يؤصّل هذا الكتاب لمرحلةٍ رجراجة عاشتها فلسطين، وكانت مقطعاً ساخناً يشهدُ عمقُه الموّار على إرهاصاتِ تغيّراتٍ لافتةٍ وعميقة، تجلّت لاحقاً، وما فتئت تواصل تداعياتها حتى اليوم. هذا الكتاب، الذي دفعه إليّ ناشرُه، لمراجعته وتقديمه، وقتها..رأيتُ أنّه وثيقةٌ حاسمةٌ ممتدّةٌ وشديدة الحضور.
هي مضامين كلّ المراسلات والمفاوضات واللّقاءات التي تمّت بين الجانب الفلسطيني، لحظة حصار الرئيس الشهيد ياسر عرفات في المقاطعة، مع كلّ الأطراف ذات الصلة، ما يكشف عن قراءةٍ مُبطَّنةٍ، واسعة، ومباشرة، ومن شاهدٍ كان شريكاً في تلك المفاوضات واللّقاءات، هو كبير مفاوضي فلسطين وأمين سرّ لجنتها التنفيذية د. صائب عريقات.
وسيرى المُتلقّي في هذه الوثائق والحقائق موازينَ القوى واختلالها المُمضّ وتصادم الرؤى العنيف، كما تقدّم درساً بليغاً للمهتمّين والدارسين والمؤرّخين الذين سيجدون مرجعاً لهم، وسنداً لا يرقى إليه الشكّ، في قراءتهم لمراحلِ تطوّر الأداء السياسي الفلسطيني.
إنّ هذا الكتاب العارف يصلح لأن يكون سرديّةً كاشفةً لبضع سنواتٍ قاسيةٍ وعظيمة، ستقول للقرّاء والمتلقين؛ كم كان الرئيس ياسر عرفات ثابتاً وفذّاً ونقيّاً وقائداً جسوراً..تليقُ به الشهادةُ والرمزية والخلود! وربما يسأل القارئ: لماذا لم يُعقّب د. صائب على هذه الوثائق، وقدّمها عاريةً كما هي دون إضافة أو شرحٍ أو إظهارٍ للموقف؟ هل لأنّها شديدة الوضوح والانكشاف؟ أم لأنّه يريد أن يُشْرِك القارئ ليُعمل فكره معه؟ أم لأنّ الوثائق تنفتح على العديد من الدلالات، ولا يريد الكاتب أن يحشرها في بُعدٍ واحد؟ أم أنّه لا يريد أن يكشف عن آراء المفاوضين الفلسطينيين؟ فلو وضع رأيه لوجب أن يضع آراء الآخرين! أم أنّها نظرية البحث التي تُجيز للدارس أن يقدّم الوثائق دون شرحٍ أو تدخّل، وتترك ذلك للباحثين؟ رغم وجود نظرية مقابلة للبحث تُطالب الدارس بأن يشرح ويعقّب، أم لأنّ الوثائق تقول بنفسها أكثر ممّا سيقوله صاحبها، أيّ أنّه لا يريد أن يفسّر الماءَ بالماء! ولعلّ هذه الوثائق ترغب في الإدلاء بشهادة صاحبها للتاريخ، بما عرفه وعايشه وتجمّع لديه، ليكون سنداً وثائقياً، يساهم في توضيح بعض الزوايا، وإضاءة ما ينبغي إظهاره.
ويمكن للباحثين استخلاص غير نظريةٍ سياسيةٍ من قلب هذه المفاوضات، مثل نظرية الضحية ببُعديها الإيجابي والسلبي، ونظرية تقديم الحلّ والبديل، ونظرية الاستدراك المُسْبَق، كما يمكننا رؤية النظريات السياسية المعروفة وهي تتمثّل وتتمّ ترجمتها عملياً، مثل نظرية صناعة الموافقة، أو صناعة التصديق، أو تجلّيات آليات القوّة، كالابتزاز والعصا والجزرة والتلويح..إلخ.
إنّ الكاتب منّا ليس حياديّاً تجاه أرضه وشعبه وقضيته، ولا ينبغي له ذلك، تحت مسمّيات تنقية التاريخ أو النزاهة أو الانتقاء أو النفي أو غير ذلك. وإنّ ما يدفع الواحد منّا للكتابة هو ذلك العامل الاحتلالي الفاعل، الذي يهدف إلى إلغاء كلّ معانيات شعبنا وإخفائها وطمس معالم جريمته، بل يهدف ذلك العامل إلى تحويل ضحيته إلى مجرم.
وما قام به د. صائب يحول دون ذلك. وغنيٌّ عن القول إنّه من دون تأصيل تاريخي فإنّنا لن نمتلك هويتنا، ولن نحفظ شخصيتنا، بكلّ مكوّناتها، ولن نسجّل الوقائع الماضية لندرك حاضرنا، ولن نشرف على المستقبل.
بمعنى أنّ هدف الكتابة ليس المديح، بقدر ما هو كشفٌ للواقع المعيش وتجاوزٌ له. وقد تهدف هذه الوثائق إلى إثارة النّقاش والجدل، خصوصاً فيما يتعلّق بالتحليل السياسي المُضمَر الذي حملته، وبفهمها للمفاوضات، باعتبارها الطرائق التي تمّت من خلالها محاولات تفكيك العقبات والمشكلات وتصادم الأكتاف، في لحظة شرسة وشديدة الضيق والخطورة.
ولعلّنا بحاجة، من جديد، كشعب فلسطيني اقتُلع من أرضه، ويتعرّض للإبادة والمحرقة الممتدّة، وشُرّد معظمه، واستُلبت حقوقه ومقدّساته، وانتُهكت حُرماته، ما زال ممنوعاً من ممارسة حقّه في الحياة الكريمة والتطوّر الطبيعي، بحاجة ماسّة إلى العودة إلى المربّع الأول من النّقاش السياسي والفكري فيما يتعلّق بمفهوم الصهاينة والسلام المطروح والحقوق المشروعة، أنّ هذه الوثائق تكشف فهماً آخرَ مغايراً للاحتلال، يحاول الاحتلال نفسه أن يقدّم ذاته من خلالها، بالقوّة والمفاوضات ومساندة حلفائه له.
بمعنى أنَّ علينا أن ننطلق من مفهوم أنّ الصهيونية قامت لتؤدّي دوراً وظيفيّاً، وأنّها من فصيلة الاستيطان الإحلالي الذي قام على إلغاء الشعوب الأصلية، من خلال القتل والإبادة والتهميش، وأنّها ما زالت تتحالف بشكل مسعور مع شقيقاتها من الفصيلة ذاتها، خاصّة الإدارة الأمريكية التي قامت على الأسس نفسها فيما سُمّي بالعالم الجديد.
وبمعنى أنّ السلام المطروح في أفضل صوره، من وجهة نظر الصهاينة، هو سلام جنائزي إباديّ واستيطاني فاشيّ، أو مؤقّت، أو هدنة ممكنة، أو مفروضة، أو ذريعة للتطهير العرقي، وليس سلاماً عادلاً، وأنّ الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني يجب ألا تخضع لوجهات نظر أو اجتهادات شخصية مُفرّطة، تحت عنوان الواقعية أو حرية التعبير، وبمعنى أنّه ينبغي على شعبنا حراسة حلمه وحفظه من التبديل أو الإنقاص، بحكْم ضواغط المذابح والتطهير العرقيّ والقوى الخارجية، وبمعنى أنّه ينبغي عليه أن يحتضن حقوقه غير القابلة للتصرف، وأن يُبقي خطابه التربوي والفكري والإعلامي والثقافي في خدمة الحلم والثوابت.
وأرى أنّ الكاتب هنا انحاز إلى المربّع الوطني، ورأينا ذلك في الروح التي انسربت على لسانه وتجلّت في أُسلوب تناوله هذه الأوراق الثبوتية المهمّة.
ويُحسَب للدكتور صائب هذا الوفاء لكَبش فلسطين المُكحّل ياسر عرفات، حتى أنّ عنوان هذا الكتاب كان لا بدّ له من الإشارة الحاسمة لتلك الأُسطورة الخالدة، الشهيد الباقي فينا أبو عمار، ولأيامه الصعبة المجيدة. كما يُحسب لأخي صائب أنّه من السياسيين الذين لديهم “معرفة”! بمعنى أنّنا تعوّدنا مؤخّراً على شخصياتٍ تشتغل في السياسة وهي أقرب إلى الأُمّيّة الفكرية، وحتى اللّغوية، وهي ذات حمولة ثقافية ومعرفية ضعيفة وركيكة وبائسة!
أقول هذا لأنّ الذي يريد أن يعترك السياسة عليه أن يمتلك رؤيةً أو أن يكون صاحب نظرية..رغم أنّ المطلوب من السياسيّ الحقّ أن يثبت مقدرته على تخليق الترابية النظرية لعمله السياسي، ويكون مدركاً لمجمل ما قيل في الأبعاد الصاخبة للحراك السياسي. إنّ مهمّة المثقّف ودوره يختلفان عن دور ومهمّة السياسي المحكوم بموازين القوّة، والممكن وغير الممكن، وتتحكّم فيه اللحظة التاريخية. أمّا المثقّف، فهو حارس الحُلم، والمؤكِّد على الثوابت، بمعنى أنّه الاستراتيجي، الذي لا يحكمه شيء.
وبهذا المعنى، فإنّ السياسي الجيّد هو الذي يقترب من المثقّف. والمثقّف ينبغي ألا يتبع السياسي أو يبرّر له. وعليه؛ لا يحقّ للمثقّف الحقيقي أن يسقط، بشكل ساذج أو مقصود، فيما يُسمى بالتفاوض أو التطبيع أو الحوار أو الإعلان عن قبول حلٍّ منقوصٍ بدعوى الواقعية السياسية وما تُمليه اللحظة التاريخية الراهنة. وهذا لا يمنع أن تكون للمثقّف رؤيته السياسية أو انتماؤه الحرُّ غير الضيّق. غير أنّ على المثقّف، الذي يساهم نتاجه وإبداعه في إنتاج وتكوين الفرد والمجتمع، أن يدرك خطورة الهبوط إلى اليومي والآنّي والتكتيكيّ على حساب النموذج والاستراتيجيّ الذي ينبغي العمل للوصول إليه. كما على المثقّف أن يعمل داخل نسيج مجتمعه لتمتينه وصيانته، وخلق كوابح داخله تَحول دون هرولة السياسي، بل تعمل على جذبه إلى ثوابته ومنطلقاته وروحه.
وهنا نجد الكاتب ينتمي إلى السياسي الحريص على حقوق شعبه، رغم انغماسه في حمأة التفاوض وألاعيب الشدّ والمدّ المربكة. وهنا، في هذه الوثائق؛ حاول د. صائب ألاّ يجعلها تقريراً صحافياً، أو انطباعاً وجدانياً قصير المدى، أو اجتراراً لما قيل، ولم يقع في عنكبوت الأُطروحات التي وُجدت لتحقيق أهدافٍ خارجية.
وبالرغم من أنّ الكاتب متورّط في اللحظة السياسة التي تحمل معها الأزمة الوطنية والسياسية والحضارية والفكرية والشخصية، فإنّه أدرك ضرورة الاعتناء ببعض التفاصيل الممضّة، وبسرد بعض ما حدث على نتوئه وصعوبته، لنعيد رؤية ما حصل، حتى لا يعاد إنتاجه على جلودنا، مرّة أخرى، مع اعتقادنا أنّ الأساس المهم لهذه الأوراق هو التعمّق في هذه اللحظة التاريخية وسبر غورها وحفظها، لأنّ الكثير من التفاصيل سيذهب أدراج النسيان.
لكنّ د. صائب اضطر لأن يحذف بعض الوثائق، لغير سبب، ما جعله يلجأ إلى “تنقية” المرحلة من بعض معطياتها السلبية غير اللائقة بأصحابها! وعندما ألحفتُ عليه لإبقاء تلك الوثائق، أجاب بأنّه لا يريد “مشاكل” مع أحد!
وهذا يوصلنا إلى سؤال: أين باقي أوراق ومحاضر ووثائق المفاوضات واللّقاءات، جميعها، مع الاحتلال وغيره، أين هي، ولماذا لم تُنشر؟ وربّما وجد الكاتب نفسه مضطرّاً للمباشرة والوضوح، والسبب برأيي أنّ الوثيقة المجرّدة تحكي نفسها مباشرة، بدلالتها القطعيّة، ولا تحتمل الثرثرة من حولها!
ولأنّ الدم واضح، والمجنزرة مباشرة جدّاً، وتصريحات قادة الكيان وأمريكا واضحة ومباشرة إلى حدّ الموت، والفجيعة أمضّ من الصراخ، والألم والغضب أحدّ من برق القاذفات ووميض الرصاص الذي فتّت الجماجم والضلوع، والقهر والحاجة أقطع من جنازير الدبّابات.
إنّ د. صائب عكس الحقيقة الساطعة كما هي، ولم يتبرّأ من المسؤولية، بل امتلك الجسارة الأدبية ليقول لنا وللتاريخ: هذا ما كان، وأنا شاهدٌ عليه.