طباعة هذه الصفحة

في الذكرى الأولى لرحيل العلامة المجاهد

الدكتور أبو القاسم سعد الله فارس العلم والقلم ورائد المدرسة التاريخية الجزائرية

بقلـــم أحمد بن السائح باحث في التراث الجزائري

الحلـقــــة1

كانت الساعة الرابعة وأربع وأربعين دقيقة من مساء يوم السبت 14/ 12/ 2013 عندما هاتفني صديقي الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي، قال لي: «هل علمت آخر الأخبار ؟!!..» قلت على الفور: «لا» واستيقنْتُ قبل أن يكمل الخبر أن الأمر جلل ـ قال لي: «الدكتور سعد الله توفي إلى رحمة الله».. فكان الخبر الفاجع الذي زلزلني وهزني من الداخل، والأستاذ الدكتور مسعود فلوسي من القلائل الذين يعرفون عمق الرابطة والصلة الوثيقة التي ربطتني بالفقيد الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله..َوَدَّعْتُ الدكتور فلوسي، وبقيت وَاجِمًا مستغفرًا مترحمًا على هذا الرجل الفذ الذي أخلص للعلم وألزم نفسه بالمناضَلة الشريفة في مجال البحث العلمي ومتابعة الشأن الثقافي بوساطة جهوده المخلصة واهتماماته التي ركزت على إحياء التراث والتاريخ الجزائريين وتخليصهما من منظور المدرسة الكولونيالية.
 وبمناسبة الذكرى الأولى لرحيله رحمه الله، أكتب هذا المقال عرفانا بحقه وتذكيرا بجهوده وأعماله الرائدة ووفاء للعلاقة العلمية التي ربطتني به سنوات طويلة.

العلم والبحث العلمي كانا شغله الشاغل

كان المشروع العلمي الضخم، الذي تحمله فقيدنا المرحوم الدكتور أبو القاسم سعد الله ـ مما لا يتصدى له إلا الفحول من العلماء، ولا يصبر ويصابر على مشاقه والمعاناة في سبيله إلا أولئك الذين تشهد أعمالهم الخالدة على ما بذلوه في سبيل نشر العلم وترقية المعرفة بَلْهَ الإضافات المبدعة.
 ومن ثمة كان العلم هو شغله الشاغل، وكانت الدراسات الأكاديمية هي التي ارتضاها لنفسه عن قناعة وطواعية واختيار، وكان يردِّدُ دائمًا عبارته الذهبية: «... مشاريعي العلمية أكبر من عمري». وكان عليه رحمة الله كالنحلة الذكية التي أوحى لها ربك لتؤدي وظيفتها وفق الناموس المسطر لها متنقلة بين أنفع الأشجار وأفيد الأزهار، وكانت رحلاته ومحطاته بين أشهر المكتبات، وما فيها من نفائس المجاميع والمخطوطات، وكانت أجمل لحظات سعادته تلك التي يقضيها قارئا ومُدَوِّنًا ومقابلا بين النصوص ومُقَارِنًا بين المصادر والمراجع المتنوعة التي يعرف وحده كيف يغربلها وينخلها بمنهجه الصارم وطرائقه العلمية الدقيقة الموشحة بشروحاته وتعليقاته الثرية وملاحظاته القيمة التي يتدفق بها صلب قلمه، وهي بمثابة الشراب المختلف ألوانه يتشكل منها صميم العلم وجرثومته.
كان البروفيسور سعد الله مُبرمِجًا لأعماله، وكانت رزنامته الفكرية والعلمية ـ اليومية أَوْ على المدى الطويل ـ مزدحمة بكثرة الأعمال وتراكم المشاريع؛ والغريب أن مشاريعه لم تكن مقتصرة على اختصاص واحد يتعلق بالتاريخ كما قد يتبادر إلى كثير من الأذهان؛ وأعماله في الواقع قد يتغلب عليها التاريخ إلى حَدٍّ ما، ولكن مشاريعه بشكل عام لا تصب كلها في مجال التاريخ.

مسار حافل

بدأ سعد الله حياته إعلاميا، مراسلا من تونس في جريدة (البصائر) التي كانت تصدرها جمعية العلماء، وفي غيرها من جرائد تونس، وكان في خواتيم الأربعينيات ومطالع الخمسينيات من القرن الآفل شاعرًا شابًّا مُغَرِّدًا في آفاق الوطنية المكبلة من طرف الآسر المحتل، كما كان قَاصًّا مُبْدِعًا وصاحب خواطر رائعة نشرها هنا وهناك في جرائد الجزائر وتونس ومجلة (الآداب) البيروتية، وكان مُتَابِعا ومُطلِعا على ينابيع الثقافة المشرقية، وظل على تلك الحال قارِئًا نهمًا يطالع كل ما يقع في يده من كتب ومجلات وجرائد ومطبوعات.
 انتفع الدكتور بذهابه إلى تونس بكل ما كان يُنْشَرُ هناك من ثقافة متنوعة، وعلى الرغم من كثرة المواد التي كانت مقررة على طلبة الزيتونة يومذاك إلا أن فقيدنا ـ عليه رحمة الله ـ كان فَرَادَة بين أقرانه ولَدَّاتِهِ وظاهرة علمية تَنْمَازُ عن غيرها، وبذلك استطاع أن يُوَفِّقَ بين مهمة الطلب والتحصيل والإزدراد من الكتب الخارجة عن المقرر، وقد كان لكل تلك الكتب التي كانت تستهويه وتأخذ بمجامع قلبه الأثر البالغ في تكوينه وتحصيله اللغوي وصقل مواهبه في مجال الشعر والفن القصصي.
وفي تونس نجح في نشر تجاربه القصصية وأشعاره الأولى وخواطره المبدعة في جريدتي: (النهضة) و(الأسبوع) وهو دون العشرين، وفي تونس ـ أيضا ـ تعرَّف على أدب المشرق وتابع باهتمام وانتظام ما كانت تنشره: (الآداب) اللبنانية و(أبوللو) و(الرسالة) المصريتان وغيرهما من المجلات الأدبية التي لم تكن تصل إلى الجزائر، وكان مساره في هذا الاتجاه الجديد مُوَفَّقًا، بل كان بمثابة الفتح العلمي الجديد الذي جمع بين الاطلاع والنشر. والواقع أن انطلاقته ـ الإيجابية ـ وجراءته على النشر ومساهمته في الحياة الأدبية كانت من الحوافز التي جعلت طموحات الشاب سعد الله في محلها، وكسرت مخاوفه النفسية، وفسحت أمامه أبواب العلم وما فيه من تحديات وعراك فكري ونقاشات فيها الانتقاد والاختلاف الذي تمليه سلطة المذاهب الأدبية والمدارس الإجتماعية والفلسفية، بَلْهَ ما تفرضه هيمنة التيارات السياسية.
ومن جهوده في تلك الأثناء إسهامه بمعية زمرة من زملائه وصحبه المبدعين في تأسيس (رابطة القلم الجديد) التي اتُّفِقَ على تسميتها والانضمام إليها، و(رابطة القلم الجديد) جمعية أدبية غير معتمدة من أية جهة رسمية، واعتمادها الوحيد هو اتفاق أصحابها ومؤسسيها على تسميتها بهذا الاسم؛ وهي قائمة فيما بينهم فقط، وقد نشر بعضهم باسمها محاولاتهم الأولى، وهي تتألف من تونسيين وجزائريين، وكان أبرزهم هو صاحبنا الشاب أبو القاسم سعد الله الذي ظل أكثر التزاما بـ: (رابطة القلم الجديد).
 والملاحظ أن (رابطة القلم الجديد) كانت تفتقر إلى منبر يجمع شتاتها، ويتولى نشر إسهامات أعضائها الذين راح كل واحد منهم ينشر نتاجه الأدبي في أية جريدة أو مجلة تتاح له فيها فرصة النشر. وتبقى (رابطة القلم الجديد) رابطة قائمة بوساطة الاتفاق بين أعضائها، ولا يكاد يُعْرَفُ لها وجود في واقع الناس، فهي رابطة اقتصرت على مؤسسيها وحدهم.
وبعد ذهابه إلى دار العلوم بالقاهرة تفتقت مواهبه الإبداعية وراحت تشق طريقها نحو عالم النشر. وبالموازاة مع دراسته في دار العلوم استطاع هذا الشاب الذي جاء إلى القاهرة ـ بطريقة فيها الكثير من المغامرة والمخاطرة ـ أن يجمع بين الحسنيين، فكان جادًّا في دراسته، الأول في الترتيب دائما، متفهما لوضعه وكيف وَصَلَ إلى القاهرة بقليل من الزاد، وكيف غامر بالمجيئ متحديا كل المخاوف وأسباب اليأس التي كادت تقضي على طموحه المتفائل، وتدفن آماله العراض في الالتحاق بركب العلم والعلماء، وكان فقيدنا ـ طيب الله بالرحمات ثراه ـ يعلم أن وجوده في أرض الكنانة معجزة وهو الغريب الذي لم يكن يملك قوت يومه، كما لم يكن يعلم أين يولي وجهه وسط العاصمة المصرية التي تعج بالألوف المؤلفة من أمثاله الذين كانوا يتوافدون عليها من كل فج عميق، ليجد كل واحد منهم ضالته المتطلع إليها، ومقصده الذي جاء من أجله.
وفي دار العلوم التي تحققت طموحاته بالانتساب إليها، وجد نخبة من العلماء المحققين الذين أخذ عنهم أصول العلم وحقائق المعرفة، وكان نعم الطالب الوارث لعلمهم الغزير، فقد كان من أساتذته في دار العلوم المحقق الكبير الأستاذ عبد السلام محمد هارون والأستاذ الدكتور سامي الدهان والأستاذ الدكتور عمر الدسوقي.. وغير هؤلاء. وفي تلك المرحلة تابع أخبار النخبة المثقفة في مصر من خلال كثرة مطالعاته وشغفه بالأدب الذي هيمن على عقله، وشغل وقته بالإدمان والاستزادة من لذة القراءات المتواصلة التي جعلت منه فيما بعد سعد الله العالم المحقق وشيخ المؤرخين والباحث الأكاديمي الموسوعي.
وفي مصر شدته أيضا الحياة الفكرية وما كان فيها من جدل واختلاف بين أساطين العلم وجهابذة المفكرين، وهناك تعرف على حقيقة الواقع الثقافي وما كان فيه من مشاهد متباينة، وأدرك بوعيه الغض أبعاد رسالة المثقف ومواقفه الفكرية وما يترتب عليها من انتماء وتحديد اتجاهات، ومجابهة سلطة التفكير الموجَّه، والعض بالنواجذ على الاستمساك بحق حرية الرأي والتعبير، والتضحية في سبيل الذود عنهما وحمايتهما. وبالرغم من الظروف العسيرة التي التحق فيها بدار العلوم، فقد كان من أنشط الطلبة وأقدرهم على الإبداع والكتابة، وكان يحرص على تنظيم وقته وبرمجة نشاطاته التي لم يكن يحيد عنها يمنة أو يسرة بفضل انضباطه الدقيق والتزامه بالعمل الجاد.

صلات وثيقة برموز الفكر والأدب

وإذا كانت إسهاماته الأدبية وما تميزت به من تنوع وإبداع قد سجلت حضورها بشكل لافت في المشهد الثقافي، فقد تعرف من جهة أخرى على نخبة من رموز الأدب والثقافة وانجذب إليهم بمواهبه وطموحاته، وانجذبوا ـ بدورهم ـ إليه ليكون إضافة جديدة تدعم تطلعاتهم، وتضفي المزيد من المصداقية على مذهبهم الأدبي الجديد الثائر على القديم، وكان من ألمع الأسماء التي تعرف عليها الشاعر صلاح عبد الصبور والشاعر فاروق شوشة والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وعبد الرحمن الخميسي ويوسف السباعي ورجاء النقاش ومحمود أمين العالم ومحمد الفيتوري وعبد الرحمن الشرقاوي.
وبانضمام الأديب الشاب أبو القاسم سعد الله إلى هذه النخبة من أعلام الشعر الحديث في مصر، رمى وراءه ظهريا أوهام (رابطة القلم الجديد) التي كانت تمثل مرحلة محدودة ومؤقتة انتهت وانفرط عقد جماعتها بانسحاب الأستاذ سعد الله منها، فقد كان عمود خيمتها والأكثر نشرًا باسمها. والحقيقة أن (رابطة القلم الجديد) كانت قائمة على التوهم الذي اضطر أعضاءها إلى الإعلان عن إنشائها، وهي التي كانت تفتقر لكل المقومات القانونية والموضوعية والمادية التي ينبني عليها الإنشاء والتأسيس. ووجد الشاب سعد الله وسط هذا الوضع الثقافي الجديد ـ بمصر ـ ضالته التي كان يبحث عنها ويتغياها؛ فضاعف من كتاباته المبدعة في مجلة (الرسالة الجديدة) و(الآداب) البيروتية و(العالم العربي)، و(البصائر) الجزائرية قبل أن تتوقف نهائيا في أفريل 1956، واستطاع أن يُعرِّف بالأدب الجزائري ـ الذي ظل مغمورًا إلى حين ـ بدراساته العديدة على صفحات (الآداب)، بالإضافة إلى ما نشره من أشعار ودراسات نقدية تتلاءم مع توجهات (الرسالة الجديدة). وفي تلك الأثناء اشترك في العديد من المناشط الثقافية شعرا ونثرا وإبداعا في القصة والرواية والنقد، وكثف من مطالعاته المتنوعة، وكانت فترة تواجده بدار العلوم فترة خصبة توازى فيها التكوين العلمي الرصين وإشباع الرغبة من المطالعة مع المعاناة المتواصلة التي لا تعرف الراحة أو الانقطاع. وتحولت قراءاته إلى ظاهرة إدمان تقتصر عليه دون سواه، وتمكن في نهاية المطاف من الانتصار لثورته بطبع باكورة إنتاجه الشعري (النصر للجزائر) في (دار الفكر) بالقاهرة سنة 1957 وهي السنة التي وقع فيها (إضراب الثمانية أيام) ودارت فيها (معركة الجزائر) بعنف وضراوة زلزلتا قواعد الواقع الكولونيالي الجائر.
«يتبــــــع»