طباعة هذه الصفحة

كتاب “أزمة الإنسان في المجتمع المعاصر عند هربرت ماركوز”

عن تغييب الإرادة الإنسانية في مجتمع الاستهلاك

أسامة إفراح

 

في كتابها “أزمة الإنسان في المجتمع المعاصر عند هربرت ماركوز”، تسلّط هالة العباسي الضوء على محاولة ماركوز كشف حقيقة الوجود الإنساني ضمن المجتمع الصناعي، وما رافقه من تكييف لوعيه وتنميط لسلوكه. فالنظام الرأسمالي، حسبه، يعتمد آليات لخلق حاجات وهمية للإنسان، وتوجيه الفرد نحو الفكر الاستهلاكي، ما أدى إلى عجز كبير في التفكير، وأصبح العقل، في نظر ماركوز، أداة للسيطرة والحفاظ على الوضع القائم وتثبيته.


 من العناوين الجديدة التي تدعّمت بها رفوف المكتبة الفلسفية الجزائرية، نذكر كتاب هالة العباسي المعنون “أزمة الإنسان في المجتمع المعاصر عند هربرت ماركوز”، والصادر عن “ألفا للوثائق” في 177 صفحة.
ترى هالة العباسي في كتابها (وهو في الأصل عنوان مذكرتها للماجستير بكلية الآداب بجامعة حلوان المصرية)، أن إنجازات المجتمع الصناعي الرأسمالي المعاصر ومستويات تطوره التقني المحققة، وما رافقها من محاسن الوفرة والرفاه، حددت نمطا جديدا للحياة.
وتضيف العباسي، في مقدمة إصدارها، أن هذه الإنجازات ينظر إليها عادة على أنها دليل سلامة التوجه الحضاري، ودليل على قدرة الإنسان على الارتقاء في حياته إلى مراتب من التقدم تجعل حياته أحسن وأفضل، كما يرافق هذه الإنجازات الترويج لقدرة العقل على تجاوز كل العوائق التي كانت في الماضي.
بالمقابل، توجد تيارات فلسفية متعددة تعتقد أن هذه الإنجازات ليست بريئة، فهي تحجب مجموع إخفاقات وانحرافات هذا المجتمع الصناعي كما تموه الحقيقة. ونجد أن الكثير من المفكرين لم يشيدوا بهذه الإنجازات بقدر ما وجهتهم إلى تأمل وضع الإنسان ضمن هذا الإطار الاجتماعي المتميز.
ومن بين هؤلاء المفكّرين، تذكر الكاتبة أعلام مدرسة فرانكفورت، وعلى وجه الخصوص هربرت ماركوز، الذي قام بنقد المجتمع الغربي ونظامه المتمثل خاصة في النظام الرأسمالي الليبرالي وما أوجده من قمع وبؤس وشقاء للإنسان، بل جعل إنسان هذا العصر ذا بعد واحد في ثقافته وحضارته لا يفكر إلا فيما تنتجه السلطة، والتي تسعى إلى دمج كل فئات المجتمع وتحقيق السيطرة والهيمنة، خاصة وأنها تملك أنجع وسيلة وهي التقنية، مما زاد التسلط والقمع مقارنة بالعصور السابقة.
وقد حاول ماركوز، من خلال تحليلاته النقدية، أن يكشف حقيقة الوجود الإنساني ضمن المجتمع الصناعي وما رافقه من تكييف لوعيه وتنميط سلوكه، لأن النظام الرأسمالي يشتغل بآليات تنفي أي إمكانية للمعارضة أو التغيير. كما تعمل هذه الآليات على خلق حاجات وهمية للإنسان وتوجيه الفرد نحو الفكر الاستهلاكي. وأدى هذا النزوع إلى عجز كبير في التفكير، فالعقل في نظر ماركوز أصبح أداة للسيطرة موجهة للحفاظ على الوضع القائم وتثبيته.
وتتحدّث الكاتبة عن وجود عوامل وتأثيرات عديدة أسهمت في النضج الفكري لماركوز، ووفق ترتيب د - فؤاد زكريا لها، فقد كان تأثير هيغل هو الأسبق وهو الذي ظل ملازما له حتى النهاية، وتلاه تأثير كل من ماركس ونيتشه، وفي مرحلة تالية يأتي تأثير فرويد وهيدغر.
وتعتبر العباسي أنّ ماركوز أراد إبراز حقيقة الإنسان في المجتمع المعاصر من خلال محاولة الجمع بين مذاهب وآراء مختلفة، فقد جمع بين تصور هيغل حين اعتبر أنّ الإنسان لا يصنع التاريخ بقدر ما يصنع التاريخ الإنسان (وهذا ما حاول ماركوز إثباته حين اعتبر أن المجتمع المعاصر يملك القدرة على تشكيل الإنسان وفقا للمتطلبات التي خلقها هذا المجتمع)، وبين تصور ماركس الذي اعتبر أن العوامل الاقتصادية هي المتحكم والمسيطر في الإنسان، وفرويد من خلال الكشف عن صور قمع الحياة الجنسية. كل هذه التأثيرات رسمت لدى ماركيوز وضع الإنسان في المجتمع الصناعي.
وتخلص العباسي إلى أن هربرت ماركوز قد جاء بنقده للمجتمع الصناعي كمرحلة أولى لإعداد مشروع للتحرر، ويعتبر ماركوز الهيمنة التي يخضع لها الفرد داخل المجتمع المغلق ستكون دافعا للتغيير والتحرر.
وقسّمت العباسي كتابها إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، حيث يتناول الفصل الأول مفهوم الإنسان والحضارة الصناعية، ومن خلاله تتطرق الكاتبة إلى مفهوم الإنسان عند كل من هيغل وماركس باعتبارهما البدايات الأولى للفكر الماركوزي، بالإضافة إلى مفهوم الإنسان عند هربرت ماركوز، ويلي ذلك تعريف الحضارة الصناعية في كل من المجتمعين الرأسمالي والاشتراكي.
أما الفصل الثاني فتعرض فيه الكاتبة استراتيجيات عقلانية السيطرة، وذلك بواسطة الكشف عن آليات القمع عند هربرت ماركوز، فضلا عن التطرق إلى النزعة الوضعية باعتبارها إحدى آليات تثبيت النظام، كما تعرض الكاتبة في هذا الفصل كيفيات تنميط الإنسان، أولا، من خلال صناعة الثقافة بتشكيل اللغة وإخضاع وسائل الإعلام، وثانيا، من خلال استلاب الفن.
وخصّصت الكاتبة الفصل الثالث لما أسمته “الحرية الزائفة”، من خلال إبراز غياب الإرادة الإنسانية في مجتمع الاستهلاك، وكذلك تحليل ظاهرة الاغتراب (شرح مفهوم ومراحل الاغتراب) والكشف عن الوضع الذي آل إليه الإنسان في مجتمع السيطرة، فضلا عن التعرض لغياب العقل، وهو ما أسمته الكاتبة “إخفاق العقل (العقل التقني)”.
فيما يتناول الفصل الرابع والأخير مظاهر المستقبل اللاقمعي، وذلك من خلال البحث عن إمكانيات التحرر التي يرى فيها هربرت ماركوز الأمل لإحداث التغيير وتحقيق الحرية، وهنا تتحدث الكاتبة عن عوامل التحرر (تحقق الثورة ومقاومة الثورة المضادة، قوى التحرر). كما يتطرق الفصل إلى حلول وآفاق لتجاوز أزمة الإنسان المعاصر وذلك من خلال بناء مجتمع جديد أساسه الحرية والسعادة، والإحساس بالجمال.