طباعة هذه الصفحة

فلسطـين قابِلـةُ العالـم الجديـد

بقلم: على شكشك

تلخّص العالم بانتظام الأشياء حولها، وانتظام التاريخ، وقد كانت هكذا ومازالت، وهي التي أضاءت مساحات الروح وأضاءت دروب النجاة، وتوسّطت رمزية الغيب وانفتحت على السماء، فمنها رُفِع المسيح بن مريم، ووضعت حملها البتول، وعرّج الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما كانت أرض المعجزات والمائدة التي هبطت من السماء، وفيها شفي الأكمه والأبرصُ وقام الأموات، فلربّما منها وحولها وبها سيولد العالم الجديد..
 هي ترمومتر تجربة الأشياء واختبار النوايا وسبر الأغوار، كاشفة ما استتر من شأن الأفراد والقوى العظمى، على وداعتها وبساطتها وبراءتها، التي قد تكون سرَّ قوّتها، ربّما تكون البراءة الكاملة هي القوّة الكبرى الكامنة، ألم يقل المسيح “طوبى للودعاء فإنّهم يرثون العالم”، هكذا حملت فلسطين وداعتها وامتشقت صليبها وجالت في مدارات ضمير الأمم، المتحدة منها والمنفردة، وعرّجت على اليونسكو، حيث رايات الثقافة والوجدان، فانفطر العالم فيها حين تقلّدت جرحها وهمست به في شغاف البشرية، وارتجّ الكون في القلوب بعضها فرحاً والبعض الآخر قلقاً، إذ لم يحتمل المجرمون رؤية ضحاياهم وآثار جرائمهم ولم يحتملوا تفتّقَ براعم الإحساس في جذوع البشر فجهّزوا دروعهم وأطلقوا صراخهم ووعيدهم، تلك القوى التي حجبت ضمائرها ونواياها بصفائح الرصاص ودجّجت بصائرها بالظلام كيف يمكن أن يصلها لون الجرح وبلاغة الوداعة التي شطرت أوربا إلى شطرين “نعم ولا”، وأخرست خمسين دولةً عن الكلام، المباح وغير المباح، فلا “نعم” ولا “لا”، بينما كانت قوّة إمبراطورية الأرض تضرب رأسها في الهواء وهي تستشيط غيظاً وتحجب عن اليونسكو دعمها بالمال كما حجبت من قبل ضميرها.
 وكما تهدّد بدفن جرحنا بالفيتو تماما كما تحجب النعامة رأسها بالرمال، وكما أنّه ليس بالرجال يعرفُ الحقُّ، ولكن بالحقِّ يُعرَفُ الرجال، فإنّ الترسانات العسكرية وهيمنة القوّة لا تستطيعُ حجب الحقِّ ولو تسربل بالوداعة الكاملة التي - على العكس من ذلك - قد تكون مفتاحَه إلى ضمير البشر والصفحاتِ المطوية في تلافيف الإحساس، وتماماً كما كان المسيح هو الذي حمل حوارييه وتعاليمَه إلى آخر البرّ ومصبّات الأنهار، فقد تكون الحالة الفلسطينية هي العالم الجديد وبُراق المشهد الآتي الذي سيغير وجه العالم ويهزم إمبراطوريات الظلم والحديد، والمشهد الكوني متعطّشٌ لهذا القادم الجديد، فهو بما لديه من رصيدٍ إنسانيٍّ فطريٍّ وبما يعانيه من عذابات القوى التي تصلبه كلَّ حينٍ وتحجب عنه المال والسماء، هو جاهزٌ لاستقبال الوليد الجديد..
بمجرد الإشارة استقبل البشارة واعترف بفلسطين وزاد بالتهليل متحدّياً إرادات البطش وتهديدات الوعيد والتمويل، وما كان انتصار فلسطين في اليونسكو إلا انتصار هذه الإنسانية التي تكاد تولد من جديد، معجزة أخرى .. فلسطين ليست فقط مولوداً ولكنّها أيضاً قابلة هذا العالم الجديد.