طباعة هذه الصفحة

المُخيّـم أرضُ الرّمـاد المُتفجّـرة

بقلم :د. المتوكل طه
المُخيّـم أرضُ الرّمـاد المُتفجّـرة
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

يعتبر المخيّم الفلسطيني، ونتيجة للنكبة والنكسة، وحدة إجتماعية واقتصادية وسياسية، وبالتالي أصبحت ذات ملامح ثقافية، وأصبح المعوّل عليه وطنيا. وقد وقع نتيجة لذلك، بين شفرات الُمطلق والنسبيّ، ما بين متطلّبات الثورة وفضائها، وبين متطلّبات الواقع وضيقه.

المخيّم الذي يقع في منطقة الرماد في كلّ شيء؛ جغرافياً كونه قريباً من المدينة ولكنه ليس منها، وثقافياً باعتباره غريباً عن النسيج الاجتماعي وممنوعاً من الاندماج فيه، واقتصادياً باعتبار أنّ موارده تأتي جاهزة وهو ممنوع من الانخراط في الدورة الإنتاجية، وسياسياً باعتباره ممنوعاً من المشاركة والتمثيل والانتخاب..كلّ ذلك جعله ينقسم على ذاته، ويدخل في متاهات من التعريف وإعادة التعريف.
الثورة كانت حلاً ولكنّها ليست كلّ الحلول، وخاصّة بعد انكفائها. المخيّم، وهو وضع استثنائي في تطوّر المجتمعات وسلوكها، منقسم على ذاته، لأنّه موزّع بين الانتماءات، والولاءات، والأمكنة. والمنفى ليس مكاناً وحسب، إنّه تجربة مهيظة وقاسية، لأنّه قادر على إجبار أو إقناع اللاجئ بفقدان هويته أو التخلّي عنها طواعية. المخيّم الصامد، مخزون الثورة الاستراتيجي، حامل المشعل وشاهد المرحلة ومعلّم الأجيال، ومعلّم الأيام أيضاً، الذي طوّر له لغة خاصّة ومصطلحات خاصّة، وقسّم فئاته وأعاد ربط ما انقطع، وسمّى الأشياء من جديد، وأرغم المدينة، ومن ثمّ القريب والغريب، على الاعتراف به والتعامل معه..هذا المخيّم كان لزاماً عليه أن يصطدم بما حوله، شاء أم لم يشأ، الثورة خيار صعب، وهي خيار مجنون ولا عقلاني أيضاً، الثورة وجدان، والثورة لا حسابات منطقية فيها- ومتى كانت كذلك يوماً؟- وعندما اختار المخيّم اصطدم بمن حوله سريعاً، ومن هنا تعلّم المخيّم أن يكون متوجّساً وشكّاكاً ولا يثق، وإذا كان المخيّم أرضية خصبة وطبيعية للمشاعر القوية ضدّ الاحتلال الصهيوني، فإنّه طوّر أيضاً مشاعر متناقضة تجاه المحيط، الذي يحيا فيه المخيّم المعزول والممنوع والفقير.
 وقد طوّر عقلية خاصّة، هي عقلية متوجّسة وشكّاكة وقريبة من الإيمان المطلق دائماً، عقلية اللاجئ ليست فيها تسويات كثيرة، وهي أقلّ جدلاً وأقلّ رغبة في الكلام، هي عقلية تحيا على حافة القبر - ليس أسوأ من المنفى، وليس أسوأ من النكران، وليس أسوأ من الفقر- المخيّم لم يعد يزعج كيان الاحتلال فقط..
 فهو قنبلة سياسية، وقنبلة اجتماعية أيضاً. إنّ أذكى الأنظمة التي تحاول السيطرة أو تذويب أو دمج المخيّم أو تحويله من نار تحرق إلى نار يُطبخ عليها..لم تصل إلى نجاح أكيد ونهائي. مرة أخرى، ومن هنا، فإنّ حلّ القضية الفلسطينية هي أولوية عربية ودولية، ليس فقط من منطلقات سياسية وأخلاقية وأمنية، وإنّما من منطلقات اجتماعية صرفة. ولا أقصد هنا في الحديث أن يتحرّك المخيّم كلّه باتجاه معيّن، بل يكفي أن يكون هناك “نتوء، أو مُشكل” واحد ليدمّر المخيّم أو ليثير المحيط ويدمّره.
ولا أريد أن أسترسل في الأمثلة التي تؤكّد الكلام. يجب الاعتراف بقوّة وصرامة أنّ المخيّم مشكلة اجتماعية وصحية، وحتى لا نُفهم خطأ-بنيّة حسنة أو غير حسنة- فإنّ المخيّم يجب أن يزول ويختفي عن الوجود لأنّ سكانه يجب- وهنا أكتب “يجب” بخط كبير وألفظها بملء الفم- أن يعودوا إلى ديارهم وأوطانهم التي هُجّروا منها، غير منقوصين، هذا هو واجب الأُمّة، وواجب الأجيال المقبلة أيضاً، ومن ينسى هذا الحق أو يفرّط فيه فإنّه عملياً يقبل أن يأتي الإثيوبي إلى فلسطين ويأخذ كامل الحقوق، فيما يحرّم على امرأة فلسطينية أن تعود إلى وطنها لتعيش مع زوجها وأطفالها- إقرأوا قانون العودة الصهيوني للعام 1952 و 1972 والتعديلات التي أجريت عليه في الثمانينيات والتسعينيات لتروا مدى العنصرية ومدى الاستعداد القانوني لمنع العرب الفلسطينيين من البقاء في أوطانهم.
ولكن وبعد تأكيد هذا الحق بما لا لبُس فيه، فإنّ المخيّم الذي يحيا اليوميّ والنسبيّ، ومتطلّبات الحياة اليومية؛ من أكل وشرب وتعليم وصحّة وعمل وتأمينات اجتماعية وصحّية، وأشكال سلوك متغيّرة ومرتجلة، هذا المخيّم الذي يعيش على المطلق، ولكنّه مضطرّ إلى التعامل مع النسبي، يتحوّل شيئاً فشيئاً -وخاصّة بعد اتفاق أوسلو وتغيّر العالم ونجاح العولمة وانكفاء الثورات وتراجع الشعارات وخفوت الأصوات عن العودة أو مضامينها الحقيقية- فإنّ المخيّم يتحوّل إلى مشكلة وعبء حقيقي، ليس على السلطة الوطنية وحسب، وإنّما على الأنظمة التي تعيش فيها تلك المخيّمات.
لا يمكن حسم المخيّم في نهاية الأمر. عقلية اللاجئ الذي يحيا على الأحلام، ويضطرّ إلى البحث عن لقمة الخبز، ويحاول ردّ الأذى الاحتلالي.. سيطوّر سلوكاً غير متوقّع، هذا الكلام يعني ببساطة أنّ كيان الاحتلال وغير كيان الاحتلال مجبرون على حلّ القضية الفلسطينية، فالتدمير والتهجير، حتى وإن توالى لن يُؤدّي إلى خلق علاقة غرامية مع المحتلّ، والفقر والنكران لن يحوّل المجروحين إلى قدّيسين يدعون إلى محبة العدوّ، الذي نقدّم له الخدّ الأيمن ليصفعه.
ومهما بدا الكلام قاسياً ولكني أرجو أن يُفهم بواقعيته وأهدافه البعيدة، فأنا عملياً ألوّح بالقدرات التي رأينا بعضها وتلك التي لم نشاهد بعد، والتي يمكن للمخيّم أن يجترحها ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية، وبعيداً عن فذلكات الأكاديميين ورغبتهم في الوصف والتبويب والفهرسة..
ومن ثمّ الاستخلاصات، فإنّ المخيّمات التي تصبح عناوين للبلاد والثورة والحنين، تتحوّل بفعل الزمن إلى مواطنين من درجة أقلّ، ويحصلون على حقوق وواجبات أقلّ، أيّ أنّ جُرح الطرد يضاف إليه جرح النكران والتهميش، وكأنّ حالة اللّجوء هي حالة مشبوهة أو مُدانة أصلاً. إنّ وضعاً كهذا -وإن استمرّ بشكل أو بآخر- وإن تمّ استيعابه بشكل أو بآخر- وإنْ تمّ تدجينه بشكل أو بآخر..
لا يمكن له أن يستمرّ. إنّ بيت الصفيح ليس أفضل حالاً من خيمة 1948، وإنّ معونات وكالة الغوث التي تتناقص سنة بعد سنة، لن تكون بديلاً عن أحلام عريضة، وإنّ التطامن أو السكون أو الخضوع لأوامر المحيط وقوانينه لن تسود إلى الأبد، خاصّة إذا توالت عمليات التنازل والتطبيع المجاني وقبول كيان الاحتلال بالكامل، دون إيجاد حلّ لأكثر من سبعة ملايين فلسطيني موزّعين ما بين بيوت صفيحية أو مجاهل بعيدة.
وكلّما تقدّمنا في الزمن، فإنّ مشكلة المخيّم -متعدّدة المستويات ومعقّدة التجليات- تزداد وتتفاقم، ليست فقط بسبب الآلية الخاصّة بتطوّر المخيّم وتعدّد خياراته، وإنّما أيضاً- وبذات الدرجة من القوّة- بسبب أزمة أو أزمات الأنظمة التي تعيش ضمن حدودها تلك المخيّمات.
إنّ الأنظمة التي تعيش أزمات مختلفة تتعمّق يوماً بعد يوم، وهي أزمات اقتصادية وسياسية، ولبنان وجنين تعطينا مثالاً مناسباً فيما يمكن للمقدّمات والنتائج أن تكون. إنّ تجسّد السلطة الوطنية في الضفّة والقطاع- أو في الضفّة فقط في هذه الأثناء- لم يساعد حتى اللحظة في حلّ ضائقة المخيّم، بل على العكس من ذلك، إذ أنّ تجسّد السلطة الوطنية بدا وكأنّه حلّ نهائي لموضوع المخيّم، ومن هنا، ازدادت حدّة الموضوع، وزاد ضغطه الشديد على الوعي والوجدان، فهل ينتظر سكان المخيّمات منفى أبديا، أم تجنيساً أم توطيناً أم تعويضاً أم عودة مجزوءة؟
أسئلة تزيد من حدّة وتطرّف المسألة، فاللاجئ ليس مهاجراً ولا مغامراً ولا مستوطناً، وإنّ تهديد المخيّم بخيارات متعدّدة ومختلفة ضمن أزمات متلاحقة وضغوطات من جهات متعدّدة، كلّ ذلك يدفع الأمر إلى عنق الزجاجة. وإذا كانت النكبة والنكسة، ثمّ الأزمات والتفتيت والانقسام، ثمّ العدوان والإبادة، قد أضرّت بالمخيّم، فضُرب وحُوصر وتهدّم، فإنّنا الآن على أبواب مرحلة جديدة، تقوم فيها سلطة الصهاينة بإبادة المخيّمات في غزّة بفاشية وانتقام، وتستهدف مخيّمات الضفّة دون حساب، فيما يغرق المخيّم بأزماته أكثر فأكثر، في ظلّ غياب جارح لأيّ مفهوم شموليّ يقدّم الحلول المطلوبة، واستباحات دموية للبلاد والعباد دون ردّ! ودون وضع تصوّرات تحتوي كلّ ذلك، في لحظة غابت فيها الحركة الوطنية والنُّخب الفلسطينية، وفقدت دورها!
فالأمر خطير، وقد ينفتح على أُفقٍ فوضويّ، يسمح للاحتلال، أكثر، لهندسة رغباته الجهنمية في أحشائنا، ما يعني أنّ على الجميع تحمّل مسؤوليته، والخروج من عنق الزجاجة!