طباعة هذه الصفحة

قاومت الإحتلال الفرنسـي وصانت الهوية الجزائرية

الزوايا إشعاع ديني وثقافي ومعقل الوطنية والمواطنة

الأستاذ / عبد القادر حمداوي

إشعاع ديني ثقافي عبر الأزمنة المتعاقبة، توافد عليها طلاب العلم من كل أنحاء الوطن، حقّقت نتائج إيجابية، بالدور الذي اضطلع عليه رجالاتها وما قدموه من جهود علمية وتربوية خدمة للأمة، أثناء الثورة التحريرية وبعد الاستقلال.لا يزال دورها فعالا في الحفاظ على مقومات ووحدة الأمة ومحاربة الاغتراب، إنها الزوايا التي نسلّط عنها الضوء في هذه الصفحة من تاريخ الجزائر ومكوناتها الثابتة عبر العصور.

كان التعليم في الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي سنة 1830، منتشرا انتشارا كبيرا يعتمد على الكتاتيب القرآنية والمساجد والزوايا، وكان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين مراكز تعليمية باهرة يؤطرها أساتذة متمكنون من علوم الفلسفة، الفقه، الأدب، النحو، الطب والفلك.
كانت المدارس الكثيرة العدد منتشرة في ربوع البلاد، وكانت هناك أكثر من 2000 مدرسة للتعليم الإبتدائي والثانوي والعالي، فكان الشباب المتعطش للعلم والمعرفة.
كانت أكبر المعاهد العلمية التربوية في مدن الجزائر منها تلمسان، مازونة، بجاية قسنطينة وكانت هناك مدارس يُزاول فيها التعليم في المرحلتين: الثانوية والعالية.
كما كانت الزوايا في القطر الجزائري منها في ميزاب وجبال جرجرة والجامع الكبير بتلمسان، وزاوية الأمير عبد القادر ومليانة وزاوية بني سليمان، وجامع سيدي لخضر بقسنطينة وزاوية سيدي عقبة ببسكرة.
أكد الواقع والأحداث عبر عقود من الزمن، فقد تزعمت في بداية الاحتلال المقاومة باسم الجهاد، فلما أدرك الاستعمار قوة تأثيرها في النفوس سعى إلى تحييدها أو ترويض شيوخها بشيء من الوسائل إلى أن تمكن من صرف بعضها عن دورها الروحي والتثقيفي.
لقد بلغت زاوية الهامل شهرة واسعة وتوافد عليها طلاب العلم من كل أنحاء الوطن، وحقّقت نتائج إجابية، بالدور الذي اضطلع عليه رجالاتها وما قدموه من جهود علمية وتربوية خدمة للوطن، سواء أثناء الثورة التحريرية أو بعد الاستقلال.
ولا يزال دورها فعالا في الحفاظ على مقومات ووحدة الأمة الدينية والوطنية.
كانت هذه الزوايا عبارة عن مجمعات من البيت والمنازل مختلفة الأشكال، تشمل على بيوت للصلاة كمساجد وغرف لتحفيظ القرآن الكريم.
وتعتبر مركز الإشعاع العلمي ومنابع الهداية، وحصونا منيعة تحفظ هوية الأمة من جميع أشكال البدع والدمار .
كانت رسالتها منذ نشأتها حماية الأمة من كل أنواع الطمس، وذلك من خلال قراءة القرآن وتعليمه، أين يحضى معلمه ومتعلمه الخير والإرشاد وفقا للكتاب والسنة. والوقوف أمام الزحف التنصيري من خلال نشر تعاليم الإسلام وفضّ النزاعات القائمة بين الناس بطرق ودية وفقا لأحكام الشريعة.
فبعض الزوايا تكون ميسورة الحال من الناحية المادية وذلك بغنى شيخها أو بكثرة الأوقاف والصدقات التي ترد عليها من الأتباع، ويقوم شيخ الزاوية نفسه بمهمة التعليم، فهو شيخ جليل، هدوء مظهره وصراحة رأية وقوة إيمانه واعتزازا بوطنيته وعفة لسانه ويمتاز بالتواضع ووالوقار.
اعترافات وشهادات
اعترف أحد الشيوخ يعمل في هذا الميدان إذ حدثته في أي موضوع ديني أو لغوي يقنعك بالحجة الدامغة والبرهان الساطع في المعاينة ومجالس العلم، يسترسل معك في العادات والتقاليد وهؤلاء أمثالهم .
فهم الذين أسّسوا هذه الزوايا، رجال دين متصوفون مزهدون، بدأت حركتهم تظهر في المشرق العربي منذ القرن 2 هـ.
لقد ظهرت الزوايا والكتاتيب نتيجة الجهل وانتشار ظاهرة الزهد، كما ظهرت الزوايا على نطاق واسع في المدن والقرى، وخاصة في العهد العثماني، بناها بعض الفضلاء لإيواء الضيوف وقراءة القرآن وذكر الله سبحانه وتعالى.
أهم أعمال هذه الزوايا التربية والتعليم زيادة على أعمالها الخيرية في المجتمع الجزائري، حيث كانت تقوم بدور هام.
ويمكن اعتبار هذه الزوايا بمثابة كتاتيب قرآنية، فهذه الزوايا فروع كثيرة داخل البلد وخارجه.
حافظت الزوايا خلال العهد الاستعماري على الهوية الوطنية من خلال مواجهتها للعدو الأجنبي في معارك طاحنة قدم فيها الشعب الجزائري النفس والنفيس، ومن خلال احتضانها للغة العربية و الدين الإسلامي في المدارس والزوايا.
فالتيجانية مثلا لها فروع في معظم بلدان القارة الإفريقية،


وفي مصر والحجاز، أما العلوية والسنوسية والرحمانية فلها فروع في باريس واليمن وأعماق الصحراء.
ومما تجدر الإشارة إليه، فإن البعض من شيوخ هذه الزوايا لهم نفوذ وتأثير كبير على أتباعهم .
لعبت الزوايا الدينية بمختلف أنواعها أدوارا كبيرة في الحياة الدينية والاجتماعية، بل وحتى السياسية بالجزائر.
و لهذه الزوايا والكتاتيب المتنقلة وهي عبارة عن كتاب أو زاوية تحمل ألواح التلاميذ ووسائل تعليمهم، كانت ترافق القوافل السيّارة والجيوش الفاتحين وهي أهم معالم مقومات الأمّة.
حافظت على ذاتها وتصدت إلى أعدائها وماتت هويتها من المسخ وعلى وجودها من الذوبان وعلى كيانها.
وبقيت متمسكة تماسكا ميّزها عن غيرها وأمدها بعوامل القوة وأسباب البقاء وحماها من الإندثار، وكل منتسب إليها راض بالقليل وببساطة الحياة وحريص على حفظ القرآن الكريم.
اهتمت بتحفيظ القرآن ونشره بصورة مكثفة في الأجيال المتعاقبة.
العربية من الثوابت
احتضنت اللغة العربية ونشرها بشكل واسع وكثيف، وفتحت أبوابها لطلاب العلم والمعرفة وأنفقت عليهم بسخاء، وكان ذلك شكل من أشكال مقاومة الجهل والأمية.
وقدّمت العون والمساعدة الممكنة ماديا وثقافيا وساعدتهم على شق طريق الحياة في المستقبل، فتخرّج منها أجيال من المثقفين وارتبط البعض منهم بحركة النهضة الفكرية الأخلاقية في القرن التاسع عشر مي                                            لادي.
لم تتخلَ عن دورها الوطني وقد اعترف بذلك الكثير من الضباط الفرنسيين بالدور الإيجابي للزوايا الذي جعل منها قلاعا للمقاومة.
فقد انتقمت فرنسا من الجزائريين شرّ انتقام بالقتل الجماعي والتخريب وحرق الأرزاق، فقد قامت بنفي أعيان وشيوخ الزوايا إلى كاليدونيا الجديدة بعد أن حكم عليهم بالسجن المؤبد.
كانت هذه الزوايا بمثابة مخازن ودواوين للكتب والمخطوطات في مختلف العلوم والفنون، تعرض جزء هام من هذا التراث إلى التلف والضياع خلال مرحلة المقاومة.
كانت نسبة الأمية في وسط الشعب الجزائري يوم دخول الاستعمار إلى بلادنا سنة 1830 م  كانت تقدر بنسبة 05  %،  وهناك 95 % من الشعب الجزائري يعرف القراءة والكتابة وهذه الحقائق التاريخية موجودة في الكتب التي تتحدث عن التعليم في الجزائر قبل الاحتلال، فكان شيخ الزاوية وأعوانه، فهو يمثل القطب الروحي في المنظومة التربوية، فهو الأب للتلاميذ والمرشد والمربي ورجل العلم الذي تُشدّ إليه الأبصار وتصغى إليه الأسماع والمعلم عند البدو وعند عموم الشعب الجزائري، أرفع منزلة، فهو يمثل كامل الأوصاف فهما وعلما فهو الرجل المفضل المطاع ومحل احترام وتقدير من طرف الجميع.
فهو المرجع في كل الملمات والمنازعات فهو يفتي ويصلح الخصومات ويعقد قران الزواج، وهو أحد الوجهاء ويدعى في ولائم الأفراح والمناسبات، وهو إمام الصلوات الخمس والتراويح في أيام رمضان ومعلم الصبيان والفقيه والقاضي أدى كل دوره لمصلح لأداء رسالته الدينية والاجتماعية والحضارية وفق مؤسسات مجلس القرية.
استطاعت هذه المؤسسة أن تحفظ الإسلام بهذه البلاد وعمل رجالها على إرجاع الضالين إلى سواء السبيل وتعليم الناشئين وبثّ العلم في صدور الرجال ولو لا تلك الجهود العظيمة التي بذلوها والتي تقف أمامها موقف المعترف المعجب في بلادنا أثرا للغة العربية ولا لعلوم الدين وهؤلاء المجاهدين الأفذاذ كانوا على الطريق وجها لوجه مع الثائرين الأولين بالروح الإيمانية التي طبقت حياة رمز الثورة ولكن النفوس الكبيرة التي تؤمن بالله إيمانا عميقا، وتناضل من أجل تحرير الوطن، فهؤلاء هم الذين ارتقوا إلى المستوى فوق الخوف والموت فوق الشك والتردد، وتعمقوا في فهم الحياة وأدركوا قيمة الكرامة ومثلوا الجزائر في أصالتها وعظمة أمجادها.
خلافات وقضايا هامشية
تمسّك هؤلاء بما يلائم تطورات الحديثة بين اتباع البعض بسبب ضيق فهمهم وعجزهم فهم التطورات القائمة والنهضة الحديثة، وبالطبع فإن عزل الجزائر عن العالم العربي والإسلامي من طرف الاستعمار الفرنسي له دور في هذا الوضع.
احتدمت الخلافات والخصومات بين بعض شيوخ هذه الزوايا لأغراض شخصية وحول بعض القضايا الدينية الهامشية التافهة، وكان ذلك سببا في قيام الشحنات بين الأتباع، وكان للإدارة الفرنسية دورا بارزا في هذا الخلاف، وإذكاء حذوة الفتنة فرِّق تسُد.
بذلت هذه الزوايا جهودا كبيرة وكثيفة في مقاومة العدو الفرنسي بمختلف الوسائل والسبل والإمكانيات فكان البعض إقامة لمجاهدين في بداية الأمر.
صادرت الإدارة الاستعمارية كل أملاك الأوقاف التي تموّن هذه المؤسسات، وحرّمت التدريس ومنعت تدريس تاريخ الجزائر الوطني وراقبت الكتب وشدّدت في منع الكثير منهم من آداء واجبهم الثقافي وسجنهم ونفيهم إلى جهات مختلفة.
فالمساجد هدمت وحوّل الباقي إلى كنائس وثكنات ومستوصفات ومراكز إدارية وغلق البعض منها.
فمدينة الجزائر مثلا كان بها 166 مسجدا وزاوية غداة الاحتلال الفرنسي 1830.
لم يبق منها لا يصل حتى عشرة، وتمّ إغلاق الكثير من الزوايا وتهديم البعض منها خاصة التي شاركت في مقاومة الاحتلال، قاومت وصمدت وواصلت رسالتها بجد ونشاط بل بقوة خارقة، وبنشاط رجالها وطلبتها الذين أصبحوا مجاهدين يقاومون فرنسا خلال معارك ثورة التحرير 1954.