طباعة هذه الصفحة

الــمطـحـنـة!

ابراهيم ملحم

ليس ثمّة ما هو أدقّ من المقالة العنوان لتوصيف هَول ما يُكابده نحو مئتي ألفٍ من سكان جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، شمال غزّة، منذ تسعة عشر يوماً، دون ماءٍ أو غذاءٍ أو دواء.

وفق تقارير لمنظمات أممية، فإنّ قوات الاحتلال تمنع دخول أيّ مساعدات، ولا تسمح لسيارات الإسعاف بالعمل في المنطقة، لإغاثة المحاصرين فيها، وانتشال الجثامين، وإسعاف المصابين في الشوارع، وتحت أنقاض المنازل التي هُدّمت على رؤوسهم. المشاهد الطالعة من المخيمات والأحياء المحاصرة، حيث الدمار والنار والدخان في كلّ مكان، تبدو مستوحاةً من الجحيم، حيث يسير الآلاف وسط الدمار، وتحت زخات الرصاص، يحملون جوعهم وأوجاعهم، دون معرفة وجهتهم.
في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، يُساق الناس قسراً، ومن فوقهم أسرابٌ من الـمُسيّرات التي تُوزّع الموت فوق رؤوسهم، فتتناثر أشلاء أطفالهم أمام أعينهم، ويضيع أبناؤهم في لُجّة الخوف والرعب الذي يطاردهم. ليس هذا فحسب، بل يُفصَل الرجال عن عائلاتهم، وتُجرى إعداماتٌ ميدانيةٌ للعديد منهم بعد تعذيبهم، فيما يُساق الأطفال والنساء إلى حُفَرٍ عميقة، يرون فيها موتهم يلوح أمام أعينهم بعد ترهيبهم وتهديدهم بالقتل، قبل أن يُسمح لهم بسلوك طريقٍ واحدة، سرعان ما تتحوّل إلى مصائد للوحوش الطائرة، ومساحة رمايةٍ لفوهات المدافع المتربّصة بكلّ مَن يتحرك في المنطقة. تمشي غزّةُ نازفةَ الجرح، تحمل آلامها، وتُواري تحت الثرى أحبّاءها.
في غزّة.. نازحون يُؤوون نازحين، وجرحى يُسعفون مصابين، وناجون يُغيثون منكوبين.. إنّها القيامةُ تقوم في كلّ بيتٍ وشارعٍ وحارة.

بــكــفّـــي..!

لا توجد كلماتٌ تَفي بوصف حجم الوجيعة والقهر والمعاناة، التي تُكابدها العائلات في قطاع غزّة، لا سيما مَن يسكنون الشمال في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، منذ تسعة عشر يوماً. فقد انفجرت العبارات كانفجار العَبَرات من المآقي الـمُتحجّرة بدمع الفجيعة الـمُقيمة منذ أكثر من عام، فتُدمي قلوب الكبار والصغار، لفرط قسوتها، وتئنّ تحت وطأتها الجبالُ الراسيات. كلّ ما حدّثَنا به آباؤنا وأجدادنا، أو تناهى إلى أسماعنا، أو ما قرأناه في أسفار المؤرخين القدامى والجدد عمّا ارتكبته العصابات الصهيونية من جرائم وحشية، من دير ياسين حتى الطنطورة، على فظاعتها وساديّة مُرتكبيها، لا يساوي نقطةً في بحر الدماء الجارية في كلّ بيتٍ وشارعٍ وحارة، والتي يسفكها اليومَ أحفادُ تلك العصابات، وبوسائل متطوّرةٍ في فنون الإبادة الجماعية، دون أن يبلغوا، بعد، مرحلة الارتواء!
تستمدّ الدولة الباغية قوّتها وديمومة جرائمها من فائض القوّة الممنوحة لها بالرضاعة الطبيعية من حليفتها الكبرى، والشريكة لها في المقتلة، إذ تُسبغ عليها بفائض هيمنتها، لتكون جرائمُها “مُعقّمةً” لا تخضع للحساب أو المساءلة، حتى لو بلغت المحكمة الجنائية الدولية. “مش قادرين نتحمّل، بكفّي.. بكفّي”، قالتها امرأةٌ مكلومةٌ بفَقد بعض أبنائها، واعتقال آخرين انتُزعوا من يدَيها خلال ترحيلهم القسريّ من جباليا الليلة الماضية. أوقفوا حرب الإبادة الآن..!