طباعة هذه الصفحة

شهادات رفقاء الدرب ومذكرات لقادة الثورة في دراسة فوزي حساينية عن الرئيس الراحل

واقعية، نظرة استشرافية وصرامة... ميزات هواري بومدين

آمال مرابطي

قدّم الأستاذ فوزي حساينية إطار بمديرية الثقافة بقالمة دراسة حول حياة وواقعية الراحل هواري بومدين وقفة مع سيرته وحياته، وما ظهر في المدة الأخيرة من مذكرات من الرجال الذين عاشوا مع بومدين مثل مذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وأحمد طالب الإبراهيمي، تؤكد كلها أن بومدين ينطلق في عمله من أجل الوحدة المغاربية ودعم قضايا  تحرر الشعوب منها فلسطين والصحراء الغربية من منطلق مبدئي .التفاصيل الواردة في الدراسة تنفرد «الشعب» بنشرها.

في الـ27 من شهر ديسمبر لسنة 2014، حلّت الذكرى الـ34 لوفاة الرئيس هواري بومدين، وقد تعوّدنا أن نحتفل بذكرى وفاته، كما تعوّدنا أن نحتفل بيوم ميلاده، الذي يصادف الـ23 من شهر أوت، ميلاد القادة التاريخيين محطة مهمة تستحق الوقوف عندها والتمعن فيها تماما كالوفاة.
 وعلى أية حال فإننا إذا انطلقنا من الوفاة لابد وأن نتوجه صوب الميلاد، وعن ميلاده فقد ولد محمد بوخروبة وهو اسمه الحقيقي سنة 1932 في منطقة من مناطق مدينة قالمة تسمى ببني عدي، وهي جهة من أكثر الجهات فقرا وكثافة سكانية. وكان مولده في وقت بالغ الصعوبة، فرضته الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 التي طالت الجهة كما طالت أنحاء البلاد الأخرى.
كان والد هواري بومدين فلاحا متواضعا وصاحب ملكية صغيرة أتت عليها الأزمة، فجعلت حياة الأسرة فقيرة أكثر قسوة وحرمانا، وبصفة عامة، فقد كانت الحياة آنذاك بالنسبة لطفل جزائري حياة مذلة ومهانة، حيث الفرنسيون يملكون كل شيء ويفرضون الظلم والاستغلال على الجميع.
وقد ورث بومدين منذ صغره عن أبيه وطنية متأججة، وورث عن المدرسة القرآنية لمسقط رأسه، أين حفظ القرآن، بدايات توجهه الفكري والنفسي في الحياة، ذلك التوجه الذي ترسخ نهائيا على إثر الصدمة النفسية التي أحدثتها مجازر الثامن ماي 1945 وكانت مناطق خراطة وسطيف وقالمة مسرحا لها، حيث صرّح هو نفسه في إحدى خطبه بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية قائلا:« إن مجازر الثامن ماي التي عاشها، وهو في سن الثالثة عشرة ه، قد هزّته هزا عنيفا وشكلت بالنسبة له ذكرى أليمة انطبعت صورتها بذهنه وقلبه إلى الأبد».

في تنقل من أجل الدراسة

وكان الوالد حريصا على تعليم ابنه وضمان مستقبله، فلم يكن بد من أن ينتقل الطفل محمد بوخروبة من مسقط رأسه ببني عدي إلى مدينة قالمة، أين يكون بمقدوره أن يتابع دراسته ولم يكن بد والحال هذه، من أن يقيم عند بعض العائلات القالمية، وتنقّل بين عائلات ثلاث، وفي المدرسة التي تعرف حاليا بمحمد عبده في قلب مدينة قالمة غير بعيدة عن ثانوية محمود بن محمود، زاول محمد بوخروبة دراسته الابتدائية والمتوسطة.
وكانت المدرسة هي المكان الأول الذي يتلقى فيه الطفل الجزائري، الذي يسعفه الحظ بدخولها، صدمته الأولى، حيث كانت تخصص أقسام لأبناء الأهالي وأقسام لأبناء الكولون، مما جعل من أولئك الأطفال وطنيين بالقوة، مثلما روى أحد زملائه بالدراسة بالقول « أنه كان من المتقدمين في تعليمه وكانت المرتبة الأولى هي مكانه الذي لا يحب أن يتزحزح عنه، وإذا ما تقدّمه أحد من زملائه في مادة من المواد، فإن ذلك كان يشكّل تحديا له لا يهدأ ولا يطمئن إلى نفسه حتى يكسبه ويعيد الأمور إلى نصابها، فالرتبة الأولى في القسم كانت بالنسبة له لا تقبل المناقشة، وكانت كراسته من جانب الدقة والتنظيم مضربا للمثل بين مختلف الأقسام».
وكان محمد يرفض رفضا قاطعا أن يتناول وجبة الغذاء في المطعم المدرسي، الذي يعتبره مطعما فرنسيا وكان يرد على زملائه حين يلحّون عليه في وجوب تناوله للغذاء بمطعم المدرسة بقوله: «إنني أفضل الموت جوعا على ذلك»، فقد كان ذكيا قوي الذاكرة ونادرا ما كان يشارك زملائه ألعابهم المختلفة ويفضل في أوقات فراغه القليلة، أن يقرئ نفسه القرآن الكريم الذي كان يحفظه حفظا تاما منذ العاشرة من عمره.
وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية والمتوسطة لم يسلك سبيل زملاءه الذين اتجهوا إلى «الكوليج دي فرانس»، وإنما اتجه إلى المدرسة الكتابية بقسنطينة التي كان يشرف عليها أنصار ومناضلو حزب الشعب الجزائري، وهناك انخرط في الحزب العتيد الذي كان يمثّل أمل الجماهير، غير أنه لم يمكث بقسنطينة سوى ثلاث سنوات.
عاد إلى مسقط رأسه وبدأ في الإعداد لمشروع كان يخامره، كان يريد السفر إلى الخارج، وتحديدا إلى المشرق العربي لمواصلة دراسته، لكن عملية السفر وقتها لم تكن سهلة ولا ميسورة فهو شاب فقير ومن أسرة لا تستطيع أن تفعل من أجله شيئا أو تعينه بأدنى مساعدة، فضلا عن سياسة الاستعمار في التضييق على الجزائريين.
ولكن الشاب العازم لم يعدم الحيلة والوسيلة، ففي سنة 1948-1949 اشتغل قريبا من السنة بتدريس القرآن الكريم بمسقط رأسه أملا في توفير بعض المال للسفر، لكن ما جمعه كان زهيدا تافها لا يفي بأدنى متطلبات سفره.

الذهاب إلى المشرق العربي مشيا على الأقدام

ودائما في إطار استعداداته النفسية والواقعية للسفر، كان يجالس عمّه الذي حج مرتين اثنتين راجلا، وكان يستمع بين الحين والآخر قصة سفر ورحلة عمه إلى البقاع المقدسة وما عاشه وشاهده في الطريق، ولا شك أن العم كان يستمتع كثيرا بروايته وهو يقص أنباءه على ابن أخيه، بل كان يقوم بتسجيل التفاصيل المهمة في كراسة صغيرة ويسجل بنوع خاص المعالم والمسالك التي قطعها عمه، ومن خلال ذلك كله ارتسمت في ذهنه معالم الطريق التي سيقوم بقطعها في سبيل الوصول إلى المشرق العربي.
لما جاءت لحظة الانطلاق إلى المشرق وصحّ العزم اتفق محمد بوخروبة وصديقه شيروف على أن يضما إليهما صديقين آخرين في رحلتهما هذه، من قالمة وقام الصديقان بالتخلص من كل ما يملكانه من ثياب وكتب وذلك ببيعه للاستعانة بثمنه على مشاق السفر.
وعندما وقع اتفاق الأصدقاء الأربعة على السفر إلى الخارج وعلى نقطة الانطلاق التي هي مدينة قسنطينة تساءل أحدهم، ولكن كيف السبيل للحصول على جوازات السفر ؟ وهنا أخرج محمد بوخروبة في ثقة وهدوء كراسته الصغيرة وقال: «هذا هو جواز سفرنا».
وهو ما يشير بوضوح إلى أن الرحلة ستكون مغامرة، ليس لأنها رحلة على الأقدام فحسب، بل لأنها بمثابة هروب وتمرد غير معلن على الإدارة الاستعمارية، إذ كان بومدين سيستدعى عن قريب لأداء الخدمة العسكرية، وهي الفكرة التي كان يحتقرها ويرفضها بكل كيانه، وبالفعل بعد سفره بقليل جاءت قوات الدرك الفرنسي الاستعماري إلى والده وضايقته أكثر من مرة، يريدون معرفة مكان ابنه محمد، وكان الوالد يكتفي بجواب واحد: «لا أعلم مكانه» وحقيقة فهو لم يكن يعرف مكانه بالفعل، لأن الرحلة جرت في سرية تامة، ومن ذلك الوقت انقطعت أخباره عن أسرته، ما عدا رسالتين بعثهما إلى والده في الأيام الأولى من وجوده في القاهرة ولم يلتق بأمه إلا في سنة 1960 بتونس، أي بعد 12 سنة من الغياب والغموض.
وقد مرّوا في رحلتهم بتونس ثم ليبيا التي دمرتها الحرب وعند الحدود الليبية تراجع الصديقان الآخران عن إتمام الرحلة وواصل محمد وصديقه شيروف فقط وحدهما الطريق إلى القاهرة ، وبعد أهوال ومصاعب جمة وتحايل مستمر على شرطة الحدود، وتحمل لمشاق ومشاق، وصل الصديقان إلى القاهرة.  هناك لم يتأخر بومدين عن الالتحاق بالمكاتب التابعة للجنة تحرير المغرب العربي التي كانت تضم سنة 1954 الأحزاب الوطنية الثلاثة الهامة لشمال إفريقيا وهي حزب الدستور التونسي وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية الجزائرية وحزب الاستقلال المغربي.
 وفي القاهرة دائما قضى فترة أربع سنوات، عايش خلالها جملة من الأحداث خاصة ثورة الضباط  الأحرار عام 1952، تابع خلالها دروسا في جامعة الأزهر ودروسا مسائية في إحدى ثانويات القاهرة. ورغم أن هذه العاصمة العربية كانت تعج بالتيارات السياسية والإيديولوجية إلا أن الشاب الجزائري حافظ على استقلاليته الفكرية والنفسية، فانشغاله الوحيد هو العمل من أجل تحرير الجزائر، إذ أنه كان مقتنعا أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد والحل الأمثل لكسب معركة المصير.

التكوين العسكري ببغداد

وفي أثناء إقامته بالقاهرة قام رفقة مجموعة من الشباب برحلة إلى العراق، تلقّى فيها تكوينا عسكريا مركزا، وكانت هذه الدورة التكوينية هي النقطة الأخيرة في الرحلة المشرقية إذ بعدها في شهر نوفمبر عام 1954، قامت مجموعة صغيرة من الشباب الجزائري الثوري بالإرساء في إحدى الموانئ المغربية القريبة من الحدود الجزائرية المغربية على متن السفينة «دينا» وهي تحمل شحنة من الأسلحة بقيادة محمد بوخروبة.
منذ ذلك الحين بدأ الصعود السريع لبومدين، فمن ضابط بسيط مساعد لقائد الولاية الخامسة إلى قائد لنفس الولاية سنة 1957 برتبة عقيد وله من العمر 25 عاما، حيث أقام مركز قيادته في وجدة بالمغرب وأثبت قدراته في إعادة تنظيمه للولاية الغربية وفي عملية تجنيده لإطارات جيش التحرير الوطني.
ونتيجة أعماله الباهرة والمتكاملة في التنظيم والقيادة، عيّـن في 12 من شهر مارس 1960 قائدا عاما للقوات المسلحة لجيش التحرير الوطني، فكان هذا التعيين اعترافا من قادة الثورة لبومدين بقدراته وأعماله فجعل مركز قيادته على الحدود الشرقية وتحديدا في مدينة تونسية صغيرة نائية قرب الحدود الجزائرية يسمونها «جارد ماو» في حين أن الاسم العربي لها هو غار الدماء، ولكن هكذا ينطقها الناس جريا على النطق الفرنسي لها، وهي بلدة يقال أنها شهدت معارك مهولة في تاريخها القديم لهذا السبب، أي كثرة ما سال فيها من الدماء أطلق عليها اسم غار الدماء.
ومن مركز قيادته الجديد تابع النهوض بمهامه المتزايدة بكفاءة نادرة، ويستفاد من روايات الرجال الذين عاشوا مع بومدين وعملوا معه أو عرفوه عن قرب «أنه لم يكن يعرف الميوعة أبدا، بل كانت الجدية لا تفارقه أبدا ، وكان إيمانه بجيش التحرير الوطني فوق كل الشكوك. إذ لم يكن ينظر للحاضر فحسب، بل كان يخطط للمستقبل البعيد، فعبارة سننتصر وسنبني دولة قوية عبارة كانت كثيرا ما تتكرّر في خطبه على وحدات جيش التحرير الوطني وفي زياراته المختلفة للمجاهدين في شتى مواقعهم ومواقفهم».
لقد كانت فكرة «الدولة» فكرة محورية في فكر وشخصية الرئيس الراحل هواري بومدين منذ شبابه الباكر، ولا يمكن فهم أعماله وتصرفاته، وبصورة أخص مواقفه القوية الحاسمة داخليا ودوليا، إذا لم نضع في الاعتبار فكرة الدولة كفكرة جوهرية ورئيسة وكمفتاح يسمح لنا بتفسير أكثر مواقفه ديناميكية وجرأة.

قائد محنك وزعيم لا يعرف المستحيل

فقد اعترف له بصفة رجل الدولة حتى أعداؤه الألداء، فغداة وفاته التي لا تزال لغزا محيرا قال جيسكار ديستان الرئيس الفرنسي الأسبق:« الآن لا يسعني إلا أن أعترف أن بومدين كان رجل دولة حقا».
كما عاد فوزي حساينية في دراسته التي تحصلت «الشعب » عليها للحديث عن غار الدماء، حيث جعل غار الدماء مركز قيادته وواصل أعماله من هناك، وهنا وقف في دراسته حول جيش الحدود، حيث تحدّثت مختلف الكتابات عن هذه الفترة من تاريخ الثورة التحريرية بتهجم على جيش الحدود الشرقية والغربية، ولكن التهجم واقع بصورة أساسية على جيش الحدود الشرقية، ومجمل تلك الاتهامات أن جيش الحدود لم يكن ناهضا بدوره كما ينبغي في الثورة التحريرية وأنه كان مشغولا بالإعداد للاستيلاء على السلطة أكثر من اهتمامه بمتابعة مسيرة الثورة المسلحة، وعند وضع هذه الاتهامات على طاولة النقد سنجد أنها في غالبيتها العظمى بعيدة عن النقد التاريخي السليم، وإنها تريد تشويه سمعة الرجل الذي كان يضطلع بأعباء القيادة العامة لجيش التحرير الوطني في فترة حاسمة من تاريخ الثورة التي تميّزت بكثرة المناورات والدسائس الاستعمارية الهادفة إلى شق الصفوف وتمزيق الوحدة التي تحققت من خلال الكفاح المسلح .
وفي الاستقلال تولى هواري بومدين منصب وزير الدفاع ونائب الرئيس، غير أن تناقضات السنوات الأولى من الاستقلال دفعته إلى قيادة عملية التصحيح الثوري في 19 جوان 1965، مدشّنا بذلك مرحلة جديدة في الحكم ومفتتحا معركة بناء الدولة القوية التي آمن بها منذ شبابه الباكر. فكان التحرك شاملا صناعيا وزراعيا وثقافيا وكان بناء جيش وطني قوي من أولى الاهتمامات.
وبالموازاة مع الجهد الجبار الذي راح بومدين يبذله في ذلك على الصعيد الداخلي، آمن بالوحدة المغاربية ونادى بمغرب الشعوب، وآمن بدور ريادي للجزائر في إفريقيا، وقاد حملة المطالبة بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد، كما ساند في ثقة وشجاعة كل القضايا العربية القومية والتحررية في العالم، وعمل على إقامة الصلح بين إيران والعراق سنة 1975 وغيرها من المواقف التي تدعو للعدل والسلام.
وفي 27 ديسمبر 1979 رحل بومدين وانخرط في ركب الخالدين الذين صنعوا التاريخ، فخلد التاريخ ذكرهم وأعمالهم لتبقى منارة للأجيال.
ويقول فوزي حساينية رغم صدور العديد من الكتابات والدراسات حول حياة وأعمال الرئيس هواري بومدين، فإن هناك العديد من الجوانب المهمة التي لا تزال تنتظر مزيدا من البحث والتحليل والتعمق، خاصة وأن الرئيس الراحل لم يكن من هواة الخطب والتصريحات التي أبدع فيها ساسة العالم العربي، ولم يكن دأبه استغلال عواطف الجماهير الجزائرية أو العربية، بل كانت الكلمة عنده مرادفا للفعل، وكانت السياسة مبدأ واجب الاحترام وموقفا أخلاقيا لا يمكن التراجع عنه أو الإخلال به بعد إعلانه والالتزام به.