن مكافحة الإرهاب من واجبات المجموعة الدولية اعتبارا من أن هذه الظاهرة  خطر عالمي عابر للأوطان والقارات، وبحجة ضرورة مساعدة دول المناطق التي تشهد تناميا للنشاطات الإرهابية والتي من أكثرها دول افريقية لمحدودية قدراتها العسكرية والمالية والمادية واللوجستية على مواجهة الجماعات الدموية ما يقتضي بالضرورة مساعدتها على أداء هذه المهام.
في المقابل من ذلك تبرز مقاربة اخرى يلخصها الطرح الجزائري القائم عل ضرورة الالتفات إلى الحلول التنموية بأبعادها السياسية والاقتصادية والبشرية لمواجهة الإرهاب، ذلك أنه من الضروري الالتفات لمسببات الإرهاب لا إلى مجرد ظواهره ومظاهره. فالقضاء عل أسباب الظاهرة هو الحل الأنجع للقضاء عليها.
يقوم هذا الطرح على المزاوجة والجمع بين المبادرات الميدانية والعملياتية العسكرية الصارمة لمواجهة الجماعات الارهابية من جهة، وبين إيجاد حلول تنموية وبدائل اقتصادية للمناطق التي تستقطب الجماعات الارهابية لسد الفراغ التنموي المنتج لمشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية تستثمر فيها الجماعات الإرهابية لنشر أفكارها وإسقاط الكثير من الشباب في شراك مجموعاتها.
وعليه يمكن اعتبار المقاربة الجزائرية أكثر المقاربات جدية في مكافحة الإرهاب، لجمعها بين التنمية وتحقيق الأمن وهو ما يتوافق مع الأبعاد المتنوعة للأمن وفقا للمقاربات الأمنية الحديثة.