تحل علينا اليوم الذكرى الـ57 لأحداث ساقية سيدي يوسف، التي وقعت بتاريخ الـ8 فيفري 1958 بالحدود الجزائرية التونسية، كرد فعل للدعم التونسي للثورة الجزائرية والتي سقط فيها العديد من الشهداء الجزائريين والتونسيين، حيث يمثل هذا اليوم مدى التلاحم بين الشعبيين الشقيقين الجزائري والتونسي، ويبقى التاريخ شاهدا على أن الحواجز لم تفصل يوما بين البلدين.
قال المؤرخ والأستاذ الجامعي المختص في التاريخ محمد لحسن زغيدي لـ»الشعب» أن رمزية الحدث هذا العام متزامنة مع زيارة أول رئيس لجمهورية تونس ما بعد الثورة، الباجي قايد السبسي وهو من الرموز التاريخية للدولة، وأضاف الزغيدي أن هذه الزيارة الأولى له إلى الجزائر، وفي هذا التوقيت تحمل دلالات تاريخية ورمزية الدم المشترك فيما بين الشعبين الشقيقين قبل أن تكون التنمية، السياسة والدبلوماسية، داعيا إلى ضرورة نشر الثقافة الوحداوية بين البلدين.
وأشار زغيدي إلى أن النضال المشترك الجزائري والتونسي يعود إلى ما قبل احتلال تونس، كون أنها استقبلت الثوار الجزائريين وعائلاتهم الفارين من المذبحة الفرنسية بعد ثورة 1871 المعروفة بثورة الشيخ المقراني واستمر التعاون بين الشقيقتين، حيث أن الدم الجزائري لم يراق من أجل تونس على أرضها فقط وإنما أريق من أجل تونس على أرض الجزائر، وتجلى ذلك في ثورة الشيخ بوعمامة التي عرقلت احتلال تونس سنة 1881، حينما توجهت فرقة الاحتلال الفرنسي من وهران في اتجاه تونس لتدعيم جيشها.
وعند وصولها إلى عنابة اضطرتها ضربات المقاومة الشديدة للشيخ بوعمامة، للعودة مع التدعيم اللوجيستي للقضاء على ثورة بوعمامة ثم العودة لاحتلال تونس. أضاف الأستاذ الجامعي. وقال أيضا أن هذا الترابط والتضامن نتيجته الحركة الوطنية الثورية، ومشاركة مناضلين جزائريين كبار في نشأة وتطور المسار النضالي التونسي أمثال الشيخ الثعالبي، توفيق المدني وغيرهم. كما ساهم الجزائريون في النهضة الفكرية الوطنية الثورية لتونس منذ 1909، وذلك في جرائدها، مجالاتها، إذاعاتها، ومنتدياتها، بحكم أنها كانت حاضنة لمسجد الزيتونة الذي كان محجة الطلاب الجزائريين.
وحسب الزغيدي فإن، «نجم شمال افريقيا» ربط بين الحركات النضالية في المغرب العربي ووحد صفوفه وبرامجهم في المجال النضالي، إلى أن جاءت الثورة التونسية جراء أحداث 1952، فكانت الجزائر بكل تشكيلاتها السياسية أكبر المساهمين، في إنشاء جبهة للدفاع عن الحريات في المغرب العربي من أجل مناصرة زعماء تونس.
علاوة على ذلك، ساهم الجزائريون في جيش التحرير التونسي حاملين السلاح، وسقط العديد منهم شهداء خاصة في المناطق الغربية لتونس التي جاءت على الحدود مع الجزائر، حيث شارك أبناء سوف، تبسة، وسوق أهراس في المعركة التحريرية التونسية، كما كانت تونس منفذا مهما في جلب السلاح للحركة الوطنية منذ تأسيس المنظمة الخاصة في فيفري 1947، حيث شرع في جلب السلاح ابتداءا من 1948 بالتعاون مع الوطنيين التونسيين. قال زغيدي أن هذه الجذور النضالية والتعاون الكفاحي الممزوج بالدم، هو الذي ميّز الأخوة في المغرب العربي عامة بين الأشقاء ومن بينها تونس الشقيقة.
فرنسا فكّرت في إخراج الحرب من ساحتها الحقيقية
وبالموازاة مع ذلك، استعرض المؤرخ خلفية القصف على ساقية سيدي يوسف بالمنطقة الحدودية قائلا: «إن سنة 1958 لها ميزة خاصة تختلف عن سابقاتها، من سنوات الثورة أولا في الوضع الداخلي لهذه الأخيرة التي أصبحت عامة وبارزة على الجبهات الأربعة: العسكرية، حيث أصبح للجزائر جيش منظم ومهيكل وعصري بعد مؤتمر الصومام، ثم تضاعف وتنوّعت معداته وأسلحته، وأصبحت جبهة التحرير الوطني هي المتحكم في كل مكان يوجد فيه جزائري سواءا، في الداخل أو الخارج تجسيدا لنداء أول نوفمبر 1954».
على الجبهة الإعلامية تعزّزت وتطورت بحيث شملت الإذاعات، والصحف وصلت حتى إلى الأجهزة المرئية، في حين شهدت الجبهة الدبلوماسية وجود مكتب دائم للثورة، في الأمم المتحدة ووفود متجوّله في البلدان الأسيوية والأوروبية وبين كل بلدان العالم، والمشاركة في التجمعات الدولية، النقابية، الطلابية، الثقافية والرياضية.
وشهدت الجبهة الفرنسية فشلا ذريعا على كل المستويات، بحيث أصبح الكولون وأصحاب فكرة الجزائر فرنسية يتدخلون في جزئيات الشؤون الداخلية للدولة الفرنسية، كما شبّ الصراع بين الطبقات السياسية والجيش الفرنسي في الجزائر والمعمرين، حيث ارتفعت نفقات الجيش الفرنسي، وأضحت على شفا حافة الإفلاس المالي والدبلوماسي والعسكري، واتضح فشل خط موريس العاجل على الحدوديين الغربية والشرقية، وأصبحت فرنسا مفضوحة أمام العالم جراء استعمال الأسلحة المحرمة دوليا من بينها النابلم.
وأضاف محدثنا، أن النشاط الدبلوماسي للثورة أدى إلى عزل فرنسا عن أصدقائها، بحيث يقول شارل ديغول:»إن العالم بأسره كان يستنكر هذه المأساة أي الوضع في الجزائر»، وبدأ التفكير الجاد في من ينقذ فرنسا ويخرجها من مأزق الجزائر، وبدأ التفكير في ضرب جبهة خارجية وإخراج الحرب من ساحتها الحقيقية، ووقع الاختيار ـ قال زغيدي ـ على تونس كونها تكتسي أهمية كبرى بالنسبة للإمداد الخاص بجيش التحرير الوطني، كما أنه توجد بتونس جالية جزائرية كبيرة بأزيد من 100 ألف جزائري لاجئ من بينهم خمسة آلاف كانوا في مراكز التدريب التابعة للثورة .
علاوة على أن تونس تعد قاعدة لوجستية مهمة لجيش التحرير الوطني، منها تنقل الأسلحة القادمة من الدول المساندة للثورة الجزائرية، خاصة من المشرق العربي. وحسب ما أفاد به المؤرخ أن تقرير الوزير الفرنسي روبر لاكوست جاء فيه أنه خلال شهر ديسمبر 1957، تم تمرير خمسة آلاف قطعة سلاح من بنادق، ورشاشات وبنادق رشاشة، و60 بازوكة و12 مدفع هاون، كما تطرّق التقرير إلى وجود لجنة التنسيق والتنفيذ بتونس، وشرع لاكوست في اتهام مباشر للرئيس لحبيب بورقيبة قائلا: «إن بورقيبة أصبح في وضعية مساوية لمن أعلن الحرب على فرنسا».
وبناءً على هذا التقرير قال الأستاذ الجامعي أن رئيس الحكومة الفرنسية فليب قايار قدم مجموعة من الاقتراحات إلى تونس بتاريخ 2 جانفي 1958، من بينها تجميع قوات فرنسية تقدر بـ15 ألف، مقابل أن تنشئ فرنسا معهدا متخصصا في تطوير الإطارات التونسية، وقيام عقد دفاعي مشترك ما بين حكومة تونس والمغرب والجزائر من أجل تكوين حلف متوسطي بين فرنسا والمغرب العربي.
وأوضح في هذا الشأن، أنه نظرا لفشل هذه الاقتراحات بدأت فرنسا تخطّط لقصف الساقية انطلاقا من الأسباب الآتية: أن منطقة الساقية تتواجد بها قوات جيش التحرير الوطني، وتتنقل فيها ليلا ونهارا ومنها يمررون السلاح والذخائر إلى الجزائر، كما أنها تعد مركزا مهما يستريح فيه جنود جيش التحرير الوطني ويستعيدون فيها راحتهم.
وثالث سبب هو قيام القيادة العسكرية الفرنسية بإعلام حكومة باريس بهذه التفاصيل، وبينت أن خط موريس لم يعد مجديا واستغلت لذلك أسباب جعلتها في مقام الأسباب المباشرة للتدخل العسكري، طبقا لتصريح أدلى به وزير الدفاع الفرنسي أندري موريس في 28 أوت 1957، والذي مفاده: «سيواصل جيشنا من الآن فصاعدا مطاردة المقاومين على الأراضي المجاورة، بحكم حق التتبع الذي هو قاعدة في القانون الدولي».
فاستغلت عمليات جيش التحرير الحدودية بالمنطقة بين نوفمبر 1957 وجانفي 1958، قال زغيدي والتي بلغت 30 عملية على الحدود منها 17 عملية داخل الساقية، وكانت الشرارة هي عملية 11 جانفي 1958 التي وقعت بين قوات جيش التحرير ومجموعة فرنسية تتكون من خمسين فردا، قتل منهم المجاهدون على الأراضي الجزائرية في مكان يبعد 6 كلم من الساقية و14 قتيل وجريح واحد و5 أسرى، حيث لجأ بهم المجاهدون إلى داخل تونس، حسب الدكنور الزغيدي.
130 قتيل و400 جريح وتهديم 80 بالمائة من المنشآت
وبعدها صدر القرار بالقصف دون علم حكومة قايار وطبق يوم السبت 8 فيفري 1958 في الساعة الـ11 و5 دقائق صياحا وكان يوم سوق أسبوعي، أضاف زغيدي، مشيرا إلى أنه في البداية كانت طائرة استكشاف ثم أعقبتها 11 طائرة مقنبلة من نوع «ب26»، و6 طائرات من نوع كورسير و8 أخرى، ودام القصف ساعة و20 دقيقة، فكانت الحصيلة حسب بيان السفارة الفرنسية بتونس يوم 26 فيفري 1958، 130 قتيلا، و400 جريحا.
وقال أيضا الأستاذ الجامعي، أن مذكرة الحكومة التونسية لمجلس الأمن، أظهرت أن عدد الشهداء كان أكثر وكان يحتوي على النساء والأطفال، بحيث استشهد 20 طفلا وتسع نساء وأصيبت ثلاث سيارات للصليب الأحمر الدولي كانت توزع المواد الغذائية والملابس للاجئين، فقد تمّ تهديم ما نسبته 80 بالمائة، كما حطّم منجم الرصاص للساقية بنسبة 50 بالمائة، واستخرج منه جثث 100 شهيد.
مؤكدا أن العملية استنكرتها كل بلدان العالم، بما فيها الحليفة لفرنسا وزادت في أزمتها داخليا وخارجيا، كما ساهمت في إظهار عدالة القضية الجزائرية، وهمجية الاستعمار الذي أصبحت يده تطال المدنيين اللاجئين العزل بل حتى منشآت ومراكز للصليب الأحمر الدولي للإغاثة، مما زاد في تفاقم الوضع ما بين السياسيين والعسكريين، وأدى بعد 65 يوما لإسقاط حكومة فليب قايار التي كانت تسمي نفسها بحكومة الوحدة الوطنية.
وحسب محدثنا أنه في 15 أفريل 1958 حقّقت الثورة أكبر انتصار، وهو عقد مؤتمر طنجة في 27 أفريل من نفس السنة، في حين حقّقت فرنسا هزيمة سياسية باستيلاء الجيش على الحكم عبر انقلاب نفذ في 13 ماي 1958 الذي سلم فيه الحكم إلى الجنرال ديغول.
وخلص زغيدي إلى القول، إن حادثة ساقية سيدي يوسف أظهرت أن منطقة المغرب العربي هي موحدة في نضالها ومشتركة في دماءها، كما بينت أن حقيقة الاحتلال الفرنسي أنه أرغم على منح الاستقلال لتونس والمغرب في 2 و20 مارس 1956 ما هي إلا مناورة للقضاء على الثورة الجزائرية.
وهذا ما يوضّحه أحد جنرالات فرنسا بقوله: «إن الضرورة التي دفعتنا إلى غزو تونس والمغرب مازالت قائمة»، بمعنى أن نية فرنسا في العودة إلى هذين القطرين الشقيقين قضية وقت، حينما تنتهي من القضاء على الثورة الجزائرية ستعود بشراسة وعدد وقوة أكبر لاحتلال القطرين، وبالتالي السيطرة على كل شمال إفريقيا بما فيها ليبيا وموريتانيا، وهو ما أفشلته الثورة بفضل انتصارها تحقق الاستقلال التام والشامل لكل المنطقة، أوضح المؤرخ.
مهمة المؤرخ ربط أواصر الأخوة بين الدول الشقيقة
وفي رده عن سؤالنا حول وفرة الدراسات لهذه المحطة التاريخية، أكد الأستاذ الجامعي على وجود دراسات متعددة بالنسبة لتونس، وهي عبارة عن أطروحات ماجستير ودكتوراه بجامعات كلا البلدين، حيث توجد العديد من الدراسات بجامعة الجزائر الأم وغيرها، والتي تناولت مراحل المقاومة بما فيها الساقية كمواضيع تناولها الطلاب، نظرا لوفرة المصادر في هذا المجال ولأهمية الموضوع، وكذا إسهاما من الجامعة في ربط أواصر الأخوة والجسور التاريخية المشتركة فيما بين الأجيال، وهذه هي رسالة التاريخ ومهمة المؤرخ يقول زغيدي.