طباعة هذه الصفحة

مدير المصلحة التقنية للإذاعة السرية المجاهد معمري لـ»الشعب»:

مواجهة مخطّطات التّشويش الاستعماري تحدي رفعه التّقنيون

@ محمد مغلاوي

كان للتّقنيّين دورا هاما في نجاح الإذاعة السرية أثناء الثورة التحريرية، حيث حرص هؤلاء على إيصال صوتها إلى أبعد نقطة في الجزائر وخارجها، ولم تثنيهم مشاكل التشويش الذي كان يقوم به المستعمر الفرنسي عن أداء مهامهم، إذ استطاعوا في وقت وجيز من خلق عدة تردّدات وموجات رغم نقص التكوين والخبرة، سمحت للإذاعة مواصلة البث على فترتين إلى غاية الاستقلال. وكان من بين هؤلاء المجاهد عمار معمري، الذي شغل منصب مدير المصلحة التقنية من جويلية 1959 إلى أكتوبر 1960.
 يكن معمري يتوقّع أن يصبح تقنيا إذاعيا عندما حصل على تكوين بالقيادة الشرقية لسلاح الإشارة في تونس، حيث كان يحلم بأن يكون أستاذا في العلوم التقنية، لكن التربص الذي قام به كمصلح راديو من ديسمبر 1958 إلى جوان 1959، جعل المشرفين على المدرسة يقرّرون تحويله إلى الناظور للالتحاق بإذاعة الجزائر الحرة المكافحة، بعد أن قرّر مسؤولوها إعادة البث الذي انقطع في سبتمبر 1957 لأسباب تقنية.
يعود معمري في لقائه مع «الشعب» إلى الاهتمام الذي كان يوليه الثوار للإعلام وسلاح الإشارة، حيث ذكر أنّ صانعي الثورة الجزائرية كوّنوا العديد من الخبراء والمختصين في هذا الميدان، منهم مفكّكو الشّفرات، لما لهذا السّلاح من دور في تتبّع نشاط المستعمر ومواجهة مخطّطاته. وكشف أن بوالصوف عبد الحفيظ المدعو مبروك، هو من انتبه إلى أهمية المشروع للتصنت على الاتصالات التي يجريها الفرنسيون، فسعى إلى تكوين مختصين جزائريين. وتمّ إنشاء أول مدرسة للإشارة في جوان 1956 بوجدة من طرف حوالي 30 شخصا استفادوا من خبرات جزائريين تكوّنوا بالجيش الفرنسي على سلاح الإشارة، مثل علي ثليجي المعروف بعمار ثليجي، الذي التحق بالمدرسة بعد أن كان في مهمة تكوينية بالمغرب كلّفه بها الجيش الفرنسي، واتّصل به عبد الحفيظ بوالصوف رئيس مصلحة التجسس مستغلاّ تواجده بالمغرب لإقناعه بالالتحاق بالثورة بهدف الاستفادة من خبرته. انتقل ثليجي إلى وجدة، وكان في استقباله بوالصوف وبومنجل اللّذان عرضا عليه الموضوع فقبل بعد أن أعلموه أنّ عائلته مؤمنة من طرف المجاهدين، وتمّ تعيننه برتبة نقيب بالقيادة وانطلق في عمله بتكوين 4 أفواج، وقام بإنشاء قيادة جديدة لسلاح الإشارة بالشرق، اتّخذت من تونس مقرا لها في 1958، هناك حصل المجاهد عمار معمري على تكوين في سلاح الإشارة، الذي ذكر أنّ القيادة الشرقية كانت تحوي تجهيزات متطورة من صنع أمريكي، أتى بها الشهيد مسعود زوقار بعد أن كلّفه بوالصوف بمهمة الاتصال بالأمريكيين الموجودين بالمغرب في إطار حلف الناتو من أجل الحصول على أجهزة إرسال، كما كلفه بنفس المهمة ببروكسل، واستطاع زوقار أن يجلب 50 جهازا متطوّرا.
رغم أنّه لم يكن عضوا في طاقم الإذاعة السرية في مرحلة البث الأولى، إلاّ أنّه فضّل سرد بعض التّفاصيل عن تلك الفترة، حيث كشف أن الثوار فكّروا في تجسيد مشروع إذاعة سرية في 1 نوفمبر 1956 للاحتفال بالذكرى الثانية لاندلاع الثورة التحريرية، لكن إنشاء الإذاعة تأخّر إلى تاريخ 16 ديسمبر 1956، بسبب ــ كما قال معمري ــ نقص التقنيين.
يواصل عمار معمري سرده للوقائع في الفترة الأولى لبث إذاعة الجزائر الحرة المكافحة، قائلا أن بث الإذاعة كان مباشرا عبر شاحنة متنقّلة لمدة ساعتين تقريبا في اليوم، من الثامنة إلى العاشرة ليلا، وذكر أنّه استمع للإذاعة لأول مرة لما كان بجبال القل، قام على إثرها بإخبار كل من لخضر بن طوبال وعلي كافي وأمين خان بوجود الإذاعة السرية، وكشف معمري أنّ المذيعين كانوا يستعملون عبارة «جبهة وجيش التحرير يخاطبوكم من قلب الجزائر» لتمويه العدو، الذي كان يحاول في كل مرة التّشويش على بثّها.
 أُسّست لتكون منبرا حرّا للثّورة الجزائرية
 ويواصل معمري كلامه قائلا: «قد يتساءل البعض لماذا قام الثوار بإنشاء إذاعة بتقنيين ومذيعين ومحررين جزائريين في الخارج؟»، ليجيب: «الكثير من الإذاعات العربية خصّصت ساعة في الأسبوع للثورة الجزائرية، لكن نظرا للضّغط السياسي والمقص الذي كانت تتعرّض له فقرات البرامج خوفا على مصالح تلك الدول مع فرنسا، قرّر الثوار إنشاء إذاعة جزائرية مئة بالمئة لبث التّسجيلات والأخبار والبلاغات بكل حرية».
فريق العمل آنذاك كان يتكوّن من عبد المجيد قاوار، الذي أدار المحطة من 16 ديسمبر إلى نهاية سبتمبر 1957، أما طاقم المذيعين فضمّ بن شيخ الحسين المدعو الشيخ ميمون يقدّم البرامج تحت اسم عقبة بالعربية، بن عبد الله حمود المدعو السي خالد يقدّم البرامج تحت اسم يوغرطة بالقبائلية يساعده بلعيد عبد السلام، عبد المجيد مزيان يقدّم البرامج تحت اسم صلاح الدين بالفرنسية.
 ثلاثة مراكز بثّ وإرسال
 و6 موجات لمواجهة التّشويش
بعد توقّف دام عام تقريبا، عاد بث الإذاعة السرية في جويلية 1959 واستمر إلى غاية 3 جويلية 1962، كان يسيرها فريق من المذيعين والتقنيين تكوّن أغلبهم في مركز الإشارة بوجدة، ماعدا معمري وتقني آخر حصلا على تكوين بمركز الإشارة الشرقي بتونس. كان يديرها سوفي محمد المدعو سي كمال رفقة سكرتير الإدارة عبد المجيد حومة، ومسؤول التحرير محمد مسعودي الذي كان مذيعا أيضا، ومدير المصلحة التقنية عمار معمري، أما بالنسبة للمذيعين فهم: مدني حواس المدعو عبد اللطيف يقدّم فقرات بالعربية، كمال داودي المدعو سي كمال بالقبائلية، مصطفى تومي، سي خالد تيجيني، ولد خروبي محمد المدعو سي مولاي بالفرنسية. مهمة التسجيل والتركيب كان يقوم بها عبروق فريد، قدور ريان، غماري السعيد، دالي يوسف مصطفى، بن يمينة بلقاسم. مقيرش محمد، عدنان محمد، جبار علي، عبد القادر نور، لمين بشيشي وعبد الكريم.
يقول عمار معمري الذي عمل كمدير للمصلحة التقنية من جويلية 1959 إلى أكتوبر 1960، أنّ الثورة في تلك الفترة مرت بظروف عصيبة مع مجيء ديغول للحكم، فبعد أن كان عدد الجنود الفرنسيين يتراوح بين 200 ألف و400 ألف وصل عددهم إلى حوالي مليون و200 ألف بعد وقف إطلاق النار. أما عن الأجهزة المستعملة في الإذاعة فكانت ــ حسبه ــ متطوّرة، الأمر الذي صعّب من مهمّتهم في البداية بحكم أن تكوينهم كان على استعمال أجهزة بسيطة ما جعلهم يبذلون جهدا أكبر للتدرب عليها.
يتحدّث معمري عن انطلاق البث قائلا: «عملنا في مركز واحد يتم فيه التسجيل والتركيب بأشرطة كبيرة الحجم 25 سنتيمتر، يقوم الصحفيون بتحرير أخبارهم في النهار، على أن يتم القيام بالتسجيل في مصلحتنا، لتأتي بعدها عملية التركيب، ثم نقوم ببث المادة التي أنجزها الصحفيون مع النشيد الوطني وبعض الأناشيد الأخرى والبلاغات، ومعلومات عن ترددات الإذاعة، أي ما مجموعه ساعتين من البث تقريبا من الساعة الثامنة إلى العاشرة ليلا بالعربية والقبائلية والفرنسية. فيما يخص الأناشيد مع الأسف لم نكن نملك تسجيلات لأناشيد جزائرية، فكلّها عربية حماسية أنتجها المصريون بشكل ممتاز، كانوا يأتون لنا بها في أشرطة، وكنا نملك أيضا تسجيلات لأصوات الدبابات والطّائرات اقتنيناها من عند الأمريكيين، ونختم البث بالقرآن الكريم والتّذكير بالموجات القصيرة، هذه الأخيرة كانت أكثر فاعلية من المتوسطة، وبفضلها وصل صوت الإذاعة إلى جمهور أوسع في العالم».
زرعت الرّعب  في صفوف العدو
وذكر معمري أنّه بهدف تحسين الإرسال ومنع التّشويش، قرّر فريق عمل الإذاعة إضافة أوقات بث جديدة في الصباح ومنتصف النهار لكن ببرنامج واحد، أي ما يبث في السماء يعاد في فترتي الصباح ومنتصف النهار، وهذا لنقص المذيعين والتقنيين. وأضاف معمري أنه لما التحق بالإذاعة كان هناك مركز بث واحد تم فيما بعد تقسيمه إلى مركزين، الأول به جهاز بث كبير والثاني يتوفر على ثلاثة أجهزة صغيرة، وكل هذا من أجل رفع عدد موجات البث من واحدة إلى أربع موجات لمواجهة التشويش الذي كانت تتعرّض له الإذاعة. وفكّر عمار معمري فيما بعد في إنشاء مركز ثالث لخلق ترددات أخرى، شجّعه على ذلك المدير محمد سوفي ودعّمه عبد الحفيظ بوالصوف ماديا، وتجسّد المشروع في منطقة مفتوحة ومعزولة عن السكان بالناظور، وتمّ بناء مسكن بسيط للعمال مع وضع هوائيات للإرسال وتجهيز المركز بأجهزة متطورة سمح بخلق موجتين جديدتين، وحدّدت تكلفة المركز بحوالي 6 مليون دينار.
أصبحت الإذاعة تتوفّر على ثلاثة مراكز سمح لها بمواجهة كل أشكال التشويش التي كان يقوم بها المستعمر الفرنسي، الأول كان مخصّصا للبث، أما المركزان الآخران فكانا للإرسال والاستقبال، وكان فريق العمل يقوم بتجارب في النهار على كل الأمواج بجهاز القياس فقط دون صوت موسيقى أو مذيع تجنبا للتشويش وتسهيل عمل التقنيين فيما بعد أثناء البث. وكانت الأجهزة تحتاج إلى 15 كيلو واط «لكن بمعلوماتنا الخاصة كنّا نستهلك فقط من 5 إلى 6 كيلو واط».
وبهدف استقطاع أكبر عدد من المستمعين تمّ اختيار ثلاث لغات للبث، وعن ذلك يقول معمري أنّ العربية والقبائلية كانت من أجل تعبئة المستمعين الجزائريين، أما اختيار الفرنسية كلغة أجنبية بالإذاعة فكان الهدف منه تعريف الرأي العام الفرنسي والعالمي بالقضية الجزائرية، «ولو توفّر بالإذاعة مذيعين يتقنون الانجليزية والاسبانية لبثت برامج بهاتين اللّغتين».
وذكر معمري في الأخير أنّ الإذاعة استطاعت أن تكون سلاحا قويا في مواجهة الدعاية المغرضة للمستعمر الفرنسي، ساهم في نجاحها مجموعة من خيرة التقنيين والمذيعين، الذين رفعوا التحدي في ظروف صعبة للغاية بإمكانيات بسيطة زرعت الرعب والخوف في صفوف العدو، وزادت من ثقة الجزائريين في تحقيق النصر والاستقلال.