طباعة هذه الصفحة

التربية، التكوين والبحث العلمي

مخلـفات الصـراع ورهانـات المستقبـل

بقلم: د. محمد العربي ولد خليفة

الحلـقـة3
والأخــيرة

ومن السّابق لأوانه تقييم التنظيم الذي اٌعتمده التعليم العالي في الجزائر ليسانس ماستر دكتوراه (L.M.D)، إذ من الضّروري تقدير منتوجه من الكفاءات المتوسّطة والعالية بعد دورة زمنيّة قد تستغرق عشريّة كاملة بعد تخرج منتوجها وممارسته في الميدان.
إن أبرع الأخصائيين في التكنولوجيا لا يستطيعون كما قال الأستاذ «رونيهماهو» (René Maheu) مدير اليونسكو السابق- في مؤتمر التكنولوجيا والبلاد النامية، لا يستطيع تحريك التقدم إذا لم يعززهم في عملهم هذا رجال حكماء يمسكون بالمقود ويدفعون بالريف والمدينة معًا إلى الأخذ بأسباب التطوّر والتقدم .
فيما يتعلق بالتراكم المعرفي في الجامعات الجزائرية وهي المطالبة بانتاج البحث الأساسي والنظري، فإن مردودها العلمي والتطبيقي أقل كثيرا من عددها، تقريبا جامعة أو مركز جامعي في كل ولاية، بعضها لا يحمل من مقاييس الجامعة سوى الاسم فقط وقد كنا من بين المحذرين من هذا السباق المكلف والمؤدي إلىضعف مستوى المتخرجين وقلة فرص التعارف بين الشباب أي عزلة الشباب داخل ولاية واحدة من الابتدائي حتى الجامعة فضلا عن هشاشة المخابر ومراكز البحث التي تشرف عليها أو المتصلة بها، حيث أن منتوجها لا يظهر في حسن التدبير والكفاءة في التسيير Savoir Faire ولا في عدد الأبحاث المنشورة في المجلات العالمية المحكمة التي يتجاوز عددها ألفين وخاصة ما ينشر في كتاب خلاصات الأبحاث الدورية Book of abstracts، والحقيقة أن القليل جدا من المجلات الجزائرية التي تحمل وصف محكّمة تستحق هذا الوصف.
هناك أيضا إلتباس شائع يضع علوم الإنسان والمجتمع في مرتبة الكماليات يرى البعض أنه يمكن الاستغناء عنها أو هي كما يقول الفيلسوف المرحوم محمد عزيز الأحبابيكلامولوجيا في معرض وصفه لمحاضرات جامعية أقرب للمتفرقات التي تطغى فيها جزئيات ثانوية على الفكرة والمعلومة الأساسية، وأن الإهتمام كل الاهتمام ينبغي أن يوجّه إلى الرياضيات والفيزياء وعلوم الطبيعة وحدها، وهذا توجه خاطئ بلا شك يرجع إلى التأثر بالوجه الظاهر والمباشر للحداثة والتقدم العلمي والتكنولوجي بعد صدمة الاحتلال الفرنسي للجزائر وإدراك مؤلم للفجوة التي تفصلنا عن الصناعات والتكنولوجيا عند القادمين من وراء البحر.
وهذا صحيح غير أن تقدم الولايات المتحدة وغرب أوروبا لم يكن في تلك المجالات وحدها، فقد كان ولا زال تقدما على كل الجبهات، ولعل الدليل على ذلك أننا نعتمد اليوم على دراسات تلك البلدان لتاريخنا ومجتمعنا ونحتاج إلى خبرة وبالأخص إلى مراجع وتفسيرات الباحثين في شؤون السياسة والثقافة والتربية وكل علوم الإنسان والمجتمع.
إنّ التقدم العلمي لا يتحقق بالفصل بين فروع ومجالات المعرفة التي تتبادل المناهج والاكتشافات والنتائج، فليس هناك في شجرة العلم فروع خسيسة وأخـرى شريفة، وقد أشـار محمد أركون M. ARKOUN في دراسـة بعنـوان: في نقد العقل الإسلامي  pour une critique de la raison
islamique1984 إلى ضعف الأبحاث في العلوم الدينية التي لا يرقى الكثير منها إلى المستوى الذي كانت عليه في القرن الرابع الهجري .
ينبغي أن نضيف إلى ذلك أن المؤسسة الجامعية التي بدأت في الجزائر لأول مرة في شمال إفريقيا سنة 1909، كانت غريبة عن الجزائريين باستثناء قلة لم تتجاوز حتى 1962 3.8% من مجموع الطلبة الأوروبيين، كما أن الجامعة التي تنسب اليوم إلى الجزائر استحقت وصف الوطنية بعد الإصلاح الكبير الذي تمّ على يد المرحوم وزير التعليم العالي محمد الصديق بن يحي في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وهو يستحق أن يعتبر أب الجامعة الجزائرية الوطنية.
 يبين تاريخ انشاء بعض الجامعات المعروفة بالتميز في البحث العلمي والاختراعات والفتوحات أنها تعود إلى ما يزيد على خمسة قرون بينما أندثرت أو تجمدت بعض الجامعات في المنطقة العربية والإسلامية نذكر من تلك الجامعات الشهيرة كامبردج التي أسست سنة 1209 وأكسفورد التي تأسست سنة 1167 في بريطانيا وكلاهما كان قبل ثلاثة قرون تقومان بالتعليم الديني وتابعتان للكنيسة، وجامعة روستوك في ألمانيا التي تأسست سنة 1419 وجامعة بيركلي .
ليس من المفيد المجادلة حول تصنيف وترتيب الجامعات التي تصدرها شانغاي أو بيركلي التي تردّ عليها السلطات الأكاديمية في جامعة الجزائر الأولى والأقدم أو زميلتها في باب الزوار.
الحقيقة أن مستوى التكوين العالي في بلادنا يعكس على أي حال الواقع الثقافي والاجتماعي والفجوة التي تفصل الجزائر عن ركب المقدمة، وتدارك تلك الفجوة أو تضييقها يتطلب من النخبة السياسية والعلمية جهدا مشتركا على المدى المتوسط والطويل مصحوبا بإرادة لبناء التقدم، فالإنسان هو الذي يثمن الامكانيات والوسائل أي يحسن توظيفها وليس العكس، إذ كلما تساءل أحدهم عن ضعف المنتوج الجامعي كان الجواب في الغالب هو قلة الإمكانيات والميزانية إلخ.
ونظرا للتطور السريع في التكنولوجيات الحديثة فإنّ هناك علاقة بين مختلف مراحل التعليم والتكوين المهني إذ أن تكوين العمال والموظفين المهرة وتدريبهم على مختلف المهن يستفيد من التطور الحاصل في اختصاصاتهم التي تعد بالآلاف، بما فيها الصناعات التقليدية، التي بقيت كما كانت عليه قبل قرون،ولعل الفجوة في قطاع التكوين المهني لا تقل عن الفجوة في مراحل التعليم من القاعدة إلى قمة الهرم وضعف منتوجه من المهارات نلمسه في آجال الإنجاز الطويلة ورداءة ما يُنجز.

شجرة العلوم والتكنولوجيا: جذع واحد بعدة أغصان

إن الاتجاه إلى تنمية الخبرة في ميدان العلوم الصحيحة والتقانات ينبغي أن يتعزز ويتأصل وينتشر في شتى شؤون الحياة، وأن يوازيه ويلتقي معه اتجاه مماثل يعمل على تنمية الخبرة في كل فروع المعرفة الأخرى، ونتساءل عن عدد وقيمة الأبحاث المتخصصة في علوم الإنسان والمجتمع للتنظير والتحليل وتفسير التحولات الجارية في بلادنا وداخل مؤسسات البحث العلمي مثل ماذا يحدث في جنوبنا؟ وما هي أوضاع المرأة؟ وماذا وراء الجنوح بكل أشكاله؟ وما حجم وقيمة الدراسات عن المتعاملين معنا في القوس اللاتيني L’arc latin (اسبانيا، ايطاليا، فرنسا، البرتغال)والشركاء الأقربين فيما يخص سياساتهم وأحوال مجتمعاتهم وثقافتهم واقتصادياتهم ؟ وما هو حال البحث الاستشرافي في جزائر الأمس واليوم؟.
تقاس الشراكة بين العلماء وقطاعات التنمية حسب معايير تقرير المكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة عن التنافسية الصادر لسنة  2011Global   competitiveness Report بالمؤشرات التالية:
القيمة المضافة محليا في المنتوج الصناعي.
نسبة التكنولوجيا ذات القيمة العالية في المنتجات المحلية.
نسبة الصادرات من المؤشرين السابقين إلى مجموع الصادراتالأخرى، أي من غير المواد الخام.
من الواضح أن تلك المؤشرات تمثل الهدف الذي ينبغي الوصول إليه في المدى المنظور، فالتنمية الوطنية لا تقاس بالوفرة المالية أو باٌستيراد الخبرة مقابل تصدير المواد الأولية، فلا يوجد أي من البلاد العربية وصل في المؤشرات السابقة إلى حدود 15%والبلاد التي تقترب من تلك النسبة، إنما كان أداؤها مقتصرا على نقل (délocalisation) صناعات معينة بسبب تلويثها للبيئة أو بسبب ضعف تكاليف اليد العاملة، وهذا هو الفرق بينها وبين تلك التي تصنف في مرتبة البلاد الصاعدة في جنوب شرقي آسيا وأمريكا اللاتينية.
لا شك أنّ التّكوين في الجامعات ومراكز البحث الأجنبيّة، وإرسال البعثات العلمية للتكوين العالي والمتخصص، أمر حيوي وخاصة في هذه المرحلة التي تجتازها بلادنا إذا خططنا لاٌستثمار ما اٌكتسبته من معرفة وخبرة في تطوير مجتمعاتنا، كما فعلت وتفعل بلدان جنوب شرق آسيا والهند والصين بوجه خاص. وما هي القيمة المضافة لجاليتنا في الخارج ماذا تاخذ؟ وماذا تعطي لبلد الأجداد؟ مقارنة بجاليات بلدان الجوار وخاصة نقل وغرس التكنولوجيات الحديثة الذي ساهمت فيها الجاليات الصينية وعلماؤها في نصف القرن الماضي.
لا غرابة إذن والحال على ما هو عليه، أن تعود أحيانا جهود باحثينا لصالح العالم المتقدم في الشرق والغرب، ومن الواضح أنه لا يمكن لأيباحث أو مشتغل في قطاعات التربية والمعاهد الجامعية أن يستغني عن الاٌطلاع عما يجري في العالم من تقدم في العلوم والفنون والآداب، إن تبادل الخبرات ومقارنتها تجري اليوم بسرعة كبيرة داخل العالم المتقدّم نفسه، حيث تنشر الدوريات المتخصصة  Abstracts ملخصات لكل ما ينجز من بحوث بعدد كبير من اللّغات، وتعدّ بالآلاف  كلّ سنة في مختلف فروع المعرفة النظرية والتطبيقية.
وبالنسبةللجزائر فإنّ نقل العلم والتكنولوجيا لا يتمّ بطريقة آلية، فلا بدّ أن تتوفر الآلية الضرورية للاٌستيعاب والتمثل في محاضن تكون مثل خلية النحل ويرجع قدر كبير من هذه الآلية بلا شك إلى سياسات المشرفين على منظومة التربية والتكوين والبحث وأن يتم تخطيط المعرفة والخبرة المنقولة في الزمان والمكان أي تطويعها للاٌحتياجات الحقيقية للمجتمع، حسب كل مرحلة من مراحل تطوره، وحسب اٌستراتيجية على وعي برهانات العصر وعلى المدى البعيد.
ويمثل هذا المسعى خطوة على الطريق لإخراج مشروع المجتمع المتقدم من المطلبية (Revendication) والمجادلات المتفائل منها والمتشائم إلى الواقع، إن التحكم في المعرفة والقدرة على تطبيقها (Know How)، هي منذ أمد بعيد أساس الأمن الوطني بمعنى اكتساب القدرة على الردع (Dissuasion)، والحد من التبعية المطلقة في عالم القرن الواحد والعشريـن وعولمته التي تستـفيد منها دولالمركـز (core states) على حساب العالم المُهمَّش وخاصة في المنطقة العربية والإفريقية التي ينظر إليها في أحسن الحالات كأسواق للاٌستهلاك وأماكن لنقل الصناعات الملوّثة وتخزين النفايات السامة والمُشعّة.
ولا ندري ما هو مصدر تقديرات النمو في إفريقيا ما بين 5 و 7% منذ حوالي عشر سنوات؟ وهي تتخبط في الفقر وتعاني من الأوبئة الفتاكة وتتجاوز فيها الأمية 50% من السكان وتفتقر للهياكل القاعدية، بل يقل دخل الفرد فيها عن 2 دولار في اليوم!! ولا نشير إلى الفتن والحروب الأهلية والانقلابات المسيّرة من القوّة الكولونيالية السابقة، ومؤتمرات التنمية التي تنظمها الدول الكبرى وكأنها تعيد اكتشاف إفريقيا وقد دمرت ثقافتها ونهبت ثرواتها لأكثر من أربعة قرون.
«انتهى»