« من فرط رؤية كل شيء ينتهي بنا المطاف إلى احتمال كل شيء...
من فرط احتمال كل شيء ينتهي بنا المطاف إلى التسامح في كل شيء ...
من فرط التسامح في كل شيء ينتهي بنا المطاف إلى القبول بكل شيء...
من فرط القبول بكل شيء ينتهي بنا المطاف إلى المصادقة على كل شيء...»
القديس أوغسطين
دومينيك دوفيلبان
دومينيك دوفيلبان الوزير الأول ووزير الخارجية الفرنسي السابق رفع صوته في وجه المجزرة المرتكبة في غزة. كتب في أحد المنابر :»اليوم سأكتب بضمير وهذا من واجب فرنسا، فرنسا الملتزمة تماما بوجود إسرائيل وأمنها ولكن التي لا تنسى الحقوق والواجبات الواقعة على عاتق إسرائيل بصفتها دولة.(...) حان الوقت للكلام والتصرف. الوقت قد حان لقياس الطريق المسدود لفرنسا منحازة ومقتنعة باللجوء إلى القوة. الوقت قد حان لإسقاط قناع الأكاذيب، التنكر والحقائق المبتورة. الوقت قد حان لتقديم أمل في حصول تغيير. صوت فرنسا انتحر بسبب انعدام الضمير وإدراك خاطئ للمصلحة والخضوع لصوت الأقوى هذا الصوت الذي انطق شارل ديغول عشية حرب الستة أيام والذي انطق جاك شيراك بعد الانتفاضة الثانية. كيف نفهم اليوم طلب فرنسا بـ»ضبط النفس» عندما نتعمد قتل الأطفال ؟ (...) السلام لا يبنى على الأكاذيب.(...) فلتكن لدينا الشجاعة في قول حقيقة أولية: ليس هناك في القانون الدولي حق في الأمن يعطي بالمقابل الحق في الاحتلال أو بدرجة اقل الحق في ارتكاب المجازر . هناك الحق في السلام وهو نفسه بالنسبة لكل الشعوب. (...) هناك حقيقة ثانية لا بد من ذكرها بصوت عال: ليس هناك مسؤولية تقع على عاتق شعب بأكمله بسبب تصرفات البعض. كيف يمكن نسيان الاختلال العميق في الوضع الذي لا تتواجه فيه دولتان ولكن شعب دون أرض ولا أمل مقابل دولة يحركها الخوف ؟ (...) فقدنا الأمل في دبلوماسية الكراس والصكوك التي تنتهجها أوربا التي تكتفي بالدفع مقابل أعمدة البنايات الفلسطينية التي قصفت بالأمس والتي ستتعرض الى ذلك غدا عندما تنفق الولايات المتحدة ملياري دولار لتمويل تلك القنابل التي تهدم تلك البنايات.(...) العاجل اليوم هو منع وقوع جرائم حرب. و لهذا فان الوقت قد حان للاستجابة للمطالب الفلسطينية في الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية التي تمثل اليوم أفضل ضمان لتطبيق القانون الدولي.
إن التفاوض حول الوصول إلى حل يأتي من خلال وضع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية في عهدة الأمم المتحدة مع إدارة وقوة لحفظ سلام .(...) ليس لدينا الحق في القبول بهذه الحرب المتواصلة. التسامح مع القليل من الظلم سيؤدي إلى إعادة النظر في العدالة نفسها بشكل جذري (...) . (1)
هذا الموقف الواضح والذي لا يقبل التأجيل غير مثير للاستغراب. الكل يتذكر أن السيد دوفيلبان ذاع صيته خلال خطاب تاريخي بالأمم المتحدة يوم 14 فيفري 2003 يتعلق بالمغامرة الأمريكية في العراق.
مقطع مختار من الخطاب: « (...) خيار الحرب يبدو الخيار الأسرع. ولكن لا يجب ان ننسى أنه بعد الظفر بالحرب لا بد من بناء السلام، لا يجب ان نحجب الحقيقة: هذا سيكون طويلا وشاقا لأنه لا بد من الحفاظ على وحدة العراق وإعادة الاستقرار بصفة دائمة في بلد ومنطقة تأثرت باللجوء الى القوة. (...) لان الحرب كانت تأتي دائما تتويجا للفشل. (...) في معبد الأمم المتحدة هذا نحن حراس المثل، نحن حراس الضمير. إن المسؤولية الثقيلة الواقعة على عاتقنا والشرف العظيم الذي نحظى به يجب أن يقودنا وبدرجة أولى إلى وضع السلاح في سبيل السلام. وأنه بلد عجوز، فرنسا وقارتي العجوز أوربا هي التي تخاطبكم اليوم، قارة عرفت الحرب، الاحتلال، البربرية.(...) وفيّة لقيمها تريد العمل بالتزام مع كل أعضاء المجتمع الدولي. تؤمن بقدرتنا على العمل معا من أجل بناء عالم أفضل». (2)
شكل هذا الخطاب ردا على تصريحات الكاتب الأمريكي للدفاع دونالد رامسفيلد الذي اعتبر فيه أن فرنسا وألمانيا جزء من ( أوربا العجوز) خطاب دوفيلبان كان متميزا حيث أريد له أن يكون «استمرارا» للسياسة المتزنة لفرنسا ونال إعجاب كل الشعوب المؤمنة بالسلام خاصة الشعوب العربية التي وجدت فيه لمسة ديغولية.
الخطاب التاريخي للجنرال ديغول
السياسة العربية لفرنسا خلقت توازنا رائعا جاء من مؤسسها ديغول ودون تبني الأطروحات العربية أثبتت هذه السياسة «الإرادة في تأكيد الحضور الفرنسي في اللعبة الدولية» و»إرادتها في التهدئة». الجنرال ديغول أدان العدوان المتبوع بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عن طريق الحرب. في ندوة صحفية عقدها يوم 27 نوفمبر 1967 والتي تضمنت ثلاث محطات قوية: أبدى فيها ديغول قلقه من إقامة دولة يهودية في قلب فلسطين: «إقامتها كانت بين الحربين العالميتين لأنه لا بد من الرجوع إلى ذلك الوقت، إقامة كيان صهيوني لليهود ثم إقامة دولة إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية أثار في ذلك الوقت بعض المخاوف.(...) البعض اعتبر أن اليهود مشتتين إلى غاية تلك اللحظة وهم كانوا كذلك دائما، شعب نخبوي مسيطر لديه ثقة في النفس إذا تم تجميعهم في موقع مجدهم الغابر،حصل تغير في طموحه المتقد والمتطلع إلى الآمال الأخاذة التي يحلم بها لأكثر من 19 قرنا: العام القادم في القدس.(...) الجنرال ديغول لم يشر الى حل للنزاع: «(...) الأكيد ورغم الأقلية العددية لشعبكم فإنكم أكثر تنظيما أكثر التفافا أكثر تسليحا من العرب. لاشك أن ذلك منحكم انتصارات عسكرية.(...) نعلم أن صوت فرنسا لم يصغ إليه. إسرائيل هاجمت واستولت خلال ستة أيام من المعركة على أهداف كانت تسعى إلى الوصول إليها. الجنرال ديغول ببعد نظره قدم ميكانيزم دورة الاحتلال، المقاومة، القمع: « الآن هي (إسرائيل) تنظم الأقاليم التي احتلتها ولا يتم ذلك دون اضطهاد، قمع وإبعاد وستقوم ضدها مقاومة تصفها بالإرهاب»...
ديغول قدم قناعته بحل النزاع في إطار الانسحاب من الأراضي المحتلة: «(...) لا يمكن الوصول إلى حل إلا عن طريق المساعي الدولية. حل لا يمكن تصوره إلا في هذا الإطار، اللهم إلا إذا مزقت الأمم المتحدة ميثاقها، هذا الحل يجب أن يقوم أساسا على الانسحاب من الأراضي المحتلة التي تم الاستيلاء عليها بالقوة. نهاية كل خلاف هي الاعتراف المتبادل للدول المعنية من قبل جميع الدول الأخرى. (...) حسب فرنسا في إطار هذا الطرح، القدس يجب أن يكون لها وضعا دوليا (3)
ازدواجية خطاب أوباما
لا يمت بصلة إلى خطاب أوباما المعسول والذي حمل الكثير من الآمال الذي ألقاه بجامعة القاهرة .»انطلاقة جديدة» الموجه إلى تحسين العلاقات الأمريكية مع المسلمين : « إذن ليس هناك أدنى شك: الإسلام جزء من أمريكا. واعتقد أن أمريكا أدركت الحقيقة التي تقول دون اعتبار عرقي ولا ديني ولا للموقع الاجتماعي، كلنا نتقاسم نفس التطلعات: العيش في سلام وأمن، الاستفادة من التعليم والعمل بشرف، حب عائلتنا ومجتمعنا وإلهنا. هي أشياء نتقاسمها جميعنا. إنه أمل الإنسانية قاطبة. وتطرق بعد ذلك إلى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي مصرحا: شعبان يتقاسمان تطلعات مشروعة، لكل منهما تاريخه المؤلم الذي قد ينسف كل تسوية. (...) الفلسطينيون عليهم التخلي عن العنف .(...) وفي الوقت ذاته على الإسرائيليين الاعتراف كما أنه لا يمكن إنكار حق إسرائيل في الوجود فانه لا يمكن إنكار حق الفلسطينيين في ذلك بالمقابل. الولايات المتحدة لا تقبل بمشروعية الاستمرار في الاحتلال «.(4) والبقية نعرفها.
الخطاب الشجاع لعرفات
خطابات عرفات من منبر الأمم المتحدة حملت تطلعات الشعب الفلسطيني نطلع: « (...) خلال لقائنا الأول اختتمت مداخلتي بصفتي رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية وقائدا للثورة الفلسطينية بأننا لا نريد إراقة قطرة واحدة من دم يهودي أو عربي ولا نريد للقتال أن يتواصل ولو لدقيقة واحدة أخرى. (...) أتوجه إليكم لتقفوا إلى جانب شعبنا المناضل من اجل حقه في تقرير المصير ولكي تمنحوه الإمكانيات للعودة من منفاه القسري المفروض بقوة الحراب، لتضعوا حدا للطغيان المفروض على أجيال متعاقبة من شعبنا لعشريات لكي يتمكن من العيش أخيرا في وطنه ليعود إلى دياره، شعب حر وسيد يتمتع بكل حقوقه الوطنية والإنسانية. (...) الحلم الذي يراودنا هو إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش في كنفها مسلمون، مسيحيون ويهود على قدم المساواة لديهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات في مجتمع واحد موحد على غرار الشعوب الأخرى على هذه الأرض في عالمنا المعاصر. (...)
أكثر من ذلك يواصل عرفات «ندرك أن هناك في إسرائيل وفي خارجها يهود شرفاء وشجعان لا يقبلون سياسة القمع والمجازر ويرفضون السياسة التوسعية والاستعمارية والإقصائية للحكومة الإسرائيلية ويعترفون لشعبنا بحق المساواة في العيش، في الحرية وفي الاستقلال.(...) شعبنا لا يطالب بأكثر من حقه ولا يطالب بحق لا يعترف به القانون والتشريعات الدولية .(...) أتوجه هنا على وجه الخصوص إلى الإسرائيليين بكل أصنافهم وتياراتهم وإلى كل الأوساط وقبل كل اولئك إلى قوى الديمقراطية والسلام لأقول لهم: تعالوا ! نحقق السلام بعيدا عن الخوف والتهديد، (...) سلام شجعان بعيدا عن عنجهية قوة الأسلحة المدمرة بعيدا عن الاحتلال، الطغيان والاهانة بعيدا عن التقتيل والتعذيب». (5).
هذه الخطابات القائمة على العدالة والعدالة فقط، كل العدالة، التي يجب أن تشكل لكبار هذا العالم معالم أخلاقية يجب التأكيد عليها دون لف ولا دوران لكي يؤمن الرجال في أخر المطاف بحقيقة هذه العدالة ففي الأخير الحسابات الضيقة لا تشرف أصحابها.
القديس أوغسطين كان على صواب عندما أنذرنا بالحدود التي ينتهي عندها التسامح.
المـــراجــــع:
1.http://www.lefigaro.fr/vox/monde/2014/07/31/31002-20140731ARTFIG00381-dominique-de-villepin-lever-la-voix-face-au-massacre-perpetre-a-gaza.php
2. Discours de de Villepin au Conseil de Sécurité le 14 février 2003
3.Charles de Gaulle, Discours et messages, tome 5, vers le terme, janvier 1966-avril 1969, Paris, Plon, 1970 pages 232-235,
4.Barack Obama Discours du Caire le 4 juin 2009
5.http://www.monde-diplomatique.fr/cahier/proche-orient/arafat88-fr
بورتــري
^ البروفيسور شمس الدين شيتور أستاذ بامتياز، مهندس المدرسة المتعددة التقنيات بالجزائر العاصمة والمعهد الجزائري للبترول، يحمل شهادة دكتوراه دولة بجامعة الجزائر، دكتوراه في العلوم الاقتصادية بجامعة جون موني بفرنسا.
^ شغل منصب أستاذ محاضر بجامعة تولوز، وأشرف على مناقشة عشرات الرسائل الجامعية.
^ نشر مقالات تحليلية كثيرة، وأصدر مؤلفات في مجالات الطاقة، البترول، الجيواستراتيجيا والتغيرات المناخية.
^ كما ألّف كتبا عديدة حول تاريخ الجزائر، الاسلام والعولمة آخره «فلسطين قضية كل المثقّفين».