طباعة هذه الصفحة

محمد حشماوي ،أستاذ العلوم الاقتصادية:

القطاعات المنتجة بديل لمواجهة التقلبات

حاورته: فضيلة بودريش

يتوقع الدكتور محمد حشماوي، أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة الجزائر، أن الاستمرار في تراجع سقف أسعار النفط ينذر الدول المصدرة على غرار الجزائر بقدوم مرحلة صعبة في حالة استمرار هذا الاتجاه التنازلي، ويفرض عليها التفكير الجدي والسريع لمواجهة هذا الوضع قبل فوات الأوان، لأن الاعتماد على مواجهة العجز عن طريق صندوق ضبط الإيرادات لا يعد إلا حلا مؤقتا، كون الحل الحقيقي يكمن في البحث وإيجاد مصادر تمويل جديدة وبديلة للاقتصاد الوطني، ويعكف الخبير على تشخيص واقع السوق النفطية وآفاقها خاصة في إطار منظمة “الأوبيك”.

 “الشعب”: تقدم مؤشرات أسواق المحروقات في الظرف الراهن معطيات تستدعي الانشغال بالنسبة للبلدان التي تعتمد على موارد البترول لتمويل اقتصادها ما هي الأسباب والآثار المترتبة عن ذلك؟
محمد حشماوي: تؤكد المؤشرات أن أسعار النفط خلال السداسي الثاني من السنة الجارية فقدت ما يناهز 35 بالمائة من قيمتها، بداية من شهر جوان الفارط، على اعتبار أن سعر البرميل الواحد من النفط بلغ 69.46 دولار، ويعود هذا الانخفاض في الأسعار إلى مجموعة من الأسباب، ونذكر منها تراجع الطلب ووفرة الإنتاج الذي يعد من أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا الانخفاض في الأسعار، بالإضافة إلى العوامل الجيو سياسية، التي ساهمت بدورها في هذا المنحى التنازلي، ويمكن القول في سياق متصل أن الاختلال بين الطلب والعرض مرّده إلى عدة أسباب من بينها:
-ارتفاع إنتاج منظمة “الأوبيك” بـ 970.000 برميل يوميا، رغم أن المتفق عليه يتمثل في 30 مليون برميل يوميا.
- ارتفاع إنتاج الدول خارج “الأوبيك” وعلى وجه الخصوص إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية، التي تزايد إنتاجها النفطي بنسبة لا تقل عن 70 بالمائة منذ سنة 2008 واستغلال النفط الصخري الذي تجاوز إنتاجه 9 ملايين برميل يوميا.
- تراجع استيراد الولايات المتحدة الأمريكية للنفط، حيث انخفض من 60 بالمائة سنة  2005 إلى 33 بالمائة في سنة 2013، ويتوقع أن يسجل المزيد من الانخفاض في السنة المقبلة على حدود 22 بالمائة.
- انخفاض طلب دول منطقة اليورو والدول الصاعدة، على غرار الصين والهند على النفط بفعل تباطؤ نموها متأثرة بتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.
وفيما يتعلق بالأسباب الجيو سياسية، فيمكن القول أنها تتمثل في استعمال أسعار النفط إحدى أدوات الحرب والصراع السياسي والجيوسياسي بين الدول، لأن الدول الغربية بشكل عام، والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، تسعى من خلال انخفاض الأسعار إلى تعزيز العقوبات الاقتصادية على روسيا، وإضعاف اقتصادها، ودفعها للتراجع عن مواقفها بخصوص سوريا وأوكرانيا، في حين العربية السعودية التي يشكل إنتاجها 32 بالمائة من إجمالي إنتاج منظمة “الأوبيك”، تهدف من خلال انخفاض الأسعار إلى إضعاف إيران والتأثير على دورها في المنطقة، وفي نفس الوقت مواجهة خطر النفط الصخري على مكانتها في السوق النفطية.
أما فيما يخص التداعيات المحتملة لهذا الانخفاض في أسعار النفط، يرتقب أن تكون متفاوتة بين الدول المنتجة والدول المستهلكة. وفيما يتعلق بالدول المنتجة، فإن التي تصدر أكثر في ظل هذا الانخفاض، هي الدول التي تعتمد بنسبة كبيرة في تنميتها على إيرادات النفط وتكلفتها مرتفعة لهذه المادة على غرار روسيا وفنزويلا ونيجيريا وإيران والجزائر، في حين دول الخليج فلن تتأثر بشكل كبير بهذا الانخفاض، نظرا للتكلفة المنخفضة لإنتاج النفط وتقليص الاعتماد عليه في الموازنات.
وحول آثار ذلك على الدول المستهلكة، رغم أن انخفاض الأسعار لا يخدمها على المدى البعيد، إلا أن تقلص فاتورة استيراد النفط من شأنه أن يساهم في انتعاش اقتصادياتها، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي أن انخفاض أسعار النفط بـ 30 بالمائة سيعمل على رفع الناتج الداخلي الخام العالمي بـ 0.2 نقطة أي ما يناهز 0.8 بالمائة سنويا، وارتفاع الناتج الداخلي الخام لدول منطقة اليورو بـ 0.25 بالمائة كل سنة.  
 تتوفر الدولة حاليا على موارد تضمن الحفاظ على وتيرة التنمية، لكن وبعيدا عن خطاب التشاؤم، ألا يتطلب هذا التزام الحذر في تسيير الميزانية، وماذا تقترح لتعويض النقص المحتمل في الإيرادات؟
انتهجت الجزائر منذ سنوات سياسة حذرة لدى إعداد موازناتها السندية، من خلال اعتماد 37 دولارا للبرميل كسعر مرجعي، وإنشاء صندوق ضبط الإيرادات، وتوظيف مبالغ هامة من احتياطاتها في مساحات مالية آمنة، لكن رغم هذه السياسة الحذرة، فاعتماد الجزائر بشكل كبير على إيرادات المحروقات في موازناتها وخططها التنموية من جهة، وانخفاض أسعار النفط من جهة ثانية، تنبئ بقدوم مرحلة صعبة تنتظر الجزائر في حالة استمرار هذا الاتجاه التنازلي لأسعار النفط.
وعلى ضوء الأرقام الرسمية، فإن إيرادات النفط لهذه السنة، من المقرر أن تصل إلى حدود الـ 60 مليار دولار، بينما تصل فاتورة الاستيراد إلى 65 مليار دولار ويضاف إلى هذا ارتفاع الاستهلاك المحلي للطاقة واستقرار الإنتاج. إذا كل هذه المؤشرات تستدعي ضرورة التفكير في مواجهة هذا الوضع قبل فوات الأوان، لأن الاعتماد على مواجهة العجز عن طريق صندوق ضبط الإيرادات ليس إلا حلا مؤقتا، كون الحل يكمن في البحث وإيجاد مصادر تمويل جديدة للاقتصاد الوطني، على غرار التمويلات البنكية، والأسواق المالية والاستثمارات عن طريق الشراكة للرفع من الإيرادات خارج قطاع المحروقات، مع تنويع وديمومة مصادر التمويل.  
حتى لا تصنّف ثروة البترول “نقمة” كما يتحدث به البعض، كيف يمكن توظيفها نعمة للأجيال، من خلال ضخها في دواليب الاستثمار، خاصة على المدى القصير؟
لا أتفق مع من يرى أن النفط نقمة، واعتبر أن النفط نعمة من الله، يجب علينا استغلالها استغلالا رشيدا عن طريق توجيهها للاستثمار في القطاعات المنتجة للقيم المضافة وكذا في الموارد البشرية، وفي صدارتها المعرفة، لأن هذه الأخيرة والتي من شأنها توفير التكنولوجيا صارت تشكل عنصرا جوهريا يعوّل عليه في خلق الثروة وتحقيق التنمية المستدامة.
إرساء اقتصاد بديل خيار حتمي، ما هي القطاعات التي يراهن عليها دون انتظار كثير من الوقت؟
لا يخفى أن الجزائر منذ سنين رفعت شعار التحضير “لمرحلة ما بعد البترول”، لكننا نتأسف على عدم تجسيد هذا الشعار على أرض الواقع، كون الجباية البترولية مازالت تتجاوز الـ 60  بالمائة من مداخيل الجزائر، وإيرادات المحروقات بدورها تفوق 97 بالمائة من الإيرادات العامة في وقت لا تتعدى الإيرادات خارج المحروقات 3 بالمائة.  
وفي ظل هذا الواقع، يبقى الاقتصاد الجزائري تحت رحمة أسعار النفط وتقلباتها، لأن التحرر من هذه التبعية للمحروقات، مرهون بالتوجه إلى تبني إستراتجية تعتمد على الاستثمارات في القطاعات المنتجة، بدلا من ضخ مداخيل ريع المحروقات في مشاريع غير قادرة على خلق الثروة.  
ونذكر أن الاقتصاد الجزائري يعاني من الهشاشة وضعف المردودية في مختلف القطاعات الاقتصادية، ومواجهة هذه الهشاشة والرفع من مردودية المؤسسات الاقتصادية، ينبغي على الجزائر استغلال الوضع الحالي داخليا وإقليميا ودوليا، لتجسيد توجهات اقتصادية واضحة الأهداف و تسخير الوسائل الضرورية لتحقيق هذه الأهداف، عن طريق الاعتماد على الاستثمار في الموارد البشرية، مع تشجيع إنشاء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحسين أدائها وإعادة هيكلة القطاع العام، بفضل تطوير “المانجمنت” وتحديث القطاع الصناعي وفروعه المختلفة، نظرا لأهميته، كقطاع محرك ومؤثر في تطوير القطاعات الأخرى..  
 إنتهى الاجتماع الأخير لـ«أوبيك” بعدم تقليص الإنتاج الفائض، لماذا ارتفع العرض وتراجع الطلب خارج معادلة السوق، وما مستقبل المنظمة؟
إبقاء منظمة “الأوبيك” على سقف إنتاجها عند مستواه الحالي بدون تغيير، كان متوقعا، لأن معظم دول الخليج بقيادة العربية السعودية، كانت تعارض خفض الإنتاج من أجل الحفاظ على حصصها في السوق، ومواجهة زحف الإنتاج النفطي الصخري، وما دعم هذا الموقف السعودي موقف الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص ومجموعة العشرين بشكل عام من خلال بيانها في آخر قمة حيث لم يتطرق لأسعار النفط. ورغم محاولة بعض الدول مثل روسيا وإيران وفنزويلا إقناع السعودية بخفض الإنتاج، إلا أن هذه الأخيرة وحلفائها رفضوا هذا الطلب، بسبب أنه لن يؤثر في الأسعار، مادام أن الدول المنتجة للنفط خارج “الأوبيك” وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لم تخفض من إنتاجها. وهذا يعني للعربية السعودية فقدان جزء من حصتها لصالح هذه الدول، لذا ينبغي ترك السوق تصحيح الفائض وكذا الأسعار.  
وما تجدر إليه الإشارة، فإن قرار الإبقاء على نفس سقف الإنتاج أثار الكثير من المخاوف من انخفاض أكبر للأسعار الذي تراجع إلى أقل من 70 دولارا للبرميل، عقب انتهاء اجتماع “الأوبيك” الأخير في ظل تراجع الطلب ووفرة الإمدادات. وتضاعفت المخاوف أيضا بعد هذا القرار حول ظهور حرب تخفيض الأسعار بين دول منظمة “الأوبيك” وتفكك وحدتها في وقت توجد في حاجة لرّص وتماسك صفوفها لمواجهة إحدى أشد موجات انخفاض الأسعار حدة منذ الأزمة المالية لسنة 2008.