طباعة هذه الصفحة

في ظــــــــــل تطــــــوّرات الذكــــــــــــاء الاصطناعي..

تحــدّي رقمنـــة اللّغـــة العربيـــة

حيزية كروش جامعة حسيبة بن بوعلي

 

تشهد الساحات البحثية على اختلاف مواضيعها تطورات كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي لتيسير الحياة اليومية عموما والحياة العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها من المجالات، فالذكاء الاصطناعي استطاع أن ينقل الحياة الواقعية إلى عالم افتراضي عجيب.

اللّغة العربية على غرار بقية اللْغات يسعى أهلها إلى إقحامها في مجال الرقمنة بالعمل على تطوير مختلف فروعها ومواكبتها لتحولات الذكاء الاصطناعي، فابتكرت البرامج التحليلية والمختبرات اللغوية التشريحية، ومختلف الميكانيزمات الفاعلة في البنى اللغوية على اختلاف مستوياتها.
رقمنة القطاعات اللغوية من أكبر التحديات التي عمل العلماء على مواجهتها، فهم يعملون دائبين على إيجاد الإمكانات المناسبة للتعامل مع اللغات الطبيعية آليا باتباع مختلف المناهج والبيداغوجيات المصاحبة لحيثيات الفعل الإلكتروني المتطور.
هل حققت رقمنة اللغة العربية وجودها بين اللغات الطبيعية؟ وهل وصلنا باللغة العربية إلى مصاف الذكاء الاصطناعي المطلوب؟

رقمنة اللّغة العربية
يتمثل مفهوم الرقمنة في جملة التعاملات الخوارزمية من النظام العادي إلى الناظم الآلي بواسطة الحاسوب، والسعي لبرمجة الواردات الواقعية إلى مدونات افتراضية يتحكم فيها الحاسوب وفقا لعدد من العمليات المتتالية، ومن بين التعريفات التي سيقت لهذا المصطلح نذكر التعريف القائل: “عملية تحويل البيانات والمعلومات من التناظري إلى النظام الرقمي”.
يعد مصطلح الرقمنة مصطلحا هلاميا يأخذ إطاره المفاهيمي من الحيز الذي يدخل ضمنه، ولكن مع وجوب توافر شرط التناظر بين المعارف المدرجة في النظام الآلي، فتحويل البيانات الرياضية يحتاج إلى قاعدة بيانات تتناسب مع ما يلج الحاسب من معلومات وكذلك الأمر بالنسبة للصور والكتب والمطبوعات وغيرها..
تحدي الرقمنة شعار العصر وهدف رئيسي يعمل الإنسان على تحقيقه، وعلماء اللغة العربية على غرار بقية العلماء يسعون إلى الوصول إلى أبعد نقطة في عالم رقمنة اللغة العربية ودمجها مع مفاهيم الذكاء الاصطناعي، المواكبة تطورات العصر والولوج بها إلى عالم التكنولوجيا المتطورة.

مفهوم الذّكاء الاصطناعي
تسمو اللغة العربية إلى مصاف اللغات الطبيعية التي عمل أصحابها على دمجها بالذكاء الاصطناعي، حيث انكبوا على تكريس مختلف الآليات والميكانيزمات المناسبة التي تناسب الفعل التكنولوجي المعاصر، حيث ابتكروا مختلف البرامج والتطبيقات والمنصات والأدمغة الإلكترونية التي تحقق الهدف، وهو رقمنة اللغة العربية وتشييد صرح لغوي يوازي مسارات الذكاء الاصطناعي.
التزاوج بين كلمتي ذكاء واصطناع يشير إلى مفهوم دقيق لمصطلح الذكاء الاصطناعي، إذ يمكن القول إنه ابتکار بشري يعمل على إنتاج أجهزة تحاكي الميزات البشرية والقيام بعمليات إدراكية اصطناعية تقوم بالتفكير والتحليل والقراءة العقلانية لمختلف المواقف والمسائل، وقد عرفه موقع أمازون بقوله:
« هو تقنية ذات قدرات حل تشبه قدرات الإنسان في حل المشكلات. يبدو أن الذكاء الاصطناعي في العمل يحاكي الذكاء البشري - يمكنه التعرف على الصور وكتابة القصائد وإجراء تنبؤات قائمة على البيانات”.
يعمل الذكاء الاصطناعي اللغوي على تحرير الفكر الإلكتروني وبلورة المسائل اللغوية على اختلافها بناء على قاعدة بيانات محددة، إضافة إلى العمل على تسخير قدرات إبداعية مختلفة تدخل في جانب التعلم العميق الخاص بالذكاء الاصطناعي، أو ما يسمى الإنسان في حل المشكلات.
تقوم فكرة الذكاء الاصطناعي على تيسير حياة البشرية، والوصول إلى عالم يقوم على فكر رقمي يمكنه أن يعادل الفكر البشري للنهوض بالحضارة الإنسانية لتحريك التقدم والنمو والاستفادة من مختلف التجارب، وربما المعادلة التي يمكنها تلخيص فكرة الذكاء الاصطناعي هي:
إنسان + آلة × ذكاء = ذكاء اصطناعي
فكر ومعارف + قاعدة بيانات × حل مشكلات محاكاة العقل البشري
وللذكاء الاصطناعي فئات تتمثل فيما يلي:
الذكاء الاصطناعي الضيق - الذكاء الاصطناعي العام - الذكاء الاصطناعي فائق الذكاء.
تختلف هذه الفئات الثلاثة من حيث أداء المهام، فالأول محدود المهام، فهو يقوم بمهمة واحدة أو مجموعة بسيطة من المهام وهو المستخدم في عصرنا الحالي بكثرة، إذ لا يمكنه الخروج عن حدود المهام المحفوظة بداخله مثل: التعرف على الصوت أو الوجه والكلام والقيادة الذاتية للسيارات، أما الفئة الثانية فهي تتعلق بالذكاء الاصطناعي العام وهو ما يمكنه مضاهاة الإنسان في الأداء الفكري نسبيا، كما يمكنه أداء عدد كبير جدا من المهام والتنبؤ بحل المشكلات، وهذا النوع من الذكاء يتم العمل على تطويره ليتجاوز الفكر البشري إلا أنه ولحد الساعة لم يتم الوصول إلى هذه النقطة رغم الأبحاث الكثيرة والعميقة، أما فيما يخص الذكاء الاصطناعي فائق الذكاء، وهذا النوع يتميز بالقدرة الذاتية على حل المشكلات المختلفة، وهو ما نجده في الخيالات العلمية، فهم يبتكرون الروبوت مزودا بمجموعة من المهام المحفوظة في خوارزمياته، لكنه لا يستطيع التصرف ذاتيا في حال خرج من إطار قاعدة بياناته، لهذا تم التفكير في الذكاء الاصطناعي فائق الذكاء لكن لم يتم التوصل الفعلي إلى النتائج المطلوبة.
وتجدر الإشارة إلى أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد تجلت للعيان من خلال التحكم الآلي ورؤية الكمبيوتر إضافة إلى معالجة اللغة الطبيعية من خلال التعرف على اللغة كتابة ونطقا وفهما، ولهذا نرى أن الباحثين في مجال الحاسوبية قد ابتكروا روبوتات مزودة بعدد من العمليات اللغوية المعقدة وتزويدها بقواعد معيارية تتماشى مع اللغة المطلوبة، إضافة إلى بناء منصات رقمية ومعاجم إلكترونية ومكتبات بحث ضخمة والكثير من البرامج التفاعلية القائمة على ترسانات لغوية كبيرة جدا.

خصائص رقمنة اللّغة العربية
تتميز الرقمنة اللّغوية بميزات عدّة نذكر منها النقاط الآتية:
اختصار الوقت تساهم رقمنة المخزون اللّغوي العربي على اختلاف أجناسه وأنواعه في اختصار الوقت على أي قارئ أو باحث، فبعد أن كان البحث في بطون الكتب للوصول إلى المعلومات والمعارف المطلوبة يأخذ أياما أو أسابيع وربما شهور، أصبح ذلك الآن يتم في غضون ثوان فقط، فما توفره الرقمنة من تيسيرات واختصارات جعل البحث أسرع.
اختصار الجهد.. إن البحث يضني صاحبه ويتعبه، نظرا لهذا العامل وجدت الرقمنة لتختصر الجهد على الباحثين والقراءة.
اختصار المساحة بعد أن كانت المكتبات لا تتسع للزخم الكبير من الكتب أصبحت اليوم تجمع في شريحة لا تتجاوز السنتيمتر الواحد، أو تكنز في منصات رقمية تحمل ملايين الكتب، وبعد أن كان الباحث يكتب آلاف الصفحات الورقية ليجمع المادة اليوم أصبح قادرا على تدوين ما يشاء في مساحات افتراضية لا يرى مساحتها حتى بالعين المجردة، بل يكتفي بالجمع والتأليف والحاسب الآلي ومشتقاته هو المكان الأنسب لحفظ أي مادة معرفية من دون النظر إلى حجم وسعة المكان.
تحويل الأفكار.. تتمحور هذه الخاصية حول تحويل كل ما هو ورقي إلى رقمي إلكتروني، سواء صور أو أصوات أو مطبوعات أو كتب وغيرها من الوسائط.
توفير زخم كبير من المواد المعرفية والتعليمية الخاصة باللغة العربية.
جمع كل المنطوق العربي القديم والحديث.
مواكبة تطورات العصر والسير مع تحولات الذكاء الاصطناعي.
تعريف العالم باللغة العربية على اعتبار أنها أحد اللغات الطبيعية المهمة في العالم أجمع.
تيسير تعليم اللغة العربية للناطقين بغير العربية من خلال توفير مختلف الوسائط والبرامج الرقمية.
تيسير الولوج إلى المادة المعرفية والوصول إليها.
خلق بيئات لغوية افتراضية.

عوائق رقمنة اللّغة العربية
الجهل بالجانب الرقمي وانتشار الأمية المعلوماتية في الوطن العربي.
•تدني المستوى المادي الذي يسمح باقتناء الأجهزة المتطورة، مما يصعب مهمة رقمنة اللغة العربية، وهذا راجع إلى مستوى البنية التحتية.
قلة الموارد البشرية المتخصصة في مجال الرقمنة مما يبطئ وتيرة العملية أو تراجعها في مرحلة معينة.
بما أن اللغة العربية لغة سامية، فهذا في حد ذاته بمثابة عائق وتحد بالنسبة للذكاء الاصطناعي، وذلك لما تحتويه من تعقيدات وقواعد وسعة معجم وتعدد دلالات وجوانب بلاغية هلامية تتغير وفقا للسياقات التي تدخل ضمنها الألفاظ.
اختلاف اللهجات من بين التحديات الأخرى التي يواجهها الذكاء الاصطناعي، فالعالم العربي زاخر باللهجات.
اختلاف طبيعة كتابة اللغة العربية فهي تبدأ من اليمين إلى اليسار على عكس اللغات الأخرى.
خصائص اللغة العربية كالاشتقاق والمجاز وغيرها من الظواهر اللغوية.
لا تقبل العربية نظام الالتصاق ودمج الكلمات كما لا تقبل مبدأ الاختصار.
الحروف العربية تتميز برسم مختلف عن بقية اللغات، فهو يتبدل حسب موقعه.
اللغة العربية تتميز بمقاطع صوتية كثيرة وحركات إعرابية مما يصعب عملية رقمنتها.
القضايا المرتبطة باللغة العربية مثل الترادف والتجانس.
اجتهاد العلماء في تطوير الميدان الرقمي أدلى بنتائج مبهرة، فاهتمامهم بتجسيد الذكاء الاصطناعي في الحياة دفعهم إلى ابتكار عدد من الاختراعات المتناهية الدقة، وهذه الأخيرة مست حتى الجانب اللغوي، وخاصة اللغة العربية التي عني أصحابها بتفعيل مبادئ الرقمنة وتخطيط الاستراتيجيات المناسبة لتتماشى مع الذكاء الاصطناعي، وتسخير الفواعل المناسبة تحاكي القدرة اللغوية للإنسان، وخير دليل ما نشهده على ساحات الدرس اللغوي على اختلاف فروعه صوتا وصرفا ونحوا ودلالة ومعجما..

مظاهر رقمنة اللّغة العربية
مشروع الذخيرة اللغوية: وقد تبنى هذا المشروع العلامة الجزائري عبد الرحمن الحاج صالح، وتقوم فكرته على تأسيس بنك آلي جامع للفكر اللغوي العربي منذ عصر الجاهلية إلى العصر الحالي، متميزا بالسرعة والشمولية وأبرز نماذج هذا المشروع المعجم التاريخي للغة العربية.
مشاريع الرقمنة العربية: ويهدف إلى رقمنة المعجم العربي يعمل على تسخير الفهم الأتوماتيكي للمدونات المكتوبة، كما يهدف إلى تأسيس قاعدة بيانات معجمية سهلة الاستعمال.
مبادرة سفراء التعريب العربي: وضمت 10 دول اهتمت بمشاريع إثراء المحتوى الرقمي العربي، ومن بينها تعريب منصة إكس/تويتر سابقا.
مبادرة المغردين العرب: وقامت هذه المبادرة على مقولة “بالعربي أحلى” بالشراكة مع غوغل وإكس (تويتر) الأمريكيتين وبعض المبدعين العرب، حيث عملوا على ترجمة وتعريب بعض المحتويات الهادفة من موسوعة ويكيبيديا وغيرها من المواقع حتى وصل عدد الكلمات المعربة إلى مليون كلمة.

ختاما
توصلت هذه الدراسة إلى جملة من النتائج نذكر منها: أن اللغة العربية تنتمي إلى مصاف اللغات الطبيعية التي تستحق الاندراج ضمن النظام الحاسوبي، وأن الذكاء الاصطناعي هو تحدي العصر، وهذا ما يدفع الباحثين إلى العمل ليل نهار للوصول إلى نتائج لا تزال حبيسة الخيال العلمي.
ولقد تمكن الباحثون العرب من تسخير تقنيات الرقمنة لخدمة اللغة العربية آليا، وبدأت ثمار الدراسات النظرية التي زرعها العلماء منذ فترة ليست ببعيدة في الظهور للعيان، ومن أبرزها مشروع الذخيرة اللغوية الذي تبناه عبد الرحمن الحاج صالح.
لا تزال رقمنة اللّغة العربية تواجه عدة عوائق ومشكلات تحتاج إلى معالجة سريعة للبقاء في مضمار التطور التكنولوجي اللغوي، ذلك لأن محاكاة العقل البشري هو الهدف الأول للذكاء الاصطناعي.