عرف العالم تحولات بنيوية وعضوية جد سريعة، أسست لتحول عميق على مستوى العلاقات الدولية، باعتبار أن العولمة أصبحت المحرك الرئيسي لتوحيد الأطر المعيارية والأنماط الهيكلية للنظم والحكومات. كما عرفت اتجاهات ونظريات الفكر الليبرالي ما بعد الحداثي توسعا كبيرا من خلال تعدد الأطروحات والمقاربات التي تُنَظّر لمفاهيم عدة منها صدام الحضارات، نهاية التاريخ، الديمقراطية، المجتمع المدني، حقوق الإنسان، دولة القانون والحكم الراشد، الاقتصاد الجديد والتنمية المستدامة.
كما يبدو واضحا أن التطورات الجيوسياسية الحاصلة على المستوى الجهوي، تحديدا في الساحل، والتحولات التي يشهدها المسرح السياسي الإقليمي والعالمي، ما هي إلا انعكاسات للتسارع في مسار العولمة على جميع الأصعدة وفي جميع المجالات، خصوصا ما تعلق منها بالجانب الأمني، لقد تميّزت البيئة الأمنية الجديدة بتحول نوعي على مستوى إدراك مصادر التهديد، الأمر الذي أسس لقيام أنظمة عسكرية ومعلوماتية حديثة ذات دلالة، أنتجت فضاءات اعتبرتها القوى العظمى مناطق رمادية “greyareas” تشكل خطرا على مصالحها. ومن بين تلك الفضاءات الساحل الأفريقي الذي يشكل أحد المجالات الجيواستراتجية الأكثر حساسية في العلاقات الدولية بعد التدخل الأطلسي في ليبيا، العامل الذي كان له تأثير كبير على المناخ الأمني الإقليمي على اعتبار أن تلك التحولات أفرزت اختلالا أمنيا واستراتيجيا في المنطقة، نتج عن تقاطع الأدوار المحورية للقوى العظمى، ماجعل فرنسا تسعى لإعادة ملأ الفراغ و حماية مصالحها ونفوذها عن طريق التدخل العسكري المباشر كأداة فعالة لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة.
البيئة الأمنية لمنطقة الساحل والصحراء في ظل المتغيرات الإقليمية الجديدة
أخذ ملف مكافحة الإرهاب حصة الأسد في مسار عمليات التنسيق الدولية خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، التزام الولايات المتحدة الأمريكية بإقامة سياسة إقليمية في منطقة شمال إفريقيا والساحل تعزز من خلال تقوية الروابط في المجال العسكري والأمني ودعم الأنظمة السياسية القائمة لمحاربة الجماعات الإرهابية في المنطقة. بالموازاة، عملت فرنسا باعتبارها قوة تقليدية في المنطقة على دعم تواجدها السياسي الأمني والعسكري في الساحل الأفريقي عن طريق عمليات التكوين والتدريب والدعم اللوجستيكي لدولال جوار كموريتانيا التي تربطها علاقات عسكرية متميزة. في أكتوبر 2009، استقبل الرئيس الموريتاني ولد عبد العزيز وفدا من الخبراء العسكريين الفرنسيين، ثم زيارة لرئيس الأركان الفرنسي الجنرال جورجلان تم على أساسها تزويد موريتانيا بعتاد وتجهيزات عسكرية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون في مجال التكوين من أجل تحسين قدرات الجيش الموريتاني لمكافحة الإرهاب في المنطقة، ما فتح مجال التنافس على أساس أن فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية لا يمتلكان نفس اتجاه الدول المؤيدة لها في المنطقة. فبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي تركز نشاطها وتعاونها مع الجزائر، في المقابل تتعاون كل من موريتانيا، المالي والنيجر مع فرنسا، ما أدى إلى اصطدام الاستراتيجيات رغم ما روج لمسألة تكامل الدبلوماسيتين من أجل تحقيق المصالح المشتركة في الإقليم.
إن التحديات التي تعرفها المنطقة جعلت من الضروري تنسيق المواقف والعمل على تكثيف جهود دول المغرب العربي فيما بينها وبين دول الساحل والقوى الفاعلة لإدارة الصراع في الساحل والصحراء، وذلك ما عملت من أجله الجزائر من خلال الاجتماعات العالية المستوى بمسؤولي الدول المعنية كاجتماع الجزائر في مارس 2010، واجتماع باماكو في 13 أكتوبر 2010، بالإضافة إلى تفعيل العمل المشترك في إطار اللجنة العملياتية المشتركة التي تجمع دول الميدان والتي تم إنشاؤها في أوت 2009 وإعطائها طابعا مؤسساتيا في اجتماع أفريل 2010 بتمنراست، من أجل إقامة إطار عملي فعّال يعكس درجة تموقع الدول المعنية لتحقيق مصالحها وأهدافها وفقا لإمكاناتها وقدراتها، وإنشاء أرضية تفاهم حول مكافحة الإرهاب والجرائم المرتبطة به في المنطقة.
إستراتيجية مكافحة الإرهاب كعامل حاسم لتقوية التأثير الأمريكي في المغرب والساحل تعكس حدود هذه الإستراتيجية رغم المجهودات التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية لتعميق الحوار والشراكة، إلا أن اختلاف وتباعد مدركات التهديد لدى الفواعل الدولية في المنطقة جعل المنطقة مسرحا لصراع المنطقيات الجيوسياسية.
تحديات وتهديدات وفشل السلطة البديلة
إن تحديات الملف الليبي وطبيعة التهديدات التي نتجت عن فشل السلطة البديلة في التحكم في الديناميكيات الأمنية سواء في الداخل والتي ترتبط بمسألة نزع سلاح المليشيات، أو في الخارج المرتبطة بمراقبة الحدود، قد جعلت من مسألة التقارب ضرورة حتمية تملي على دول الميدان تقوية العمل المشترك والالتزام أكثر في الميدان. كما لابد للجزائر أن تلعب دورا فاعلا في إقليم الساحل والصحراء، إذ يشكل هذا المجال الحيوي عمقا استراتيجيا للأمن الوطني الجزائري نظرا لشساعة حدودها والصعوبات التي يخلقها هذا الفضاء لتغطيته الأمنية، بالإضافة إلى ضعف أداء الدول المجاورة كمالي والنيجر وموريتانيا في تأمين الحدود نظرا لضعف إمكاناتها وتخبطها في الديون وتبعيتها المالية والاقتصادية للقوة التقليدية الاستعمارية كفرنسا. وبالتالي، بادرت الجزائر إلى العمل على رفع أداء البرامج التنموية لتلك الدول من خلال مقاربة الأمن بالتنمية والتي عكستها مبادرة “النيباد” وجميع المساعي الرسمية في هذا الإطار. من هنا، يمكننا رصد أهم التحديات الأمنية التي تواجهها المنطقة كنتاج للأحداث في ليبيا كالآتي:
•١ـ استقطاب منطقة الساحل لعمليات الجماعات الإرهابية المتطرفة
٢ـ •تفشي ظاهرة الجريمة المنظمة كاختطاف السياح والمطالبة بالفدية
٣ـ •انتشار الأسلحة الخفيفة ونصف الثقيلة والإتجار بها
•٤ـ تجارة المخدرات كمنطقة عبور من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا وآسيا
بالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقات الأطلسية الأمريكية الأفريقية الجديدة قد خلقت وضعا ثانويا يعكس مبدأ حق التدخل، لاسيما بعد أن انتقل التعاون الأمني من الحوار إلى الشراكة، وما يحمله من تداعيات سياسية تفرض على هذه الأنظمة وجوب تبني المقاربة الغربية حول مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية كأرضية يجب الانطلاق منها لتفعيل الشراكة.
تحول مدركات التهديد والرهانات الجيوسياسية للمنطقة
انطلاقا من ازدياد أهمية موقع منظومة القيم في تحديد مستقبل العلاقات الاستراتيجية، سلبا أو إيجابا، تحتاج صيغ التواصل القائمة على هذا الصعيد والتي يشملها عنوان الحوار إلى اهتمام مركز
يعطي أولوية أكبر إلى تثبيت نقاط الالتقاء في منظومتي الأمن والدفاع، بمنظور يأخذ بعين الاعتبار البعد الناعم للأمن ويعزز قابلية إسقاطها وتفاعلها الإيجابي. لقد قامت الجزائر بمهام جديدة أثبت من خلالها أهمية المقاربة الأمنية القائمة على مفهوم التنمية المستدامة بالنسبة لدول المنطقة، والدور الجديد الذي من الممكن أن تلعبه في السياسة العالمية. في الواقع، شهدت المنطقة العديد من المشاريع ومحاولات ترتيب الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية، جعلت غسان سلامة يرى في تلك السياسات نوع من الاختراق والاختناق والانسجام والانشقاق في نفس الوقت.
يؤكد روبرت هارماتس أن التوجهات التي طبعت مرحلة ما بعد الحرب الباردة جذّرت ورسخت محاولات القوى العسكرية المهيمنة فكرة إعادة صياغة الحقائق السياسية الدولية بالطريقة التي تفرض من خلالها رؤاها وتصوراتها لحل القضايا المرتبطة بأبرز توجهات النظام العالمي التي صاحبت موجة العولمة والاقليمية الجديدة كمشكل الأقليات، حقوق الانسان، الديمقراطية واقتصاد السوق. لكن التحولات العالمية وعلى رأسها أحداث 11 سبتمبر 2001 وحرب الخليج الثانية، وما أعقبها من التدخل في ليبيا ومالي، أدى إلى هشاشة واختلال نظام الأمن الجماعي في شمال أفريقيا والساحل، حيث تغيرت خارطة مدركات التهديد ومصادره لدى بعض الدول المشاركة في الحوار المتوسطي. لقد كان لتوسيع اهتمامات المنظومة الأمنية الغربية جنوبا وتعزيز نفوذها باتجاه إعادة صياغة الترتيبات الدولية، والتأثير على حركياتها واتجاهاتها، والتدخل الأطلسي في ليبيا ومالي أثّرا على منطقة المغرب العربي من حيث تصاعد وتيرة الاختراق الخارجي لأمن المنطقة، في ظّل سيطرة صراع النفوذ وتقاطع التصورات الأمريكية على مشاريع إعادة هيكلة نظام الأمن في المغرب العربي ومنطقة الساحل والصحراء وتداخلها مع التصورات الفرنسية كقوة تقليدية في المنطقة. إن التقاء مصالح وأهداف بعض الدول المغاربية بالقوى العظمى، والتحولات التي شهدتها الديناميكيات الأمنية في المنطقة، أثّرت في إدراكات النخب الحاكمة في المغرب العربي إذ تم العصف بالحد الأدنى للتوافق المغاربي حول العديد من القضايا الرئيسية أهمها محاولات دمج إسرائيل في المنطقة، وأصبحت المصالح القطرية تتفاعل مع المصالح العالمية والغربية بالذات على أساس تغير في الإدراكات باتجاه ظهور تهديدات إقليمية جديدة أدت إلى دخول المنطقة تحت تأثير الهيمنة الأمريكية نتيجة ضعف الهياكل الاقليمية وفشلها في ملأ الفراغ الاستراتيجي في الإقليم. لهذا، فإن أولويات القوى العظمى عكست نفسها على البيئة الأمنية المغاربية، فلم يعد أحد يتحدث عن أمن المغرب العربي أكثر مما يتحدث عن أمن المتوسط.
من ناحية أخرى اتجهت الاستراتيجية الأطلسية إلى إعادة تركيب المجال الجيواستراتيجي في شمال أفريقيا، وأصبح المسار السياسي للعلاقات والتفاعلات بين الدول المغاربية محل تناقض كبير، حيث أن أساليب ونظم الاتصال بين هذه الدول أصبحت تحددها القوى الدولية، ونجحت في تحقيق ذلك عبر خلق حالة تناقض بين أمن الدولة وأمن النظام الاقليمي، حيث يرى البعض أن الأولوية تكون لتحقيق أمن إقليمي يقفز على أمن وهيكل الدولة، في حين يرى البعض الآخر أن ضمان أمن الدولة هو الأساس والخطوة الأولى لتحقيق أمن الإقليم. ولكن عملت القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على كسر الرابط بين أمن الدولة وأمن الإقليم من خلال ربطها بالصفة الشخصية لزعامتها، ما ضاعف من عامل التفكك وأضعف من آليات التفاعل المغاربي. لكن الأثار المترتبة على التدخل الأطلسي في ليبيا وحجم التهديدات التي انبثقت من حالة اللاأمن في منطقة الصحراء والساحل، جعل إمكانية انسجام وتقارب سياسات الدول المغاربية أكثر واقعية من ذي قبل، لقد حدد مهدي تاج مجموعة من المخاطر التي تهدد منطقة الساحل هي كالاتي:
• انفجار النزاعات المسلحة الداخلية التي تؤدي إلى زعزعة الاستقرار كالذي يحدث اليوم في ليبيا
• أنشطة شبكات الجماعات المسلحة الدولية في المنطقة
• انتشار النشاطات غير المشروعة كتجارة الأسلحة والمخدرات والسيارات والسجائر والمواد الأولية والاتجار بالبشر ودفن النفايات النووية
• تكوين جماعات لترويج الأفكار الاسلامية المتشددة
• اتساع رقعة الهجرة غير الشرعية من الجنوب إلى الشمال نتيجة التفاوت الاقتصادي والضغط الديمغرافي والنزاعات المسلحة والحروب
• التغلغل الاسرائيلي الجديد في الساحل كشريك اقتصادي وعسكري بالمنطقة .
• غسيل الأموال
• صراع النفوذ في المنطقة حول الثروات النفطية
في ظّل الحركية المتغيرة في المنطقة، لابد من إعادة النظر في مفهوم الأمن وإعادة قراءة سياسية للمعطيات التي أفرزتها التحولات الجيوسياسية في المنطقة، وذلك من خلال تفعيل التعدد والتنوع في العلاقات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية الخارجية حسب منطق عقلاني يأخذ بعين الاعتبار التحولات البنيوية العالمية واتجاهات مستقبل القوة، مع ضرورة التنسيق بصفة منهجية، حذرة، سيادية وعقلانية مع مختلف مبادرات التعاون العملي على جميع المستويات، مع تطوير ميكانزمات للتعاون الإقليمي والجهوي من أجل مكافحة الإرهاب، والالتحاق بالجهود الرامية لتطوير شراكة دولية حقيقية مع محاولة إيجاد اتفاق دولي لمحاربة هذه الظاهرة العابرة للقارات.