تقوم الدبلوماسية الجزائرية بجهود كبيرة من أجل المساهمة في تهدئة توترات دول الجوار والساحل، مستندة إلى تجربة خاضتها بلا انقطاع في إدارة النزاعات منها قيادة مسار الجزائر التفاوضي بين أطراف الأزمة المالية التي تحضر لجولة خامسة للتوصل إلى حل نهائي للأزمة، وتحظى الرعاية الجزائرية لمسار الحوار المالي الشامل بدعم إقليمي ودولي، المؤكد على محورية الدور الجزائري على المستوى الإقليمي.
ويتفق المحللون السياسيون على أن الجهود التي تقوم بها الجزائر في تسوية سياسية للأزمة المالية وغيرها بمطقة الجوار والساحل، تؤهلها للعب هذه الدور لاعتبارات جيوستراتيجية وتاريخية عديدة، تريد الجزائر من خلالها تأكيد قيم قامت عليها دبلوماسيتها في صدارتها رفضها للتدخل الخارجي، حل أزمات المنطقة بالحوار والتفاوض والعمل على إزالة مسببات التوتر باعتماد استراتيجية إنمائية وحلول تعيد الثقة وترسخ المصداقية بين مختلف الأطراف.
تعكس هذه المقاربة السياسية مواقف الجزائر من الأزمتين: المالية والليبية التي ترافع من أجل تسويتها وبما يتماشى ومبادئها الدبلوماسية والاتفاقات الدولية.
وفي شأن الأزمة المالية، فإن الأطراف المتنازعة في البلد والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “ايكواس”، الاتحاد الإفريقي، الأمم المتحدة ودول أخرى مثل فرنسا وأمريكا على سبيل المثال، تثق في المقاربة الجزائرية لحل الأزمة، بناء على مجموعة من الاعتبارات الخاصة بالجزائر وأمنها القومي ودورها القاري.
ومن هذه الاعتبارات تمسك الجزائر باحدى المبادئ المقدسة التي قامت عليها منظمة الوحدة الإفريقية وبعدها الاتحاد الإفريقي القائمة على احترام الحدود الموروثة على العهد الاستعماري ومن ثم رفض المساس بوحدة مالي مهما كان السبب. أما الاعتبار الثاني فيتعلق بالدور الدبلوماسي الجزائري على المستوى القاري، حيث يشكل محور الجزائر-أبوجا-بريتوريا، أحد أسس توجهات الاتحاد الإفريقي،باعتبارها أقوى عامل في استقرار القارة الإفريقية وتوليها إدارة شؤونها دون وصاية خارجية، وكان هذا المحور الذي شكل خارطة طريق للاتحاد الإفريقي والدبلوماسية الإفريقية قد رافع من أجل إصلاح سياسي لدول القارة وقبول الحكم الراشد وتقييمه من قبل النظراء، وهو تقييم دعا إليه “النيباد”.
وإلى جانب الاعتبارات السابقة يتناغم الدور الإقليمي الجزائري في هذه المرحلة ويتجلى في الطروحات المرافعة لرؤية جيواستراتيجية بعيدة المدى تصب في تسوية النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، تشارك فيها الأطراف المتنازعة وكذا محاربة الإرهاب وصناعة الاستقرار عبر الحفاظ على الكيانات القائمة، أوراق جذب فاعلة لحشد حكومات الإقليم ضمن الأجندة الإستراتيجية الإفريقية.
ينعقد مسار الجزائر التفاوضي حول الأزمة التي توشك على التسوية عبر اتفاق نهائي يخرج جمهورية مالي من إحدى أكثر المنعرجات التاريخية خطورة في تاريخها السياسي الحديث بفعل تراكمات الفساد وديمقراطية الواجهة وتحديات الإرهاب بالإضافة إلى العلاقة المتوترة بين الشمال والجنوب، التي طبعت العقود الخمسة من عمر الدولة الوطنية الحديثة دون علاجها من الجذور.
كما يأتي المسار في اضطراب عاشته الطبقة السياسية في جمهورية مالي عقب التدخل الفرنسي المعزز من طرف مجلس الأمن مطلع 2013، ما أتاح تقوية للموقع السياسي والدبلوماسي وحتى العسكري لمالي بفعل الدعم الإقليمي والدولي، الذي حشدته المصالح المشتركة المتمثلة في الخشية من عدوى الانفصال وتحديات الإرهاب.
غير أن واقع وتفاعلات العلاقة بين سكان الأزواد في الشمال وحكومات المركز في باماكو بدت أكثر تعقيدًا وأبعد من أن يتم تجاوزها في أي ملفات أخرى، وأن الحلول التي قدمتها الحكومات المتعاقبة لم تعالج التعقيدات من أسسها بل صار لها مفعول عكسي، فحالة الحراك التي عرفها الإقليم منذ عام 2011، وتداعيات عدم الاستقرار في الإقليم صارت همًّا إقليميًّا ودوليًّا لارتباطها بقضايا جيوستراتيجية حساسة.
لهذا كان التحرك الدبلوماسي سريعا من أجل احتواء الوضع ولا يتخذ ورقة ضغط في أجندات خارجية، لا يهمها استقرار مالي والساحل بقدر ما يهمها مصالح جيوسياسية ونفوذ. وبرزت الدبلوماسية الجزائرية في هذا الاتجاه ورافعت من أجل التعجيل بحوار يبدد التوتر ويعيد الثقة إلى أهل مالي في جزئيه الشمالي والجنوبي على حد سواء.
والمفاوضات التي جرت بالجزائر عبر جولات عدة اهتمت بهذا الجانب وركزت على أن الوحدة الترابية للبلد الجار القلب النابض للساحل خط أحمر لا يمس. وهو ما تفهمته مختلف الأطراف المشاركة في حوار جرى عبر 4 جولات بالجزائر العاصمة، سادته صراحة وتفاهما ودراية بالتحديات الحاضرة والمستقبلية.
اقتنعت الأطراف المفاوضة بالأطروحات الجزائرية ودول الجوار وممثلي الاتحاد الإفريقي بأن مشكلة أزواد والمجتمعات البيظانية القاطنة فيه (طوارق، عرب) تمثل هاجسًا سياسيًّا وأمنيًّا للعديد من دول الإقليم التي توجد امتدادات من نفس النسيج الاجتماعي داخل أقطارها، وأن هذه المعادلة لا يقل قوة وتأثيرًا عن الإجماع الإفريقي الذي أرسته مواثيق منظمة الوحدة الإفريقية عشية تأسيسها في مطلع الستينيات، واستمر الاتحاد الإفريقي في رعايته والدفاع عنه والمتمثل في احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار من أجل الحفاظ على الكيانات القائمة.
المقاربة الجزائرية في الميزان
أولاً: حلّت خطة الجزائر لسنة 2009، مشكلة تسهيل عمل الجيوش النظامية لدول الساحل الإفريقي بما يمكّنها من محاربة الإرهاب وراء الحدود، وضرب معاقل تنظيم الجماعات الإجرامية العابرة للأوطان، وتجفيف منابع الدعم والإمداد اللوجستي التي تمول أفراده بالسلاح والأموال.
كما اتفقت دول الساحل الإفريقي -آنذاك- على إنشاء أول قاعدة بيانات محلية موحدة، تتضمن كافة المعلومات المتاحة حول “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب”، على أن تلتزم هذه الدول بتغذية هذه القاعدة بالمعلومات بفعالية للتصدي للتنظيم بفعالية.
ثانيًا: اتفقت (الجزائر، ليبيا، موريتانيا، مالي والنيجر) على السماح لهيئات الأركان للجيوش الخمسة التابعة لها، بالمطاردة المستمرة للجماعات الإرهابية المنضوية تحت لواء التنظيم الإجرامي ما يعرف بـ«القاعدة” في المناطق الصحراوية، والسماح لها بعبور الحدود في منطقة الساحل والصحراء بعد إبلاغ الدولة التي تجري المطاردة داخل إقليمها، بشرط توفر قوات نظامية جاهزة للملاقاة في الدولة التي تجري على أرضها المطاردة.
ثالثًا: الاتفاق على التعاون العسكري بين هذه القوى النظامية الموحَّدة.
رابعًا: تجفيف مصادر تمويل الإرهاب والتصدي للمهربين، وتنفيذ مشاريع استثمارية شمال مالي والنيجر، وتكثيف الرقابة على منابع المياه المهجورة، مع التعهد بحفر آبار أخرى للسكان المحليين، بهدف حصر تحركات الإرهابيين، وهو ما تقوم به قوات الجيش الوطني الشعبي عبر مختلف الحدود الجزائرية لا سيما بالجنوب.
خامسًا: تكثيف الرقابة على منطقة الصحراء، ومراقبة مناطق الأودية والمرتفعات التي يسهل فيها إخفاء المركبات وحفر أماكن الاختباء، وهي منطقة تمتد من جبال أدغاغ أفوغارس شمال مالي وجبال أكادس إير شمال النيجر، مرورًا بوادي زوراك الذي يصل إلى جنوب الجزائر.
ويمثـِّل الجنوب الجزائري الذي يعدُّ جغرافيا منطقة ذات طبيعة صحراوية وعرة، وليس من السهل ضبطها بالاعتماد فقط على قوات حرس الحدود النظامية، فهذه المنطقة تحمل من الخطورة الأمنية نفس درجة التهديد الأمنيّ للعمليات الإرهابية في المناطق الجبلية الوعرة شمال ووسط الجزائر. لكن احترافية الجيش والأسلاك المشتركة نجحت في التصدي للإرهاب ودك معاقله مثلما يثبت من العمليات المتواصلة التي تثبت الإحصائيات القضاء على الكثير من رؤوس الإرهاب بعضهم كان متابعا منذ بداية العشرية السوداء.
انها استراتيجية اعتمدتها الجزائر الذي واجهت الإرهاب بمفردها في وقت سابق عندما كانت الفضائيات العربية والغربية تلفظ سمومها وتردد على الملأ المقولة الخطيرة “من يقتل من ؟«.
كانت الجزائر التي حذرت بلا توقف بأن الإرهاب عابر للحدود والأوطان، من أكثر الدول التي امتلكت الحجج الكافية لتبرير موقفها من مكافحة ‘’الإرهاب’’. كانت طوال سنوات التسعينات من القرن الماضي منكفئة على نفسها في محاربة هذه الظاهرة، وسط انتقادات كبرى من الدول الغربية التي كان معظمها يأوي أفرادًا من الجماعات الإرهابية، من الذين يتخذون من الإسلام غطاء ويتمتعون باللجوء السياسي في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، ويساهمون في التخطيط للعديد من العمليات الإرهابية داخل الجزائر.
ومن هنا، فإنَّ موقف الجزائر نابع من معاناتها من هذه الظاهرة التي خلّفت خسائر مادية بأكثر من 30 مليار دولار و200 ألف قتيل من ضحايا الإرهاب، إضافة إلى حصار طويل على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية.
في الجهة الأخرى تظهر منطقة الساحل الإفريقي من أكثر المناطق في العالم التي تشهد حالة من الانهيار والانفلات الأمني أو حالة اللاأمن وما يخلفه من أثار سلبية على السكان، حيث أصبحت المنطقة المصدر الأساسي لكثير من المشاكل التي ترتبط في الغالب بعدم توفر أدنى مستويات الحياة للأفراد، بالإضافة إلى غياب مفهوم الدولة وحالة الهشاشة والانكشاف الأمني والاقتصادي وخصوصا الاجتماعي الذي غالبا ما ينتج عنه أزمة هوية التي ينتج عنها تفكك المجتمع وبالتالي الدولة مما يؤدي إلى ظهور الدولة الفاشلة أمنيا ومجتمعيا.
المقاربة الجزائرية التي روجت عبر مختلف القمم والمنابر انصبت على إصلاح خلل المعادلة السياسية، بإعطائها التوازن الممكن في محيط مضطرب وتهديدات خارجية وصراع دولي ازداد شراسة وعنفوانا.
انصبت المقاربة السياسية على تسوية الأزمة باعتماد حلول جذرية تعيد الثقة بين الحكم المركزي والأطراف والحوار من أجل تعزيز أركان الجمهورية بإصلاح سياسي واقتصادي وتقوية الوحدة الترابية في مالي، وجعلها الحلقة الأقوى في لعبة الاستقرار بالساحل.
المقاربة الجزائرية التي تراهن على الحل السياسي يتولاه الماليون انفسهم عبر حوار وجدت الثقة واعتبرت المرجعية في المفاوضات.
بهذه المساهمة الدبلوماسية في تبديد مخاوف من تهديدات أمنية قولا وعملا، اثبتت الجزائر نجاعة سياستها الإفريقية وبينت بالملموس أن عمق الامتداد الإفريقي لحدودها يعد محورا استراتيجيا نظرا لثقل انعكاساته السلبية في حال عدم الاستقرار ليس فقط لأمنها الوطني بل لأمن دول المنطقة كافة وبمستوياته السبعة (الأمن المجتمعي، الاقتصادي، الثقافي، السياسي، العسكري، البيئي والصحي).