شكّلت الصّفحة الثقافية وما تقدّمه من تغطية لمختلف الأنشطة الفنية والفكرية، ومساهمات مرموقة لأقلام أدبية معروفة على السّاحة الوطنية حتى وقت قريب، أحد أهمّ الأركان القارة في المؤسسة الإعلامية المكتوبة، التي كانت على اتصال وموعد دائمين مع نخبة من القراء والمثقّفين الذين كانوا يتابعون باهتمام كبير ما تنشره هذه الصّحف من أخبار وكتابات تتناول النّشاط الثقافي بكل روافده.
بالمقابل لم يكن هذا الاهتمام نابع من فراغ، بل كان مرآة عاكسة للمستوى الراقي الذي كان يطبع حينذاك السّاحة الثقافية، وقيمة ما كان يقدّم ويعرض من إبداعات ثقافية وفنية في مجالات المسرح، السينما، الرواية، الموسيقى وغيرها من الأنواع الأخرى. وهي الإشكالية التي حاولنا معالجتها في هذا الموضوع للحديث عن مدى اهتمام المؤسسات الإعلامية خاصة المكتوبة منها بالأحداث الثقافية، أسباب تراجع الاهتمام بتغطية الأنشطة الثقافية، ومكانة الإعلام المحلي وسط هذه المعادلة.
ومن أجل الإجابة على التّساؤلات، حاولنا التقرب أولا من مدير دار الثقافة رشيد ميموني ببومرداس، عبد المجيد بن زاف، باعتبارها أهم مؤسسة ثقافية بالولاية، حيث أكّد لـ “الشعب” قائلا: “بالرغم من العدد الهائل من العناوين الصّحفية التي تطبع الساحة الوطنية والمحلية، إلاّ أنّ نسبة الاهتمام بالأنشطة الثقافية ضئيلة ولا ترقى إلى المستوى المطلوب، كما أنّنا نتساءل لماذا هذا التراجع الكبير في تناول النشاطات الثقافية وعزوف بعض الصحفيين في نقل الأخبار الثقافية المحلية ما عدا القليل منها؟”.
وعن أسباب هذا العزوف، أكّد مدير دار الثقافة لبومرداس أنّ بعض المؤسسات الإعلامية المكتوبة أصبحت تركّز أكثر على الجوانب المثيرة التي تثير القارئ كظاهرة الجريمة، المعلومة الأمنية، احتجاجات الشارع على حساب الفعل الثقافي، الذي قد يساهم في تثقيف المواطن وتوعيته في محاربة مثل هذه المظاهر والآفات الاجتماعية، بمعنى أن الجانب التجاري طغى على الإعلام التثقيفي الهادف، رغم تقديمه لبعض الاستثناءات في مجال الإعلام السمعي خاصة الإذاعات المحلية التي بدأت تعطي اهتمام اكبر للجانب الثقافي عكس الإعلام المرئي.
بالمقابل، اعتبر عدد من مراسلي الصحافة المكتوبة بولاية بومرداس المستجوبين، أنّ طبيعة النّشاطات الثقافية المحلية التي لا ترقى إلى مستوى الحدث تشكّل أحد أهم أسباب عزوف الصحفيين عن تغطيتها لأنّها لا تثير القارئ ولا تجذبه. وفي هذا المقام تقول الصحفية كهينة إيغيل من جريدة “الشروق”: “إنّ الكثير من الأنشطة الثقافية والفنية المسطّرة بولاية بومرداس لا تخدم الثقافة والمثقفين، وبالتالي لا تحفّز الصحفي على نقلها وتغطيتها، لأنّها أحيانا لا تهمّ القارئ عكس بعض الأحداث المهمة”. وفي سؤال عن أسباب تدحرج المعلومة الثقافية إلى آخر السلم على حساب المعلومة الأمنية وأخبار المحاكم والجرائم، أكّدت الصحفية كهينة إيغيل بأنّ المعلومة الثقافية أصبحت بالفعل في آخر السلم، وتغطية حدث ثقافي آخر اهتمامات المراسل أيضا، لكن أحيانا يرجع ذلك للخط الافتتاحي للجريدة التي تعطي الأولوية للأخبار الأمنية والحوادث، وكذا انشغالات المواطنين في المناطق النائية على حساب النشاطات الثقافية القليلة التي لا تحمل وزنا وإضافة للجريدة، كما تلعب السياسة التسويقية للمؤسسات الإعلامية دورا أيضا في ترجيح كفة بعض الأحداث الإعلامية التي تجذب القارئ كالصفحات الرياضية مثلا، حيث احتلت فضاءً واسعا من مساحة الصّفحة الثقافية وأخرى زالت تماما من بعض الجرائد.
نفس التوجه عبّر عنه مراسل جريدة “الخبر” ببومرداس “سليم ــ ز«، الذي اعتبر أنّ مشاكل وانشغالات المواطنين بالجزائر العميقة طغت على بعض الأخبار والأحداث منها النشاطات الثقافية، كما أنّ بعض البرامج الفنية والثقافية بولاية بومرداس لا ترقى حسب المراسل إلى مستوى الحدث الوطني، التي بإمكانها التأثير في القارئ والطبقة المثقّفة، وبالتالي دفع الصحفي إلى التعاطي معها سريعا، إنما مجرد نشاطات وعروض عادية تقوم بها عدد من المراكز الثقافية في إطار سلسلة البرامج المسطرة. وتساءل سليم:
«ماذا تفيد القارئ لما يقوم الصحفي بتغطية تظاهرة الرقص الفولكلوري في وقت يبقى المواطن في القرى والمناطق الريفية يعاني من التهميش وغياب التنمية المحلية..؟ لكن ما هو مطلوب منا هو البحث وتقفّي أثر بعض الفنانين المهمّشين بولاية بومرداس، الذين لم تعط لهم الفرصة للظهور ونقل إبداعاتهم الفنية من أجل التعريف بهم ونقل انشغالاتهم للجهات الوصية”.
في الختام وحتى نكون منصفين، أحيانا قد يدفعنا الانفعال وتتقلّص الإرادة لدينا في تغطية حدث ثقافي يسمى مجازا ملتقى وطنيا في الشعر، الرواية أو المسرح، يغيب عنه الجمهور إلا من بعض الضيوف، وأحيانا أخرى يصطدم الصحفي بمجموعة من اللوحات التشكيلية المعروضة يغيب عنها حتى صاحبها للحديث معه، مقابل بروز النشاطات المناسباتية، وكلّها مظاهر زادت من نفور ممثلي وسائل الإعلام، ولم تعد التظاهرات الثقافية تشكل بالنسبة لهم سبقا إعلاميا أو حدثا قد يزيد من سمعة الصحفي، ويرفع في اليوم الموالي من سحب الجريدة ويزيد من عدد قرّائها.