أسجّل بداية ذكاء جمعية “مشعل الشهيد” في عنونة احتفالها، بمناسبة مرور عام على انتقال المجاهد إبراهيم ماخوس إلى رحاب الله، حيث استعملت تعبير (المثقّفين العرب)، في الحديث عن المناضلين الكرام الذين دعّموا الثّورة الجزائرية، وهو ما يرسم نهجا جديدا في التّعامل مع ذكريات الثورة.
فبعد نحو ستين عاما على استرجاع الاستقلال لم يعد هناك مجال لتكرار نفس المعلومات عن أنصار الثورة الجزائرية، بل وعن رجالاتها وإنجازاتها بالأسلوب التّأبيني الرّتيب، والذي كاد يصبح أمرا مملاّ يضطر المواطنون، والشباب بوجه خاص، إلى تحمّله، من فوق قلوبهم، كما يقال.
والمطلوب الآن، وهي مهمة الباحثين والجامعيين، التوقف عند سير الرجال ودراسة أعمالهم وتحليل مواقفهم، بل وممارسة النقد الموضوعي الذي قد لا تتحمّله خطب تأبين تسير على مبدأ: أذكروا محاسن موتاكم، وفي الوقت نفسه، التوقف عند كل حدث والغوص في أعماقه وتحليل معطياته واستكشاف أبعاده الآنية والمستقبلية، وهكذا يصبح التاريخ مادة علمية حية تستنطق الأمس لصياغة الغد، وليس مجرد رفات عزيزة مكانها المقابر وغاية المرام فيها ترحم مهما كانت بلاغته سيعقبه النسيان.
أحداث الثورة أكبر من مجرد التّذكير بها كوقائع نجترّها عاما بعد عام، ورجالات الثورة أعظم من كلمات النّعي العاطفية وعبارات التأبين التي تبدو أحيانا كقضية عرجون التمر في التعبير الشعبي المعروف.
وقبل الحديث عن المثقّفين العرب بوجه خاص يجب أن نسجّل دور المثقّفين بوجه عام في دعم الثورة التحريرية، وهو ما كان من أهم نجاحات ثورة نوفمبر، التي تمكّنت من استقطاب أهل الخير، وأقول أهل الخير أساسا، للمساهمة، كل بقدر طاقته، في طرد الاستعمار الفرنسي من الجزائر.
هنري علاق، سارتر وآخرون
وسأبدأ بتسجيل الدور الكبير الذي قام به على وجه التحديد مثقّفون فرنسيون لدعم ثورتنا التحريرية، وخصوصا جان بول سارتر، الذي كان تأثير كتابه “عارنا في الجزائر” يساوي تأثير كتيبة مقاتلة، وكذلك هنري علاق، الشيوعي الذي تعرّض للسّجن لأنه رفض الاستعمار الفرنسي، وأيضا فرانسيس جونسون حامل الحقائب الشهير، وقبلهم موريس أودان وآخرون كثيرون.
بل لعلّي أسجّل دور الفنانة الفرنسية التي ظلمها جمالها وظلمته، وهي فنانة الإغراء الشهيرة بريجيت باردو، التي رفضت في 1961 دعم منظمة الجيش السري الفرنسي، الذي كان يمارس في جزائرنا سياسة الأرض المحروقة، وندّدت بها علنا في مقال نشرته “الفيغارو” الفرنسية، عندما أرسلت لها المنظمة الإجرامية طالبة التبرع ومهدّدة بالانتقام.
لكن هناك شيئا رئيسيا يجب أن نتذكّره وهو أن كل هؤلاء، ممّن يجب أن نشكر صنيعهم، كانوا يدافعون عن مفهومهم للثورة الفرنسية، التي حملت شعارات الحرية والإخاء والمساواة، ولم يكن متوقّعا منهم ولا مطلوبا إعادة تحرير الجزائر العربية المسلمة.
ولم يكن ذلك منطق المثقفين العرب الذين دعموا ثورتنا، كل في موقعه وبقدر ما يستطيع، وسواء تعلق الأمر بالكتاب أو الشعراء أو الفنانين أو السياسيين، والذين كان في طليعتهم المرحوم الدكتور إبراهيم ماخوس، وكانوا عشرات بل مئات من المغرب وتونس وموريتانيا والعراق وفلسطين والكويت وسائر بلدان الوطن العربي.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، هل يمكن أن ننسى الأبيات الرائعة التي أبدعها نزار قباني وهو يقول:
الاسم جميلة بوحيرد
العمر اثنان وعشرونا
في السجن الحربي بوهران
رقم الزنزانة تسعونا
...
إبريق للماء...وسجان
ويدٌ تنضمّ على القرءان
وامرأة في ضوء الصبح
تسترجع في مثل البوح
آياتٍ محزنةَ الأرنان
من سورة مريم والفتح
...
الاسم جميلة بو حيرد
تاريخ امرأة من وطني
جلدت مقصلة الجلادِ
ثائرة من جبل الأطلس
يذكرها الليلك والنرجس
يذكرها زهر الكبادِ
ما أصغر جان دارك فرنسا
في جانب جان دارك بلادي
....
ولعل قليلين ما زالوا يتذكّرون قصيدة أحمد عبد المعطي حجازي، وهو يذكر بتضحيات المغرب العربي وينادي الأوراس:
من أتيت بكل ضحاياك
هل أنت معين رجال لا ينضُبْ
العالم كل العالم يعجبْ
مات الصف الأول....تقدم
مات الصف الثاني....تقدم
مات الصف الثالث ....تقدم ...دس على وجه من تحبْ
واذكره بعد النّصر.
الفنان فوزي رفض تلقي مكافأة
من تلحين شعر قسما
وكثيرون ....دعّموا كفاح شعبنا بدون أن ينتظروا جزاءً ولا شكورا، لعل من بينهم الفنان محمد فوزي، الذي رفض تلقّي المكافأة المالية مقابل تلحينه نشيد قسما، في الوقت الذي تناست فيه أم كلثوم الغناء لثورة الجزائر.
نحن لا ننسى الخير وأهل الخير، ولا ننسى من كانوا غير ذلك.
واليوم نتذكّر إبراهيم ماخوس، المناضل العروبي البعثي الذي ساهم في دعم النضال الجزائري مع لفيف من رفاقه، في مقدّمتهم نور الدين الأتاسي ويوسف زعين.
ولعل ممّا يستحق الذّكر هنا أنّ قيادة حزب البعث السوري آنذاك أصدرت تعميما يمنع كل محاولة لتجنيد الطلبة الجزائريين في صفوف الحزب، احتراما لإرادة جبهة التحرير الوطني التي لا تقبل شراكة في الانتماء السياسي، وهكذا لم يعرف الجزائريون خلال الثورة أي انضمام لحزب البعث، والغريب العجيب المُريب أن الفرانكوفيليين في فولطا العليا يعايرون كل متمسّك بالانتماء العربي الإسلامي بأنه بعثي أصولي، وهو اتهام، بغض النظر عن تفاهته، يدل على الجهل المركب، لأن حزب البعث حزب لائكي لا يقبل الأصوليين بأي حال من الأحوال.
عرفتُ الدكتور إبراهيم معرفة عابرة في نهاية الخمسينيات في قرية تسمى تاجروين، على الحدود التونسية الجزائرية، حيث كان يعالج، مع رفيقيه، جرحى جيش التحرير الوطني ومرضى اللاجئين الجزائريين.
ثم يصبح الثلاثي قمة القيادة السياسية السورية، مع رفيقهم العسكري المناضل صلاح جديد، الذي فاته أن النضال الأعزل نضال عقيم، فخرج من الجيش ليناضل في الحزب كمدني لا يملك إلا صوته ورأيه.
وتخدع القيادة السياسية السورية وينقلب عليها قائد سلاح الطيران، وأحد المسؤولين عن هزيمة 1967، ويلقى القبض على الأتاسي ليصبح أقدم سجين عربي سياسي في العالم، ويفرّ ماخوس إلى الجزائر ليعيش في رعاية الشعب الجزائري ومجاهديه، وفي حماية صديقه الهواري بو مدين ورفاقه من أعضاء قيادة الثورة.
ويرفض ماخوس وضعية اللاجئ السياسي، ويطلب أن يلتحق بالجهاز الطبي الجزائري كجراح، وذلك في قسم الدكتور البشير منتوري بمستشفى مصطفى الجامعي، حيث بدأتُ معه صداقة استمرت حتى استرد المولى عز وجل وديعته.
الجزائر لن تنس من جاهدوا في صفوفها
ولأنّ الجزائر لا تنسى من جاهدوا في صفوفها قرّرت تكريم ماخوس بإعطائه وسام المجاهد، غير أنّ ماخوس قبل الوسام ولكنه، فيما عرفتُ، ظل دائما مكتفيا بالمرتب الذي يتلقاه كطبيب جراح أسوة ببقية زملائه، وبدون أي إضافة تكفلها له سابقته في الجهاد.
وفي حدود ما أعرفه، فقد تكفّلت الجزائر بحماية الدكتور ماخوس وأسرته، وقيل لي أنّه تعرّض لأكثر من محاولة اغتيال من قبل النظام السوري الحقود، الذي مارس على الجزائر ضغوطا كثيرة، تجاوزتها بلادنا تقديرا للشعب السوري، ولوضعية الصمود ضد العدو الإسرائيلي التي ابتز بها النظام الدعم العربي.
وواصل الدكتور ماخوس نضاله السياسي فكان يصدر على نفقته الخاصة مجلة شهرية، يستعرض فيها معاناة الشعب السوري، ويسجل مواقف المعارضة السورية الشريفة ضد الانحرافات العربية، والتي كان من بينها اتفاقية كامب دافيد، التي اشترك في التنديد بها مع ضيف الجزائر الكبير آنذاك، الفريق سعد الدين الشاذلي، تغمّده الله برحمته.
كان ماخوس قارئا متميّزا رأيت يوما عنده بعض مقالاتي وهي تحمل ملاحظات وتساؤلات كان يمطرني بها عند لقائنا.
وكان الحكيم مناضلا صلبا يرفض أنصاف الحلول، ويتعصب في الدفاع عن مواقفه وعن آرائه، ولعلها فرصة هنا لأسجّل بعض تلك المواقف، تكريما للرجل وإشادة بمواقفه، حتى تلك التي اختلفت فيها معه.
ولقد اختلفت كثيرا مع الدكتور ماخوس حول الأسلوب الذي اتبعه في نضاله السياسي، بإصدار مجلة مكتوبة على الآلة الكاتبة، وهو ما يجعل متابعتها أمرا عسيرا.
كنتُ أيامها أكتب في صحيفة الشرق الأوسط الخليجية لأنقل لقرائها العديد من المواقف الجزائرية التي تعاني من تعتيم المنابر العربية، وعرضت على إبراهيم أن أزكّيه لدى الصّحيفة، التي كان من بين القائمين عليها الكاتب السوري الجزائري قصي صالح الدرويش، والصحفي المناضل الفلسطيني بكر عويضة، ولكنه أصرّ على الرفض قائلا أنّه لن يبيع اسمه ونضاله ويسمح لنفسه بالكتابة في صحيفة يرى أنها مشبوهة.
وكنتُ أقول له رافضا منطقه أنّ انحراف مصر ثم سقوط العراق يجعل الساحة الإعلامية رهينة منابر ليست دائما منابر صديقة، وهي في حاجة لأقلامنا لتتمكن من إقناع القراء بحياديتها، وبالتالي تقبل أن نكتب على صفحاتها، وهو بالتالي تبادل مصالح يعطينا فرصة لكي ننشر آراءنا وأفكارنا ومواقفنا، والتي تعاني من التعتيم المقصود، وهو ما أرى فيها نضالا يأخذ بعين الاعتبار الواقع ويحاول الاستفادة منه.
وأثبت له بالدليل المكتوب العدد الكبير من المقالات التي نشرتها حول المواقف الجزائرية، وخصوصا حول ما يتعلق بصمود الجزائر في العشرية الحمراء أو قبل ذلك بقضية الصحراء الغربية وإنجازات الستينيات والسبعينيات، وهو ما كان عملا شجاعا ارتضت الصحيفة القيام به، وأعدت نشره في بعض كتبي.
لكن إبراهيم أصرّ على الرفض، وهو ما أعتقد أنه كان خطأ حرم المناضل الكبير من إمكانية الترويج لمواقف المعارضة السورية التي يتبناها، خصوصا خلال مرحلة الجزر التي عرفتها العلاقات الخليجية السورية.
وعندما أصيب الدكتور ماخوس بمرض عضال، ضغطتُ عليه لكي يقبل السفر إلى مستشفى مختص في فرنسا، وهو ما يجعلني أذكر هنا بأنه وأسرته حظيا برعاية كريمة من رئيس الجمهورية الجزائرية، ومن المستشفي العسكري بالعاصمة الجزائرية، ومن عدد من الأطباء الجزائريين.
رحم الله الدكتور إبراهيم ماخوس ورفقاءه ممّن قضوا نحبهم، ولا قرت أعين الجبناء.