«هل يجب أن تسيل أنهار من الدم لكي نبني العدالة غدا؟ هل علينا أن نتحول إلى موتى لكي نحصل على نظام اجتماعي أفضل؟”
ألبير كامي – العدول
عرف العالم العربي الأشهر الأخيرة هذه أحداثا كارثية تطغى إحداها على الأخرى.
ونحن نغط في سباتنا العميق تطالعنا أخبار خبيثة تخنقنا إلى حد الغثيان وهي تقدم غربا واثقا من نفسه مهيمنا، يملي المعايير وينصب نفسه أستاذ المثل والمبادئ، يعاقب في الغالب ومرات يضفي القدسية على الداخلين تحت ردائه.
في هذه المساهمة، سنذكّر بتاريخ هذه المنطقة الفريدة، فالإضافة إلى كونها مهد الحضارة الإنسانية، هي كذلك مهد الديانات التوحيدية. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنه من سوء حظ هذه المنطقة أنها تنام على مخزونات هائلة من النفط (ربعي الاحتياطات العالمية من البترول توجد في العالم الإسلامي).
سنحاول خلال هذه المساهمة، أن نبيّـن أنه من مفارقات التاريخ أننا نعيش نفس السيناريو مع محاولات العرب والمسلمين إقامة مملكة كتلك التي وعد بها شريف الحجاز أو خلافة خامسة كالتي أعلنها البغدادي الذي صنعه الغرب شأنه شأن بن لادن.
مصدر مأساة العرب
كل شيء بدأ خلال الحرب العالمية الأولى، حين حاول العرب التخلص من الوصاية العثمانية وراهنوا على إنجلترا وفرنسا القوتين المتخصصتين في الاستيلاء على الغنائم الاستعمارية ومخالفة العهود والمواثيق وكذا التصرفات اللئيمة: “كتب هنري لوران أنه ما بين 1916 و1922 تحولت الإمبراطورية العثمانية وصفقاتها إلى موضوع مساومات كثيفة بين الفرنسيين والبريطانيين. وبعد 1918 نصبت الولايات المتحدة نفسها حَكَماً بينهما باسم “حق الشعوب”. وهذا رغم أن هذه الشعوب لم تتم استشارتها فعليا في أي وقت من الأوقات. التقسيم الإقليمي أصبح أكثر هشاشة مع الوقت.(1)
«في سنة 1914 أصبحت الأقاليم العربية في الإمبراطورية العثمانية تحت سيطرة الائتلاف متعدد الأشكال للقوى الأوربية الذي انضمت إليه الولايات المتحدة. فرنسا كانت القوة المهيمنة في “سوريا”(...) البريطانيون الذين يحتلون مصر منذ 1882 انتهى بهم الأمر إلى الاعتراف – على مضض – بهذه الأولوية. (...)وبإشعال انتفاضة الشريف حسين أمير الحجاز كان هدف الإنجليز وضع حدّ للتهديد الجهادي وخلق جبهة جديدة ضد العثمانيين. (...)عدد من الذين يرتبطون عاطفيا بالقاهرة وعلى رأسهم لورانس، الذي أصبح فيما بعد لورانس العرب، راهنوا على النهضة العربية القائمة على الأصول البدوية لتأخذ مكان الفساد العثماني والفرانكفونية في الشام.(...)”(1)
«كيف يتم رسم الحدود بين الأقاليم العربية التي تسيطر عليها بريطانيا وسوريا الفرنسية؟ المفاوضات أوكلت إلى الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والإنجليزي ماك سايكس. (...)الفرنسيون يديرون بطريقة مباشرة المنطقة التي تمتد من السواحل السورية إلى الأناضول. فلسطين توضع تحت إدارة دولية (في واقع الأمر تحت إدارة فرنسية – بريطانية) إقليم البصرة العراقي والمنطقة الفلسطينية في محيط حيفا ستكون تحت إدارة بريطانية مباشرة. الدول العربية المستقلة الممنوحة للهاشميين سيتم تقسيمها إلى منطقتين للنفوذ والوصاية، واحدة في الشمال تخضع للفرنسيين والثانية في الجنوب تخضع للبريطانيين. الرئيس وودرو ويلسن لم يشعر أنه معني بأي شكل من الأشكال بهذه الاتفاقيات “السرية” التي تفاوض حولها شركاؤه، بل نصّب نفسه مدافعا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، رغم أن نواياه لم تكن واضحة وما إذا كان ذلك صالحا للشعوب غير البيضاء مثل “السمراء” (العرب) و«الصفراء”، أما بالنسبة “للزنوج” الأمر غير مطروح تماما(...) سايكس استعمل في هذا الإطار الحركة الصهيونية وهو ما أدى لاحقا إلى وعد بلفور يوم 17 نوفمبر 1917 الذي أعلن تأسيس كيان وطني لليهود “في فلسطين”(...)”.(1)
«في سنة 1918 هيمنت المسألة البترولية وحسب الاتفاق تدير فرنسا منطقة الموصل أين يحتمل وجود مخزونات معتبرة ولكن تمتلك بريطانيا في نفس الوقت حقوق استغلال هناك كذلك(...).
موريس هانكي، سكريتير الحكومة البريطانية سجل في جريدته: “تم اقتياد لويد جورج وكليمونصو إلى السفارة الفرنسية... ولما وجد نفسيهما على انفراد... قال كليمونصو: “طيّب، حول ماذا سوف نتحادث؟”، “حول بلاد الرافدين وفلسطين” أجاب لويد جورج. “قلْ لي ماذا تريد؟” طلب كليمونصو. “أريد الموصل” أجاب لويد جورج. “ستكون لك” قال كليمونصو. “ولا شيء غير ذلك؟”، “ وإذا أردت القدس كذلك” واصل لويد جورج.
«ستكون لك” قال كليمونصو، “لكن بيشون (شكل صعوبات حول الموصل”.(1)
عكس ما أكده الكثير من المعلقين، لم تعين اتفاقيات سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا سنة 1916 الحدود في الشرق الأوسط ولكن رسمت مناطق للنفوذ. (...)إلا أن هذه الهندسة المفروضة من الخارج لا يبدو أنها تستجيب للتحديات الراهنة.
هجوم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) لم تفاجئ إلاّ أولئك الذين لم يبدوا اهتماما بالتطورات الحاصلة في البلاد منذ انسحاب الوحدات الأمريكية.
فشل السلطة المركزية وسياستها المشجعة للشيعة أوجدت الظروف الملائمة للتمرد السني”(2).
ظهور الدولة الإسلامية “داعش”
العالم الغربي وهو يلعب دور الساذج، اكتشف الوحش فرانكشتاين الذي أوجده هو نفسه: “كتب بيتر هاردينغ في جوان 2014، استولى جهاديون سنة ينشطون تحت مسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروفة اختصارا بالحرف العربي بـ(داعش) على الموصل دون قتال، كما أن أمصارا أخرى في هذه المنطقة ذات الأغلبية العربية السنية سقطت بسرعة وبالتوازي مع تفكك الجهاز الأمني خلّفت الدولة العراقية وراءها تجهيزات عسكرية، منها آليات زوّدتها بها الولايات المتحدة الأمريكية، كما خلّفت الكثير من الأسرى – مسجونين في الغالب بطريقة غير قانونية – وسلمت الخصم غنائم نوعية: أهمها حوالي نصف مليار دولار مودعة في ملحقة للبنك المركزي العراقي”.(3)
بالنسبة لـ«فيكن شتريان”، فإن الخارطة الحالية للشرق الأوسط مضللة. الحدود التي تعين أقاليم العراق وسوريا، لبنان وتركيا وكذا اليمن... إلخ، أصبحت من الآن صورية ولا تعكس الحقيقة على الأرض. وكذا الحدود السورية – العراقية لم تعد موجودة وذلك منذ سنة 2012 على الأقل.
في الجانب العراقي، الدولة الإسلامية في العراق والشام تسيطر على أجزاء كبيرة من مقاطعة الأنبار الصحراوية وعلى نسبة كبيرة من الفلوجة وقد وضعت يدها مؤخرا على الموصل. وهي متواجدة في الجانب الآخر من الحدود في قلب الشمال السوري من البوكمال إلى الرقة وحلب. لا شيء يوقف جحافل وأسلحة الدولة الإسلامية على هذه الحدود التي كانت دولية في السابق”.(4)
المستفيدون الأكبر... الأكراد
لم يعد هناك مجال للشك أن أكراد العراق سيخرجون فائزين من هذه اللعبة المدمرة، فإقليمهم الذي زال منذ قرن أصبح لديه حظوظ الانبعاث من جديد بقيادة البرزاني.
أكثر من ذلك، نطلع أن أكراد تركيا قدموا يد المساعدة إلى البشمركة العراقيين. من الممكن أن الإقليم الكردي، الذي يمتد إلى أربعة دول، سيرى النور مادام الغرب وعلى رأسهم فرنسا يعطيه مشروعية ما. أفلم نشاهد فرانسوا هولاند يحط بأربيل عاصمة كردستان على بعد مرمى حجر من بترول منطقة الموصل، إحدى أغنى المحافظات النفطية في العالم والتي يدافع عنها البشمركة بأسلحة فرنسية، قال بشأنها الإليزيه أنها ضرورية لوقف تقدم “داعش”...
«كتب آلان كافال، أن المستفيدين الأوائل من المأزق العراقي هم الأكراد بطبيعة الحال: استغلوا المعارك للسيطرة على كركوك التي يعتبرونها عاصمتهم التاريخية(...). على الطريق المؤدي من كركوك، هناك مدينة انتقلت لتوّها لسيطرة قوات الحكومة الجهوية لكردستان. والحويجة أين ترفرف راية الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) المنفلتة في واقع الأمر من سيطرة السلطات في بغداد منذ نهاية حرب الخليج (1990 - 1991) والتي تحصلت على الاعتراف الدستوري وعلى استقلالها الذاتي منذ سقوط صدام حسين. كردستان العراق يرى طموحاته الإقليمية التاريخية تتجسد في ظل دولة مركزية آيلة إلى السقوط في شمال البلاد تهيمن عليها أحزاب عربية شيعية.(4)
الخطر الداهم على المغرب العربي مستقبلا
نطلع في جريدة ليكسبريسيون، “داعش” هذا الوحش الذي يهدد الجميع في كل مكان يؤرق الكثير من الدول منها بلدان شمال إفريقيا.
وبحسب وسائل الإعلام التونسية، تهديد هذا التنظيم جدي. وفي هذا الصدد، أورد موقع “رياليتي” عن مصادر أمنية، أن “العديد من عناصر هذا التنظيم ينتظرون الفرصة السانحة للدخول إلى تونس وتكوين نواة وارتكاب فظاعات هناك، كما يفعلون في العراق وسوريا(...). وضمن منطق دموي ظلامي تنوي “داعش” اختراق كل الدول الإسلامية.
إن الانتشار المدهش لهذه الحركة ذات الإيديولوجية الوهابية، شجعته الحرب العالمية على سوريا منذ 2011 والدعم المالي لبعض دول الخليج والإسناد الغربي والتركي بالأسلحة على وجه الخصوص، مكنها كل ذلك من ضم 12.000 عنصر على الأقل من مختلف الجنسيات: أمريكية، أوروبية ومن العالم العربي كذلك. أين يشكل التونسيون السواد الأعظم وعودتهم “الوشيكة” تشكل معضلة أمنية حقيقية ليس لتونس وحدها ولكن للجزائر كذلك”.(5)
تحالف مثلما اتفق بين السادة والخدم
الاجتماع لتنسيق الهجوم على “داعش” تم بباريس، أين اجتمعت حوالي ثلاثين دولة. إيران جددت معارضتها لهذه “الندوة الاستعراضية”، حيث أكدت أنها لم تكن تنتظر هذا التجنيد الذي أطلقته الولايات المتحدة لتقديم المساعدة لدمشق وبغداد لمواجهة تقدم الجهاديين.
إيران أكدت، أمس، رفضها التعاون مع واشنطن لمحاربة جهاديي الدولة الإسلامية، لأنها تعتبر هذا التحالف غير شرعي، لأن الهدف الحقيقي منه يبقى، بحسب طهران، هو الإطاحة بالنظام السوري(...). بالنسبة للمحلل الإيراني أمير موهوبيان، وبحسب ما جاء في وكالة الأنباء الفرنسية، فإن واشنطن هي بصدد بناء تحالف غريب تتداخل فيه المصالح المغايرة تماما للهدف المعلن مع “تركيا التي تستضيف قادة داعش في مستشفياتها وقطر التي تمولهم والعربية السعودية التي ساعدت على إيجادهم في سوريا”. الأمريكيون “عليهم الاختيار بين الأسد والإرهابيين، لأنه ليس هناك مجموعات متمردة معتدلة” بحسب هذا المحلل(6).
ما الذي سيحدث؟
فرانسوا هولاند زار العراق ومن الواضح أنه تفاوض من أجل بيع أسلحة وأخذ موقعه في مسلسل تقسيم العراق الذي سيأتي لاحقا. هذا التحالف يذكرنا بذلك الذي إلتأم ضد صدام حسين سنة 1991 (26 دولة). العرب ضد العرب وضد المسلمين... هل سيطلب الحلف الضوء الأخضر من مجلس الأمن للتدخل؟ وإذا كان الأمر كذلك ماذا تعني الطلعات الاستطلاعية لفرنسا؟ هل هناك اتفاق بين العراق أو ما تبقّى منه مع فرنسا؟ ماذا سيفعل الروس؟ هل سيفرضون الفيتو؟ وماذا عن الصين هل ستبقى متفرجة، في الوقت الذي تضع فيه الدول الغربية يدها بصفة نهائية على آبار النفط؟ وهل سيطلب من سوريا رأيها لقصف داعش؟. كيف نفرق بين الإرهابي الطيب وداعش؟ الأشهر القادمة ستكون مصيرية. ليس هناك شك أنه بمساعدة البغدادي، فابيوس وكيري سيعاد رسم خارطة الشرق الأوسط من أجل مصلحة الأمبراطورية وأتباعها ولكن على حساب تعاسة العرب...