لم يكن تفجير ثورة التحرير في أول نوفمبر 1954، الذي حلت ذكراه الـ60 أمس، واحتفل به الشعب الجزائري في كنف الوحدة والانسجام والتطلع لمزيد من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، مجرد مسار من أجل استرجاع الاستقلال، بقدر ما كان مشروعا تحرريا يحمل أهدافا اقتصادية واجتماعية، يرمي إلى تغيير الأوضاع التي كرّسها الوجود الاستعماري منذ أن دنّس الاحتلال الفرنسي أرض الجزائر الطيّبة، مستهدفا منذ البداية نهب الخيرات التي حبا بها الله هذا الوطن واستغلال الإنسان إلى أقصى حد مع كل ما رافق ذلك من سياسة عنصرية ممنهجة للإهانة والاحتقار، وقمع بلغ درجة الإبادة لكافة المقاومات المتعاقبة والانتفاضات الشعبية، التي عبّر من خلالها أسلافنا عن رفض الأمر الواقع، إلى أن حسم جيل نوفمبر الموقف بخوض ثورة زحفت على أركان وركائز الاحتلال من أجل تفكيك بنيته الهيكلية حتى تحقق النصر العظيم باسترجاع السيادة الوطنية. كانت بالفعل ثورة عميقة تتجاوز بكثير إطار “الجهاد الأصغر” باسترجاع الاستقلال ليتواصل “الجهاد الأكبر” من خلال الدفع بمسار التنمية على امتداد السنوات إلى اليوم بحشد الموارد الطبيعية والمالية الوطنية وتجنيد الإمكانيات البشرية والمادية في مواجهة تحديات معركة البناء والتشييد منذ السنوات الأولى باستهداف مراكز الفقر والتخلف باتخاذ قرارات من التأميمات المختلفة إلى ديمقراطية التعليم مرورا بمجانية الصحة والإصلاح الزراعي، ويستمر الجهد الوطني الضخم اليوم عن طريق برامج الاستثمارات القاعدية وتخصيص التحويلات الاجتماعية الملائمة لفائدة المواطنين من أجل كسر حدة الأسعار وتأمين القدرة الشرائية التي تحفظ كرامة الإنسان وتصون عزّته طبقا لروح بيان أول نوفمبر، الذي جعل من العدالة الاجتماعية هويته الثابتة وغايته نحو الأجيال المتعاقبة. ومن الطبيعي أن تنخرط مختلف مراحل الإصلاحات الاقتصادية في هذا الاتجاه من خلال إجماع الشركاء على اعتماد خيار اقتصاد السوق الاجتماعي وتكريس مسار الحوكمة، بما يضمن ترجمة تلك الأهداف النوفمبرية وتجسيدها في كل مرحلة، الأمر الذي يتطلب التزام العمل بتلك الروح الصادقة في توظيف واستثمار موارد البلاد والسهر على تحقيق البرامج التنموية بكل ما تقتضيه من جدّية وحرص على اقتصاد الموارد العمومية وترشيدها وبالأخص التصدي لكافة أشكال الفساد والامتناع عنها، وفاء لأولئك الأبطال الذين وهبوا كل ما يملكون من أجل الجزائر وسيادة شعبها، حتى تختفي كافة أشكال التخلف وتزول مظاهر الاستغلال وتجف منابعه، فيسود العمل والتنافس في الأداء الخلاق والمبدع في ظل العزة والكرامة. وتتوفر البلاد اليوم على قدرات وطاقات كفيلة بأن تقود المجموعة الوطنية إلى مزيد من مكاسب التقدم والرفاهية على أساس مسار عقلاني للتنمية الشاملة التي تمتد مشاريعها إلى كافة مناطق وجهات البلاد. ويتطلب هذا الخيار الاستراتيجي الذي رسمته الدولة الوطنية مرتكزا في الجوهر على المرجعية الكبرى لثورة نوفمبر، التفاف كافة الشركاء حوله والانخراط في تجسيده بروح بناءة ونزيهة تعكس درجة عالية من الوفاء للذاكرة الوطنية وصناعها، وذلك بالحرص على قيمة العمل وتثمينه وحماية المال العام وأملاك المجموعة الوطنية بكافة أنواعها وتوظيفها بفعالية إنتاجية تعود في النهاية بالفائدة على الاقتصاد الوطني، الذي أصبح جبهة متقدمة في التعاطي مع تداعيات العولمة وصراع الأقوياء على مصادر الطاقة التقليدية والبديلة والتنافس المحموم على الأسواق الاستهلاكية.