منذ أن أعادت روسيا ضمّ شبه جزيرة القرم في الصيف الماضي، اعتمد الغرب على استراتيجية العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية لإجبار الكرملين على سحب دعمه للانفصاليين في شرق أوكرانيا، ولكن سلسلة النّجاحات التي أحرزها الرّئيس الروسي فلاديمير بوتين مند ذلك الحين أبطلت فعالية هذه الاستراتيجية.
لا شك أنّ بوتين كان موضع ضغط غربي شديد على خلفية الأزمة الأوكرانية، لكنه رفض أن تصبح روسيا دولة معزولة دوليا خلف ستار حديدي جديد، فتحدّى العقوبات التي فرضت على بلاده وعمل على التّخفيف من وقعها من خلال إطلاق مبادرات كبرى مع بلدان ذات أهمية أمنية حيوية بالنسبة للغرب.
فمع إيران، أنشأت موسكو بنكا مشتركا يهدف إلى تمكين الشركات الروسية من توسيع التجارة الثنائية دون الاضطرار إلى استخدام العملات الغربية، وتقوم هذه الصّفقة على اتفاق “النّفط مقابل السّلع” الذي أبرِم الصيف الماضي، والذي بموجبه تحصل روسيا في مقابل سلعها على ما قد يصل إلى 500 ألف برميل من النّفط الإيراني يوميا.
وعلاوة على ذلك، وقعّت روسيا اتفاقية من شأنها أن تضمن استمرار شركاتها لاعبا أجنبيا مهيمنا في قطاع الطّاقة النووية السّلمية في إيران، وبموجب هذه الاتفاقية، تساعد موسكو طهران على بناء مفاعلين نوويين، وقد يصل العدد إلى ثمانية مفاعلات لن تستخدم غير الوقود النووي الروسي.
وفي كوريا الشمالية، أحرزت الدبلوماسية الروسية تقدّما أكبر، ففي الصيف الماضي أعفى بوتين كوريا الشمالية من 90 % من ديونها المستحقة لروسيا منذ الحقبة السوفياتية، والتي بلغت 11 مليار دولار أميركي، وأعلن أنّ المليار دولار الباقي قد يُستخدم جزءا من برنامج “الدين في مقابل المساعدات”، وتمويل مشروعات الصحة والطاقة والتعليم في كوريا الشمالية.
وفي نوفمبر الماضي كان سيرجي شويجن أول وزير دفاع روسي يزور باكستان منذ عام 1969، ووقّع مع رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف اتفاقا غير مسبوق قد يرسي إطارا للتدريبات العسكرية المشتركة، فضلًا عن حوار واسع النطاق حول القضايا الأمنية الإقليمية.
وعلاوة على ذلك، خفّف الكرملين من معارضته لحصول باكستان على العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون (التي تضم الصين وكزاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان)، كما وافقت الحكومة الروسية على بيع باكستان عشرين مروحية هجومية.
وكانت موسكو ممتنعة عن بيع معدات عسكرية متقدمة لباكستان حتى لا تفسد علاقتها مع نيودلهي، لكن مع ازدياد العلاقات الاستراتيجية بين روسيا والهند قوة، اكتسب بوتين الثقة الكافية لتعزيز التعاون مع باكستان.
كما وسعت روسيا ـ التي تمثل ثروتها الهائلة من الغاز الطبيعي إغراءً قويا بالنسبة لبكين ـ تعاملها مع الصين، ومررت صفقة صعبة في اتفاق توريد الغاز الذي أبرِم مؤخرًا بين البلدين بقيمة 400 مليار دولار على مدى ثلاثين عاما.
إنّ المناورات الروسية نجحت في تعقيد الجهود الدبلوماسية الأميركية إلى حد كبير من خلال إعطاء الجهات الإقليمية الفاعلة بدائلَ تجنبها الإذعان لضغوط واشنطن بشأن قضايا مثل منع الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب.
ورغم أن بوتين لم يخرق الإجماع الدولي بشأن هذه القضايا، فإنّه قادر على عرقلة تقدّم الولايات المتحدة وإرغامها على تغيير سياساتها تجاه أوكرانيا وسوريا وبلدان أخرى.