رغم تأكيد الأرقام الارتفاع المستمر في عدد الجمعيات المحسوبة على الثقافة في عاصمة الأوراس باتنة، والمقدّرة حسب مديرية الثقافة للولاية بـ 400 جمعية تحمل صفة “الثقافية”، وهو عدد كبير مقابل حضور “باهت” لأغلب هاته الجمعيات التي يفترض أن يكون حضورها فعليا وفاعلا ومؤثرا في الساحة، غير أنّ جولة استطلاعية بسيطة إلى المراكز الثقافية ودار الثقافة بالولاية، ومراقبة المناسبات الوطنية بباتنة خلال السنة يكفي لتكوين رأي مخالف لهذه المعطيات.
لا يفشي رئيس مكتب “الجمعيات والمؤسسات الثقافية” بمديرية الثقافة بولاية باتنة، السيد فريد بن بختة، سرا لجريدة “الشعب”، عندما يؤكّد “حقيقة مرّة ومؤسفة” تتمثل في العدد الحقيقي للجمعيات الثقافية النّاشطة فعليا بالولاية باتنة، فمن أصل 400 جمعية ثقافية معتمدة وموجودة على الورق، نجد 35 جمعية ناشطة في الميدان “فقط”، وهو رقم مخيف يجعلنا نتوقّف هنا للحظات للاستفهام عن هذا “التناقض” الصارخ في ميزان المعادلة الثقافية بالولاية باتنة.
يؤكّد السيد فريد بن بختة المسؤول عن الجمعيات الثقافية بمديرة الثقافة بباتنة، أنّ اهتمامات الجمعيات الثقافية بباتنة مختلف يتوزّع بين تلك المهتمة بالطفولة وأخرى بالمسرح والتراث المادي، وغيرها المهتمة بالفن والموسيقى والفلكلور...غيرها. واعتمد المعني في تقييمه لهاته الجمعيات من خلال “نشاطها السنوي في الميدان”، حيث يشير المتحدث إلى تقديم المديرية بتوجيهات من الوالي لكل الدعم المادي والبشري للجمعيات الراغبة في النشاط ولا حرج في ذلك، غير أن هناك جمعيات “مناسباتية” يضيف السيد بن بختة لا همّ لها سوى “الدعم المالي”.
وتقوم المديرية بمراسلة الـ 61 بلدية موزعة عبر إقليم الولاية باتنة، لإعلام كل الجمعيات لإرسال برامجها السنوية والمناسباتية لإعانتها ماليا، لتجتمع بعدها لجنة من المديرية تقيم البرامج وتقترح على الوزارة دعمها ماليا.
تحوّلت الجمعيات الثقافية بعاصمة الأوراس إلى فضاءات حقيقية “للركود” بدل صناعة الرأي العام الثقافي، بسبب غياب التكوين والوعي لدى المنتسبين لهذه الجمعيات، والتي أصبح حتى رؤساؤها لا يجيدون كتابة برنامج سنوي فما بالك بتنظيم تظاهرات تفعل الحركة الثقافية، وهو ما حوّلها إلى “حلبات” للمصارعة على مكاسب مادية والتموقع خدمة لأغراض بعيدة عن الأهداف التي أسست من أجلها، كما نجد “انعدام” مقرات لتلك الجمعيات حلقة أخرى تضاف إلى مسلسل “تراجع الجمعيات الثقافية” عن أداء أدوارها، وهي الحقيقة التي وقفنا عليها خلال هذا الاستطلاع.
الصّراعات غير الثّقافية ميزة الجمعيات بباتنة
نقلنا انشغال الجمعيات على مسؤولي مديرة الثقافة، حيث يردّ السيد بن بختة على “اتّهاماتها” بخصوص قلة الدعم المالي بأنّ المعايير التي تعتمدها المديرية وحتى الوزارة في منح الدعم مضبوطة قانونيا بشكل صارم، ولا مجال للمحاباة والمجاملة فيه، بحيث تكون الجمعيات المحلية مجبرة على المرور عبر مديريات الثقافة التي تعطي رأيها في الموضوع، وتخضع بعدها تلك الطلبات إلى دراسة عميقة ودقيقة ومفصّلة من قبل اللجنة التي تحدد أولويات الوزارة بخصوص الجمعيات التي تستفيد من الدعم، وهي الجمعيات النّاشطة خاصة في ما يتعلق بحقوق الطفل وترقيتها وحماية التراث اللامادي وتطويره وغيرها. ويمنح الدعم للجمعيات التي تفرض نفسها في الميدان ببرنامج عمل واضح ودقيق، ويساير الأهداف المسطّرة من قبل الوزارة والقانون الخاص بدعم الجمعيات، وهي الجمعيات التي تعمل على ترقية التراث والتعليم ودعم النهوض بالتاريخ والإرث الحضاري والثقافي وتعليمه.
غياب الدّعم المالي أجبر الجمعيات على “إسقاط” برامج ثقافية ثقيلة من أجندتها
اتّفقت أغلب الجمعيات التي سألتها جريدة “الشعب”، بخصوص برامجها السنوية ودروها “المفترض” في تحريك عجلة الثقافة بالولاية باتنة، على أنّ غياب الدعم المالي من طرف مختلف الجهات المعنية من بلدية وولاية ومديرية الثقافة وأخيرا الوزارة الوصية دفعها بل وأجبرها على إسقاط برامج ثقيلة من أجندتها، في كثير من المرات، حيث ترفض أن تتّهم بـ “التقصير” في أداء ما أنشأت لأجله.
ونجد جمعية “حماية الطفولة والشيخوخة”، وجمعية “زهرة الأمل الثقافية” و«ترقية الشباب” و«بانوراما للسينما والثقافة” وغيرها من الجمعيات الثقافية تؤكد ذلك، حيث تكتفي حسبها الدعم المالي المقدّم من طرف الأعضاء المنخرطين.
وتؤكّد هنا رئيسة جمعية زهرة الأمل الثقافية أمال بكاي، وسامية غضبان رئيسة جمعية ترقية الشباب ومحمدي عمار رئيس جمعية بانوراما للسينما والثقافة، أنّ الملتقيات مثلا الوطنية أو الدولية الخاصة بشأن ثقافي معين تحتاج إلى غرف مالي معتبر لإنجاحها، فاستدعاء مثلا أديب عالمي وما يلزم ذلك من تذكرة للطائرة وتوفير مبيت محترم له، قد يكلف الجمعية ميزانيتها السنوية كاملة، في ظل العجز عن تغطية سعر تذكرة الطائرة.
وهناك من الجمعيات من ذهبت بعيدا في نقدها للمحاباة في منح الإعانات مطالبة الجهات المسؤولة أن تفهم بأنها لا نحتاج إلى صدقة بل إلى دعم مالي محترم يتوافق مع قيمة النشاط الثقافي المنظم كونه يمثل واجهة البلد الثقافية.
وفي سياق متصل، يرى بعض المهتمين بالوسط الجمعوي بولاية باتنة، أن غياب الدعم المالي يستهدف الجمعيات النشطة، في حين تلتهم جمعيات على الورق مبالغ مالية معتبرة، وهذه الأخيرة موجودة فقط على الورق. وهنا يؤكّد ضيف “الشعب” فريد بن بختة الذي وجّه عتابا لبعض الجهات الرسمية ممثلة في المجلس الشعبي الولائي وولاية باتنة، مثلا والتي يقوم بمنح أغلفة مالية هامة لجمعيات “لا نشاط لها” سوى في الورق، حيث يطالب المتحدث باستشارة مديرية الثقافة قبل منح الإعانات، لأن المديرية حسبه هي الجهة الأكثر معرفة بالجمعيات ووجودها في الميدان، أو على الأقل يضيف المتحدث تعيين لجنة ولائية من مختلف الفاعلين في الحقل الثقافي، وتستقبل طلبات الإعانات المالية من طرف الجمعيات وتدرسها في إطار شفاف والإعانة تمنح للأكثر نشاطا على مدار السنة، ولا حرج في وجود ممثلين عن “المجتمع المدني” في هاته اللجنة الولائية، والتي توكل لها مهمة مراقبة مدى التزام الجمعيات ببرامجها السنوية المقدمة سلفا.