طباعة هذه الصفحة

وفاءً لعهد شهداء نوفمـبر والتزاماً بحـق الإنسـان في العيش بســلام

التّوجّهات الكبرى للدّبلوماسية الجزائرية

أ - د - إدريس عطية جامعة الجزائر 3

حــق تقريـر المصــير..ثابـت إنسانـي لا يحول ولا يـــزول

 

كلمـــة مضيئـة

«كانت الجزائر وستبقى قلعة الثوار والأحرار، والسّند القوي لكل الشّعوب المناضلة من أجل العدالة والحرية، ومواقفها الأصيلة ترجمتها إلى إعطاء دعم وإسهام مباشر في تحرير القارة الإفريقية. إنّ عطاء ثورة الجزائر وجبهة التحرير الجزائرية كان عظيما وقويا وفاعلا، وستظل كل الشّعوب الإفريقية تذكر باعتزاز للجزائر دورها الرائد في تحريرها من الاستعمار، وتثمّن جهودها في توحيد وتضامن القارة وشعوبها والنهوض بالتنمية والاقتصاد فيها”
نيلسون مانديلا – 1998

 

 

حين انطلقت حرب التحرير الجزائرية، كانت معظم البلدان الإفريقية تحت نير الاستعمار، وكان واضحا أنّ الاستعمار لن يتنازل عن مناطق كثيرة منها بسبب أهميتها الإستراتيجية والاقتصادية، إلا بالعمل المسلح، مثل أنغولا ، جنوب إفريقيا وناميبيا.
 اعتبرت جبهة التحرير الوطني، باستمرار، أنّ عملها التحريري جزء مكمّل، وله تأثير متبادل من أجل تحرير إفريقيا ككل: “إنّ كفاح الجزائر هو كفاح إفريقيا، وانتصارها لإفريقيا جمعاء، وأنّ معركة الجزائر في سبيل تحرير إفريقيا لتفرض على كل الأفارقة واجبات كبرى في تقرير كفاحها ومساندة ثورتها المجيدة”.
لقد وجدت حركات الاستقلال والتحرر الإفريقية في الثورة الجزائرية أنموذجا يحتذى في إخراج الاستعمار التقليدي، وأنموذجا لمواجهة الاستعمار الاستيطاني خاصة في أنغولا، الموزمبيق، زمبابوي (روديسيا سابقا)، أين تواجد المستوطنون بكثافة وبهدف البقاء الدائم، وكانت الثورة الجزائرية دافعا قويا لبقية حركات التحرر لعدم المساومة مع المستعمر، مثلما حدث في غينيا، الكونغو ثم الزائير ( والكونغو الديموقراطية حاليا)، غانا ومالي، كما كان للثورة الجزائرية دور أساسي في إضعاف المخطط الفرنسي لإنشاء اتحاد المستعمرات الإفريقية الفرنسية من أجل المحافظة عليها، والتركيز على حرب التحرير الجزائرية، وكانت غينيا أول دولة إفريقية ترفض هذا المشروع وتحاربه.
إنّ تأثير الثورة الجزائرية أدى إلى تخوف الدول الاستعمارية من امتدادها إلى بقية المستعمرات، وبالتالي سارعت إلى التفاوض مع ستة عشر دولة إفريقية في عام 1960 وحده، ووقّع رئيس وزراء فرنسا آنذاك على استقلال اثنتي عشرة دولة إفريقية، وقبيل انتصار الثورة الجزائرية كانت كل المستعمرات الفرنسية قد استقلت نهائيا.

صدى الثّورة الجزائرية..إشعاع ومرجعية

 قبل المضي قدما في تبيان دور الجزائر في مناصرة قضايا التحرر الوطني، ومدى إسهامها في تحرر الشعوب، كان لزاما علينا أن نتوقف عند مفهوم حركات التحرر حيث يعود استخدام هذا المصطلح لأول مرة في فترة الستينيات من القرن العشرين على مستوى الفقه الدولي، ثم انتقل إلى النصوص والمواثيق الدولية، فتأكيدات اللفظة في البداية كانت من “المقاومة الشعبية” و«حركات المقاومة” وأخيرا “حركات التحرر الوطنية”.
ويبدو أنّنا إذ نظرنا إلى هذا المصطلح على نحو صحيح، فإنّه يمكن تعريفها بأنها: “منظّمة وطنية لها جناحها المدني والعسكري توجد على مستوى المنطقة الخاضعة للسيطرة الأجنبية تخوض كفاحا مسلحا من أجل الحصول على حق تقرير المصير”، وتعتبر الجزائر من أكبر دول العالم مساندة لقضايا وحركات التحرر الوطني، بداية بالقضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية، حيث تشير الدراسة إلى هاتين الحالتين لاحقا.
من هذا المنطلق، نذهب إلى أنّ الحديث عن إعلان ثورة أول نوفمبر لا يمكن حصره في هذه العجالة، لأنه أكبر من أن يختزل في كلمات؛ لأنه تاریخ عرفت معه حرکات التحرر في العالم حركية وانتعاشا جديدين، وتعدّت أبعاده المنطقة الجغرافية للجزائر بأكملها، وبالتالي فتحت الأبواب على مصراعيها من أجل التحرر والإنعتاق. ويمكن القول إنّ هناك تكاملا واضحا بين الثورة الجزائرية التي وظّفت داخليا واستثمرت خارجيا، وحركات التحرر الإفريقية، وهو تكامل في النضال ضد الاستعمار وفي إرساء قواعد الاستقلال والحرية.
وإيمانا من تجربة الجزائر في الكفاح المسلح المرير، بعد سبع سنوات ونصف، تيقّنت كل الشعوب الإفريقية - بما لا يدع مجالا للشك - بمواصلة كفاحها، وتضاعف إيمانها بأن النصر سيكون حليفها في نهاية المطاف، وكانت الجزائر - في كل ذلك - سباقة لمد يد العون والمساعدة إلى كل حركات التحرر الإفريقية وتدعيمها، والوقوف إلى جانبها ماديا وسياسيا، وفي كل المحافل الدولية طبقاً لمبادئ أول نوفمبر 1954 التي تؤكد على بناء عالم يسوده السلام والتعايش السلمي.
ولم تلبث الثورة الجزائرية منذ حقّقت الاستقلال واستكملت التحرر الاقتصادي، حتى أضحت مركز الإشعاع الفكري والتحرري لسائر الشعوب الإفريقية، وإذ نتعرض للحديث عن الإشعاع المنبثق من الجزائر، ولا تعني بذلك اللون من الإشعاع المصلحي الذي تعود عليه العالم مع هذا التعبير، إنما نقصد إلى الاستجابة الطبيعية لمشاعر الأخوة، ولم تكن المؤتمرات التي عقدت في الجزائر هي السمات الوحيدة لهذا التآلف، بل فتحت البلاد صدراً رحبا للزعماء الأحرار الأفارقة، وجعلت من أجهزتها منبراً للصوت الإفريقي المكافح، والوقوف إلى جانب الحركات التحررية الإفريقية وتدعيمها ماديا في المحافل الدولية، كما عملت الدبلوماسية الجزائرية، دون هوادة، في دعم قضايا التحرر الوطني وتصفية الاستعمار، سواء على المستوى الإفريقي أو العربي، وعملت جاهدة على مؤازرة ومساندة الشعوب المستعمرة، وهي على يقين بشرعية مطالبها وعدالة قضاياها.
وبناءً على ما سبق، فالجزائر بقيت من الفاعلين الأساسيين في عالم الجنوب، وتلعب دوراً مهما في الإطار الجماعي في معالجة قضايا الاستعمار، ودعم حركات التحرر ماديا ودبلوماسيا ضد الاستعمار البرتغالي البريطاني الفرنسي الإسباني البلجيكي، ونظام الحكم العنصري (الأبارتايد) في جنوب إفريقيا، الذي اعتبرته الجزائر استعمارا استيطانيا، حتى إن زعيم الحزب الإفريقي لاستقلال غينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر أطلق اسم “مكة الثوار” على الجزائر، فالجزائر حقّا قبلة لكل الثوار.

قضيّة الصّحراء الغربية..آخر مستعمرة إفريقية

 لم يخرج الصّراع حول الصحراء الغربية بالنسبة للجزائر عن المنطق، وهو المتعلق بتمسك الجزائر بمبدأ حق تقرير مصير الشعوب، فقد ظل هذا المبدأ من حرب التحرير ميزة ثابتة للشخصية الجزائرية في علاقتها بالعالم.
إنّ أي بناء حضاري يستمد قوته من قيم الحرية والعدالة، مثل مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، والاستقلال الذي خاضت الشعوب الإفريقية ملاحم مظفّرة من أجل نيله، هو الذي يتعرض للخطر من خلال النزاع في الصحراء الغربية، الذي يتواصل على حساب استقرار المنطقة والطموحات الوحدوية لبلدانها. ووفاء الجزائر للقيم التي أسّست عليها ثورتها المباركة، يفرض عليها أن تبذل قصارى جهدها من أجل إيجاد حل سلمي لهذا النزاع، وتستمر في المراهنة على روح المسؤولية لدى الذين يملكون اتخاذ القرار الكفيل بأن يفتح عهد السلام العادل.
في ضوء ذلك، تعتبر الجزائر أنّ الشعب الصحراوي من خلال ممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه، واستعادة سيادته الوطنية، سيفسح المجال لتكثيف المساعي الرامية إلى وضع اللمسات الأولى لبناء صرح المغرب العربي. كما تعيد إلى الأذهان بأن حق تقرير المصير يستوجب إجراء مفاوضات مباشرة بين طرفي النزاع المملكة المغربية وجبهة البوليساريو من أجل توفير الشروط الموضوعية لتنظيم استفتاء حر ونزيه.
وفي إطار الدعم الدبلوماسي الجزائري للقضية الصحراوية، ألقى مندوب الجزائر الدائم في الأمم المتحدة كلمة أمام لجنة تصفية الاستعمار في التاسع عشر من نوفمبر 1975 تضمن عشرة نقاط أساسية بينها:
رفض سياسة الأمر الواقع المتبعة من قبل المغرب في احتلال الصحراء الغربية.
التذكير بأنّ النشاط الدبلوماسي للجزائر كان دائما يتم في إطار منظمة الأمم المتحدة، وترفض أي حل يقرر خارج هذه المنظمة.
هذه النقاط لا تزال الجزائر تعمل من أجلها إلى اليوم، ناهيك عن مذكرة الجزائر إلى الأمين العام للأمم المتحدة في الثاني عشر من فيفري 1976، والتي تتضمّن ما يلي:
- التذكير باللقاءات الدبلوماسية ما بين كل من الجزائر والمغرب وموريتانيا بشأن الجهود في سبيل تحرير الإقليم الصّحراوي المحتل.
- حق تقرير المصير مبدأ أساسي، وعدم الاعتراف به يمس بتراث الإنسانية ومبادئ المجتمع الدولي.
وبناءً على ما سبق، يمكن تلخيص موقف الجزائر تجاه القضية الصحراوية في كونها لا تخفي موقفها المؤيد لمطالب الشعب الصحراوي المشروعة في الحرية والاستقلال، حيث تدافع عن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها استنادا إلى العديد من القرارات الدولية، فمشكلة الصحراء الغربية هي قضية تصفية الاستعمار، ويجب أن تجد حلها في إطار دولي (قرارات منظمتي الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي).
وبما أنّ المبادئ الأساسية لسياسة الجزائر الخارجية دعّمت حركات التحرر الوطنية في العالم، فإنّ دعمها لحركة التحرير الوطنية الصحراوية، يتمثل في المساعدات المادية والمعنوية وبصورة علنية، ولذلك فتحت حدودها لآلاف اللاجئين الصحراويين، كما أعلنت عن اعترافها بالجمهورية الصحراوية رسميا منذ السادس من مارس 1976. ولا تزال الجزائر إلى اليوم تساند القضية العادلة.
استطاعت الجزائر أن تحقّق حصيلة معتبرة لصالح كافة البلدان النامية في مجال النشاط الخارجي، السياسي منه والاقتصادي والثقافي، في أقل من عقدين على عودتها إلى الساحة الدولية معتمدة على طيب سمعة ثورتها المظفّرة وجدية برامجها ومصداقية جهازها الدبلوماسي وتحرّكه الدؤوب، كما أبرزت الجزائر اهتمامها الدائم بالمشاريع الوحدوية والإيمان بها مغاربيا وإفريقيا وعربيا، بالإضافة إلى العمل على تدعيم السلم والأمن، وما يرتبط بهما من مبادئ كمساندة حركات التحرر عبر العالم وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومبدأ عدم التدخل.
عرف التحرك الدبلوماسي الجزائري في إفريقيا مشاركة فعّالة وحيوية في حل النزاعات، بدءا بمنطقة الساحل الإفريقي، باعتبارها تشكّل مجالا حيويا يؤثر على أمن المنطقة، وقد ساهمت الجزائر مساهمة جادة في حل نزاعات ببلدان شقيقة وصديقة، لم تنتصر إلا لحق الإنسان في العيش الآمن على أرضه، كما أنّ للسياسة الجزائرية الإفريقية وقع كبير على المستوى القاري، حيث ناضلت الجزائر دائما من أجل مساندة حركات التحرر في إفريقيا ومناهضة نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، بالإضافة إلى التدخل لحل النزاعات الإفريقية من حوض السنغال إلى بحيرة تشاد، ومن موزمبيق إلى الرأس الأخضر ومساندة أنغولا وناميبيا، وغيرها من المحطّات التي سعت من خلالها الجزائر إلى تحقيق ثقل مميز سواء منفردة، أو في إطار المنظمات القارية، الجهوية والدولية.