طباعة هذه الصفحة

شاركـت بطريقتها في صنع مجد الجزائر

الـــبراءة تــروي ذكريــات ملحميـــة عــن الثـــورة التحريريـــة

لينة ياسمين

كثيرا ما يقتصر رواة التاريخ والباحثون من أهل الاختصاص في دفاتر الأيام الغابرة عن حقائق مثيرة جديدة لثورتنا المجيدة، يركزون في سردهم لملاحم الرجال والمجاهدين البطولية من البالغين، صنعوا ثورة شعب فقه معنى التضحية، حتى جعلوها في مصاف الثورات الخالدة وسط قلاع المثالية عبر الزمن القديم والحديث ، تصوير شاعري وعقلاني لتلك المشاهد والحكايا حتى أضحت بلسان الرواة أسطورية، أما الصور المنقولة على لسان من عايشوا أو تلا على مسامعهم شهود عيان وقائع فهي في بعض الأحيان تفوق التصور والخيال بل وتصل إلى المعجزة والكرامات .

تروى في قالب قصصي درامي لأبطال أتقنوا فن فعل الممكن تجاه أوطانهم، لدرجة تتعدى الهوس والعشق الروحي والحب العاطفي لوطن يعرف بـ “ الجزائر “، لكن الحقيقة قليلة الذكر أن يكون من بين تلك القصص والمشاهد وصور أولئك الأبطال الأشاوس، حكايا “ أطفال وبنات صبايا “  في عمر الزهور صنعوا تاريخا ملحميا خاصا بهم .
تأرخ ولو بالقدر القليل في روائع لقصص أطفال، لا تقل فخرا في سردها عن قصة الطفل “مراد بن صافي “ والشهيد عمار رفيق درب البطل علي لا بوانت والشهيدة حسيبة بن بوعلي، بل المثير في ثورتنا كرامة معجزة نادرة وقفت عليها “ الشعب “ لقصة طائر اللقلق المشهود له بالوفاء وما فعله في عساكر فرنسا في ردة فعل لوحشيتهم وانتقاما لأبناء وطن هاجر إليه منذ دهور وما يزال كل فصل ربيع  .
   قصة خالتي  نوارة العجوز ونوارة البنت مع الشهيدين زيغود يوسف وعمها ...
كان يا مكان وفي دوار نائي إلى الشرق من قسنطينة، كانت تسكن طفلة تدعى “ نوارة “ مع أهلها وجيرانها المسالمين، تساعد والدتها في عمل بيتهم الطيني وتلهو حينما يسمح لها الوقت مع أترابها بعرائس مصنوعة من الكتان وقصيبات من نبات “ اليراع “، وحينما يحل الظلام تقترب من جدتها في حنان وتضع رأسها على مخدة من القش وترفع ناظريها اليها كأنما تقول لها: “هلا قصصت لي حكاية الغول والشيخ شكركر أو العفريت وصغرونة زوجة الثعبان أو حديدوان
ومغامراته مع الغولة “ العوراء “ .
 وما إن تبدأ الجدة الحنونة حتى تجد الصغيرة تخشع وتركز في عفوية وبراءة ملائكية وشغف وانتباه شديدين، وتظل تستمع للجدة زمنا وماهي إلا دقائق وتستسلم لنوم عميق، تلفها الجدة برفق وتغطيها وعيناها لا تفارق محياها وتقبل جبينها وتحمل “ سبحتها “ وتبدأ في السبحلة حتى يغلبها هي النعاس أيضا، وفي الصباح يبدأ يوم جديد وحركة دؤوبة في الدوار .
 لكن ذات مرة وعلى غير عادتها تقدم منها عمها المجاهد وطلب منها مرافقتها إلى مكان غير بعيد وكان برفقته البطل الشهيد زيغود يوسف، طلب منها أن تتسلل إلى سرداب مظلم أرشداها اليه وتجلب اليهما ملابس وبعض المؤونة المخبأة ، ثم اختفيا عن الأنظار بعد أن أوصاها عمها أن تكتم الأمر عن الجميع ، وأصبحت على ذلك العهد من حين لآخر، تتسلل إلى السرداب المظلم، حتى أصيبت بـ “فوفبيا الخوف من الظلام وهي في السبعين من العمر، لكنها  بالرغم من عقدتها فهي تحن لتلك الأيام وتستلذ  ذكرى ما قامت به وتستلطفه من غير ندم  أو حسرة .
اللقلق الذي أرعب عسكر فرنسا وأخافهم فسجنوه رفقة الثوار ...
تبدو لوهلة أن الأمر مجرد مزحة أو قصة من نسج الخيال، كيف لطائر أن يخيف جند فرنسا حتى يسجنوه، لكن الأمر جدي ولا يحتمل الهزار أو المزح، وهي الحقيقة التاريخية المعجزة ، ففي الحي العتيق قصر الأبطال بضواحي مدينة عين والمان بسطيف، أنشأ المستعمر الفرنسي محتشدا أصبح بعد الواقعة يعرف بـ “ قصر الطير “، والحكاية على لسان الرواة
والشهود أن “ طائر لقلق “ المشهود له برمزية الوفاء، بنى عُشا على مقربة من ثكنة للفرنسيين، وذات مرة حمل في منقاره الأحمر الجميل قطعة قماش ليقوي من عشه .
 ولم تكن قطعة القماش تلك عادية بل كانت راية المستعمر الفرنسي، وعلى لسان الرواة يظهر أن اللقلق أعجبته تلك القطعة من الكتان الملون أو أغضبته لأنه فقه وحشية المستعمر فجعلها ضمن أعواد وقش عشه العالي تذليلا للجند وقادتهم الغاصبين، لكن فرنسا تظل مثل الوحش المفترس لا تأبه إن كان من تعتبرهم عدوا لها بشرا أم حيوانات، فقام جنود بالقبض على الطائر الجميل صاحب القامة والمنقار الشامخ وزجوا به مع بقية المجاهدين المسجونين بالمحتشد، عقابا لما فعله برايتهم ورمز بلدهم المستعمر، وظل الطائر الملائكي محبوسا رفقة الثوار يطعمونه ويسقونه ويضحكون بسخرية لما وقع للفرنسيين الغاصبين، ومقولتهم بات تتردد “ حتى الطيور من الحيوان عافت بطش الفرنسيين وقرفتهم “ .
فيما كان أبناء الفرنسيين يتنعمون كان أطفالنا يتدربون على الوطنية ...
هي روائع من قصص أبناء نوفمبر خالدة خلود الزمان والذكر الطيب، أطفال في عز الزهور بدل أن يحظوا بفرص التعلم والتمدرس ورغد العيش، كانوا أعينا تحرس تحركات الفرنسيين من عسكر وأعوان لهم ترقبهم وتقدم المساعدة للمجاهدين وتتربى على حب الوطن والتضحية في سبيله، ويروي العم عبد الكريم أن طفولته كانت حافلة بالنشاط، على الرغم من الفقر والحرمان والاستعمار الذي كان يحيط بدباباته وسلاحه وجنده كل شبر من أرض الجزائر الطاهرة .
 ويعترف في حديث هادئ لـ “ الشعب “ أنه يذكر حينما كان المجاهدون يزورون “ الدوار “ من حين لآخر، كان هو
وأترابه بملابسهم البسيطة والرثة يؤمنون لهم الحراسة وينبهونهم متى ظهر ظل جندي فرنسي ظالم، وسيلتهم كانت بسيطة وحولها هو وأقرانه إلى ما يشبه لعبة دقة الجرس، ويفصّل أكثر بأنهم كانوا يمدون أسلاكا معدنية تصل إلى الدوار مسافة تقارب الـ 2 كيلومتر تنتهي بعلب من المعدن وقطع من حديد، وكلما تحسسوا اقتراب غريب من الجند الغاصبين أو العاملين لديهم من الاتباع يسحبون طرف السلك فيحدث جلبة  صوتا يشبه الجرس، فيعلم أهل الدوار بمقدم غريب يختفي على أثر الإنذار الثوار المجاهدون وسط الغابة، ويضيف المتحدث بأن الأمر لا يتوقف عند التنبيه فقط، بل يتبع هو وبقية أبناء الدوار أثر المجاهدين ويمحون أثارهم  بأغصان الشجر وكأنهم يلعبون، ويطلقون على تلك الخدعة المسلية “ لعبة الغبار “ .
مهام مستحيلة تكفلت بها البراءة ببراعة وفعل متقن لا يحتمل الخطأ ...
كان أطفال الجزائر في فترة اندلاع ثورة تحرير الشعب من أيادي المستعمر الملطخة بالدم والنهب والقمع، تسند اليهم مهام قبلوا بإنجازها باتقان محكم، ومن جملة تلك المهام أن يوزعوا المناشير بالأزقة والأحياء الشعبية العتيقة والحارات، حتى تصل رسالة جبهة التحرير إلى كل الجزائريين، كما كانوا يقومون أيضا بالكتابات الحائطية الداعية إلى الثورة ورسم في خط واضح أن “ الافالان “ مرّ من هنا، وليست تلك فقط مهمتهم بل كانوا يخفون السلاح بين “ القسبرة والنعناع والبقدونس في تمويه عن عسكر فرنسا على أنهم تجار صغار يساعدون عائلاتهم في كسب قوتهم الصعب المنال وقتها .
 وتتوسع دائرة التكليف لهم، حيث جندتهم جبهة التحرير في تنفيذ عقوبات ضد المدخنين من الجزائريين لعدم امتثالهم الى اوامر “الجبهة “ بالكف عن تعاطي التدخين، وكان الصغار يضربون كل عاق حتى يمتثل ويتوقف عن التدخين، وفي المقابل وقبل أداء تلك المهام كان صغار “ الأفالان “ يخضعون بطريقة عفوية ومتقنة إلى التدريب .
 كانت ترافقهم مجموعة من الممنوعات في شكل أوامر تعلموها وفقهوا معناها، ومن جملتها “ ممنوع الحديث مع العسكر الفرنسي الغاصب، ولا تأخذوا هداياهم وخاصة إن كانت حلوى أو خبزا وما شابه ذلك، وإن وقعتم بين مجموعة من الجند الدمويين وكانت بيدكم رسالة من الثوار فكلوها وأبلعوها بسرعة ولا تتركوا لها أثرا” ولم يقتصر التكليف على الذكور من الاطفال فقط بل كان للبنات والصبايا حصة لأداء تلك المهام ، فكن يساعدن الأمهات ويحضرن معهن الطعام ويجهزنه للضيوف من المجاهدين أو لحمله كمؤونة لهم، ويقمن بغسل ملابسهم ويخطنها  كلما زاروهم .
 وكلما اقترب فصل البرد والمطر جلسن إلى جنب الجدات والأمهات ورعين إخوتهن الصغار وساعدنهن في نسج الملابس الصوفية مثل البرنوس وخاصة “ القشابة أو القشابية “، فزمن الثورة الكل كان مجندا من الطفل الصغير القاصر والبنت البريئة الى الشيخ والعجوز، وغايتهم واحدة المشاركة في التحرر وإرجاع تاج الحرية المسلوب منهم .
 رضيع  في القماط  يقف في وجه جند  فرنسا ويتحدى غطرستهم ...
في ضاحية من ضواحي مدينة زيغود يوسف التاريخية شرق قسنطينة، كان اتباع فرنسا يقيمون مع عائلاتهم في تجمع سكني بعيدا عن بقية مواطنيهم من أبناء الشعب المقهور، يحضون برعاية وحماية جند المستعمر، ووسط المجمع السكني المحروس كانت الخالة “ زغيدة “ ترعى رضيعا رزقت به منذ فترة قصيرة، وكانت كثيرة الحركة والنشاط رغم نفاسها الا أنها لم تبق مستلقية بل حملت صغيرها المولود ولفته بقماط من القطن والصوف، وحضرت الطعام لزوجها “ الحركي “
ورتبت البيت وجلبت الماء وملأت الجرة وخرجت الى القرية للتبضع، كان الجميع يعرفها ويهابها الى درجة الخوف، قوة شخصيتها وتهجمها ضد أي كان زادا في رهبة الناس منها، وما لم يكن يعلمه لا زوجها الحركي ولا أهلها إلا خاصتهم.
أنها كانت تنقل الرسائل إلى المجاهدين وتخفي السلاح في قماط رضيعها الملاك، وظلت زمنا على تلك الحال تخرج من بين العسكر والاتباع ولا يجرؤ أحد أن يخضعها للتفتيش بل حتى لا تخطر على أي واحد منهم أنها تعمل لصالح “ الأفالان “ وظلت على تلك السيرة إلى أن فتح الله على الشعب الجزائري باسترجاع حريته” .
طرائف صغار وقعت زمن الثورة ، أبكتهم وقتها وأضحكتهم في ذكراها...
مثلما حملت ثورة التحرير الكبرى قصصا بطولية وملحمية رائعة دونها المؤرخون في سجلات ذهبية وأقلام من معدن نفيس، حملت أيضا قصصا فيها من الطرفة اليوم تضحك وأضحكت كبارا كانوا صغارا أبرياء غابت عنهم زمنها فقه ما يتوجب عليهم فعله أو التفكير فيه.
 في هذا السياق الطريف والظريف، يحكي العم محمد أن والده الشهيد كان يحكي عن الجزائر والثورة وعن الوضع السياسي في الجزائر كثيرا، وكنت صغيرا استلطف حديثه لكنني لم أكن افهم كل ما يقول، وكان من حين لآخر يكلفني بحمل رسائل شفهية إلى عائلتي في ضواحي مدينة “ القل “، وكنت رفقة أصحابي نقسم بكتمان أمور المجاهدين وكان قسمنا أمرا طريفا اليوم ومضحكا، لكنه كان قسما مثل قطع اليمين  ا يحتمل المزح أو الكذب والخيانة .
 كنا نتصافح في عهد بكتمان وعدم البوح بأي شيء سمعناه أو رأيناه  وكانت تلك السعادة والشعور بالرجولة عملا بطوليا قمنا به، أما العم عُمار فيقول في اعتراف وهو يبتسم الى درجة الضحك، لما كان في  الـ 8 من العمر ،  يقول أنه هو ايضا  كان يوصل الرسائل في الدقيق، وذات مرة وهو مع والده الشهيد يرعى بغنمه شاهد أحد المجاهدين بالجوا ، فأخبر والده بأنه رأى أحد المجاهدين، وفي ردة فعل سريعة لقي يد والده تتجه نحوه تصفعه في سرعة فائقة ، وقال له “ كان ذاك طيف عفريت وليس رجلا “ .
 اعتقدت في كلام أبي ودمعة تجمعت بمقلتي عيني، وفهمت وانا بتلك السن أن الزم خطوطا حمراء، وكانت الصفعة التي تلقيتها من والدي درسا غير مباشر في تعلم كتمان السر،  لكنها كانت صفعة مؤلمة يقول العم عمار وهو يضحك .