طباعة هذه الصفحة

في أبجـديات الديمقراطية نظريات وتطبيقات

مساهمة أولية في الحوارات الحالية

بقلم: د. محمد العربي ولد خليفة

الخلقة الثانية

لقد ناضل الجزائريون لعشرات السنين من أجل الحق في المواطنة ودولة القانون والحريات، وبعد التحرير تطلّبت ضرورات بناء الدولة الوطنية وضع سلّم للأولويات المتراكمة والمتزاحمة، تبدأ بتضميد الجراح وتأسيس مختلف المرافق بعد الانسحاب التعجيزي لحوالي مليون من المستوطنين احتكروا السلطة والثروة، ولم تعترف أغلبيتهم الساحقة بالحقوق الأساسية لأكثر من عشرة ملايين من الأهالي أو الأندجين.
هناك بلا ريب بعض النخب السياسية والثقافية التي اعتبرت أن الديمقراطية هي أولوية في حد ذاتها. وقد تساءل البعض الآخر كيف تكون هذه الديمقراطيّة في مجتمع أغلبه من الأميين وتحت خط الفقر؟ وكان الجواب أن الديمقراطية تبقى هدفا لا مناص من الوصول إليه وهو ما أشار إليه بيان الاول من نوفمبر 1954، على الرغم مما في مختلف مراحل البناء خلال حوالي 40 سنة بعد الاستقلال من تجريبية المحاولة والخطأ and error Tray  
المتعارفة في علوم الطبيعة والانسان، حيث يؤدي الخطأ في التجريب إلى وضع فرضية أخرى تتقدم خطوة للتحليل والاستنتاج.
ليس فيما سبق تبرير أو اتهام لأشخاص أو عهود عايشنا بعضها عن بعد أو عن قرب فلكل عهد سياقه المحلي والدولي وإكراهات حقيقية أو مفترضة، إن الذي يهمنا في هذه الورقة هو المرحلة الهامة من حزمة الإصلاحات التدريجية ومشروع تعديل الدستور، الذي قدمنا ملاحظاتنا حول بعض فصوله على ضوء التحولات المجتمعية في بلادنا في العقد الأول من هذا القرن، و ما يجري في عالم الأمس واليوم من تحولات أغلبها من دول المركز Core states نحو الاطراف، وانطلاقا من قناعة مؤداها أن الدستور والقوانين كلها لا تساوي أكثر من تطبيقها على الجميع مهما كانت درجة القرابة والطبقة والثروة والجاه، على الرغم من أن في هذه القناعة شيء من المثالية أو اليوتوبيا في كل بلاد العالم.
ولكن، أليس من المهم أن يكون للشخص مثل ومبادئ تسمى في العادة الضمير؟ وإلاّ أصبحت الحياة كلها حيوانية أي بلا معنى، على أن لا يتضخّم ذلك الضمير ويصبح ورما عضالا يؤدي إلى الشذوذ، أي عدم فعالية تلك المثل في محيطه القريب والبعيد، فبين الأنا الأعلى Super ego وأنا الآخرين Alter ego ما يسمى بشعرة معاوية، وهي بالتعبير المعاصر الشبكة العلائقية Relationnelle مع المحيط المجتمعي بكل مستوياته.
 من المعروف أن لكل دستور والقوانين المتفرّعة عنه أرضية سياسية، وإلا لما كان لكل بلد دستوره وقوانينه التي تعبر عن سيادته الوطنية النسبية التي تتسع أو تضيق حسب قوة الدولة وقدرتها على توسيع نفوذها، وكيفية تعاملها مع المعايير الدولية للديموقراطية وحقوق الإنسان ومحاكم في عواصم للديموقراطية وحقوق الانسان تحرسها جمعيات أهلية ومنظمات دولية، ولها محاكم لا تعترف بالحدود والقوانين الداخلية تفرض عقوبات على الخروقات والتجاوزات على أي بلد وأحيانا بطريقة انتقائية.
وعلى أي حال فإنّ هذه مقاربة أولية تتعلق بأبجديات في مباحث الديموقراطية، وهي مجال واسع تراكمت أدبياته منذ أقدم العصور ومرجعها المعياري هو الدستور المعلن منذ ألواح حامورابي ومملكة بابل بالعراق إلى اليوم، وأنّ فلسفة وتصميم الدساتير من أهم فروعه التي تتطلب الاطلاع الواسع والاختصاص في منطوقها ومضمونها الذي يتعلق بمدى الاقتراب أو الابتعاد عن القواعد العامة للديمقراطية وتنظيم العلاقة بين السلطات الثلاثة: التنفيذية والقضائية والتشريعية، لذلك فإنه في حالات الطوارئ ولمواجهة خطر يهدد الدولة من الداخل أو من الخارج، فإن من أول الإجراءات هو إلغاء أو تأجيل العمل وفق الدستور، وتركيز سلطة القرار في يد الجهة التي يوكل إليها مواجهة الخطر المحدق بالدولة والمجتمع.
لهذه الاعتبارات، فإن هذه المقاربة ستتركز على مفهوم الديمقراطية في بعض التجارب الحديثة والمعاصرة والمسافة بين المبادئ المعلنة ومدى تطبيقها في المجتمعات كعينات، وليس كمسح شامل في حاجة إلى دراسة موسوعية قامت بها بعض الموسوعات منذ القرن 18، وخاصة عند علماء القانون في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بعد ما يعرف بالنظام القديم أي بعد اسقاط الملكية وانتصار البورجوازية على الأروستوقراطية المتحالفة معها..
2 ــ التعديلات الدستورية: أمثلة
يرى الكثيرون من أهل الاختصاص عندنا أن معظم التنظيمات القانونية من أعلاها إلى أدناها هي اقتباس بعد تحوير في الديباجة للمنظومة القانونية الفرنسية، وخاصة بعد الانقلاب الذي قام به أحد كبار الضباط الفرنسيين وهو الجنرال ديغول سنة 1958، وأسس النظام الرئاسي بالاقتراع العام لانتخاب رئيس الدولة في الجمهورية الخامسة الباقية بعد ما يزيد على نصف قرن 1958-2014 بتحسينات متوالية بعد التحولات التي حدثت بعد تأسيس الاتحاد الأوروبي من سنة 1992إلى سنة 2014.
لغرض التبسيط والمعرفة العامة، نقول إنّ بعض القواميس ترجع مصطلح دستور إلى أصله الفارسي «دست» أي يد وتعني القوة و النظام، وهذا الأصل مرجّح لأن القواميس العربية القديمة لا توجد فيها كلمة دستور، أما في اللغات ذات الأصل اللاتيني Constitutio فإن الكلمة مشتقة لغويا من التكوين الجسمي للشخص constitution وأطلقت فيما بعد على مجموعة من النصوص الكنسية، وأما معناها السياسي فيرجع إلى حد ما إلى فلسفة السياسة عند أرسطو في كتابه الشهير السياسة Politica في القرن الثالث قبل الميلاد ثم تطور مدلولها بالاقتباس من القانون الروماني، وتعني في ذلك العهد مجموعة المراسيم التي يصدرها الإمبراطور.
أما فيما يخص التعديلات التي تطرأ على الدستور، فإنّنا نذكر من بينها تلك التي اقترحت على الدستور الأمريكي بعد استقلال الولايات المتحدة عن التاج البريطاني سنة 1776 من بينها ما يعرف بوثيقة الحقوق Bill of Rights التي تتضمن مسائل تقنية وتنظيمية مثل نسبة التمثيل في مجلس النواب وتعديل رواتب النواب...إلخ.
ومن بين التعديلات نذكر الحق في حمل كل مواطن للسلاح
والسلطات المخولة للولايات، وإلغاء الرق ومنح السود (الزنوج) حق الانتخاب ومنح المرأة حق المشاركة في الانتخابات سنة 1920 وحق الانتخاب للشباب البالغين 18 سنة من العمر 1971، وقد بلغ مجموع التعديلات على دستور الولايات المتحدة من 1791 إلى الآن 27 تعديلا.
أما في فرنسا، فقد طرأ على دستورها 24 تعديلا منذ 1958 إلى الآن، ويعتبر أهمها، وهو الذي حوّل فرنسا إلى النظام الرئاسي بعد النظام البرلماني المعمول به حتى الجمهورية الرابعة، ومنذ سنة 1962 ينتخب الرئيس بالاقتراع العام المباشر، وهو تعديل ساري المفعول إلى الآن، وقد أدخل سنة 1974 تعديل يدعم صلاحيات المجلس الدستوري ويعطيه حق النظر في القوانين التي تصوّت عليها الغرفتان قبل المصادقة عليها من رئيس الجمهورية، ثم التعديل الذي يستهدف المناصفة بين الرجال والنساء في المناصب والعهدات الانتخابيّة، وقد بقي قسم كبير منه حبرا على ورق أو مجرد إعلان للنوايا، وفي سنة 2000 تم تعديل آخر يجعل العهدة الرئاسية من 5 سنوات بدلا من سبع سنوات كما كان الأمر في السابق.
أما بقية التعديلات، فهي إما ذات صيغة تقنية وإما فرضتها التحولات الجيوسياسية بعد تأسيس منظومة الاتحاد الاوروبي، وقد تم رفض بعضها بعد معاهدات روما وماستريخت Maastricht وامستردام في عدة استفتاءات، وعلى العموم فإن دستور فرنسا يقوم على توجه ديموقراطي ليبيرالي بصلاحيات للوزير الاول باعتباره مساعدا لرئيس الجمهورية، فلا هو برلماني كما كان قبل 1958 ولا هو رئاسي كما هو الشأن في الولايات المتحدة، فهو بالتالي مزيج منهما.
أما في مصر التي تعتبر من أول البلدان المستقلة في المنطقة بعد انتهاء الحماية البريطانية في عشرينيات القرن الماضي، فقد عرفت أول إعلان للدستور من طرف الملك فؤاد الأول سنة 1923، وقد بقي ساري المفعول حتى 1952 مع تعليق لأحكامه سنة 1930، وقد تم إلغاءه بعد عزل الملك فؤاد الثاني وإعلان قيام الجمهورية سنة 1953 من طرف القيادة الجديدة برئاسة الجنرال نجيب في البداية ثم الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أقام نظاما رئاسيا بقي ساري المفعول حتى الوحدة المؤقتة (1958-1961) بين سوريا ومصر، حيث وضع دستور آخر ملائم للوضع الجديد تم إلغاؤه بعد فشل مشروع الوحدة والعودة إلى السابق الذي تمّ تعديله سنة 1964 وفي سنة 1971 تمّ التصويت على دستور آخر أدخلت عليه تعديلات حتى 1980 بمبادرات من الرئيس السادات، وقد أدخل الرئيس السابق لمصر حسني مبارك ثلاث تعديلات أخرى آخرها قبل تنحيته سنة 2011، وخلال الاضطرابات التي حدثت في مصر قام الجيش بتجميد الدستور، وفي بداية سنة 2014 تمّت المصادقة عل الدستور الحالي.
وقد عرف المغرب من 1962 إلى 2011، ستة تعديلات للمشروع الاولي غير الرسمي قبل الحماية الفرنسية أي سنة 1908 لم ير النور، نذكر من بينها الدستور الاول الرسمي سنة 1962 وتعديلاته سنة 1970 ثم سنة 1972 وكذلك سنة 1992 وسنة 1996 والتعديل الاخير سنة 2011.
أما في الجزائر وبعد إجهاض مجلس شورى الأمير عبد القادر في ثلاثينيات القرن 19 وتدمير العاصمة المؤقتة للمقاومة، تم القضاء على مشروع الدولة الوطنية للأمير حتى انتصار الثورة سنة 1962، وبعدها أدخلت عدة تعديلات على اول دستور بعد الاستقلال سنة 1963 ثم في سنة 1976 ثم في سنة 1979 وفي سنة 1980 وآخر سنة 1988 وسنة 1996 وسنة 2002 و2008، وأغلب تلك التعديلات إما تخص الهيئة التنفيذية وإما تتعلق باستكمال المؤسسات (مجلس المحاسبة سنة 1980)، وإما النصّ على بعض الحقوق وإلغاء الاتجاه الاشتراكي، وإما إنشاء الغرفة الثانية للبرلمان 1996، وإما إضافة الأمازيغية باعتبارها لغة وطنية وإما تحديد أو فتح العهدات الرئاسية وإقرار الثلث من النساء في المجالس المنتخبة على التوالي (تعديل سنة 1996) وما قبل الأخير سنة 2008 وهو المطروح الآن للتشاور والحوار.
«يتبــــــع»