طباعة هذه الصفحة

جعل حياته وقفا لتأسيس مدرسة التّاريخ الوطنية

المجاهـد محمـد العربـي الزبـيري..فارس يترجّل

توفيق العارف

 النّخبة..ركيزة تعرف بتأثيرها على المجتمع، وإن كانت تشكّل أقلية من أبناء الشعب، كونها تتوفر على شروط موضوعية كالقدرة، وأخرى ذاتية كالموهبة، بالشكل الذي يجعلها متميزة عن باقي أفراد المجتمع. ومن ممثلي النخبة ببلادنا، المرحوم محمد العربي الزبيري الذي جعل حياته وقفا للوطن، وقدّم عصارة فكره لتكون في خدمة أمانة شهداء نوفمبر المجيد.

 ولقد ظلّ المرحوم محمد العربي الزبيري وفيّا لمنهج الثورة التحريرية المباركة، لم يبدّل تبديلا، وكافح – منذ استجاب لنداء إضراب الطلبة عام 1956 – لأجل الجزائر، وهو يعمل على حفظ الذاكرة الوطنية، تأريخا وتدريسا وتأليفا، بل ومنظرا عبقريا لاستخلاص الحقائق التاريخية، فقد تمكّن من بلورة رؤية شاملة عن واقع المدرسة التاريخية الجزائرية، وعرف كيف يضيف للتاريخ ما يدعمه في المشهد الوطني، كما كان بين أولئك النجوم الذين أسّسوا لجريدة «الشعب»، ورفعوا تحدّي إصدار عميدة الصحف الوطنية باللغة العربية، وكان – رحمه الله – حاضرا في احتفالية تأسيس «الشعب»، ديسمبر الماضي، وأسهم في كتابة العدد الخاص بالمناسبة، ووقّع مقالا بعنوان: «نتف من تجربة ما زالت تلاحقني».
ويشهد جميع من عرفوا محمد العربي الزبيري عن علاقته الوطيدة بالتاريخ، فهو المجاهد الذي لبى نداء الوطن، وهو الباحث والمنظر والأستاذ الذي أسّس لقسم التاريخ بالجامعة الجزائرية، فقد آمن المرحوم إيمانا خالصا بأنّ المستقبل يتأسّس بالمعرفة التاريخية، فالذي يهمل تاريخه – كما يقول الزبيري دائما – لا يمكن أن يبني وطنه، فالبناء يعتمد على التاريخ بكل حقائقه.
وجعل الزبيري حياته وقفا للحفاظ على الموروث الجزائري، وتحصين معالم الهوية الجزائرية، وظل يدعو إلى تأسيس مدرسة وطنية للتاريخ، تكون حصنا منيعا ضد بعض المرجفين ممن تسوؤهم انتصارات الجزائر. الاستقلال الوطني في رؤية الزبيري، ينبغي أن يدعمه الاستقلال عن تأثيرات المدرسة التاريخية الاستعمارية الفرنسية التي اصطنعت القوالب والصيغ، بل اصطنعت الشبهات ضد شعب كافح لأجل حريته، وبذل النفس والنفيس من أجل الجزائر.
لم يرض الزبيري بالمرجعيات الكولونيالية، وإنما ناضل كي يستعيد للدرس التاريخي مرجعيته الوطنية، فظلّ يدعو إلى العودة إلى أصولنا التاريخية، لأن ضياع الأصول ليس سوى ضياع للتاريخ.
ولم يغفل الزبيري عن إشكاليات كتابة التاريخ؛ لهذا حرص على الأمانة العلمية والتوثيق، وضبط الشروط والمؤهلات التي يجب أن تتوفر في المؤرخ، بداية من شخصيته، إلى قيمته الروحية، وتكوينه التقني ومهاراته، وثقافته الواسعة، فالمؤرخ الكبير – كما تصوره الزبيري – ليس من يحسن طرح الإشكاليات وحسب، وإنما هو من يُضيف إلى الفرضيات مخططات علمية للبحث، تسمح بانتقاء المصادر الأكثر موثوقية، ويشترط الزبيري أن يكون المؤرخ ملمًّا بالعلوم المساعدة كـ «علم الاقتصاد»، و»علم الاقتصاد السياسي» الذي يتناول الحقائق الاقتصادية من توزيع الثروات ومستوى المعيشة ونوعية وسائل الإنتاج وأسلوب العمل وكيفية الاستهلاك وغيرها، و»العلوم السياسية» التي تهتم بمعالجة العوامل المختلفة التي تشكل الظاهرة السياسية.
ولقد حرص محمد العربي الزبيري على تدقيق المصطلحات، درءا لأي شبهة، ومن ذلك أنه كان لا يقبل بجملة (الاحتفال بالاستقلال) وإنما يصحّحها بـ (الاحتفال باسترجاع الاستقلال)، ويعلّل ذلك بقوله: «كنا مستقلين قبل الاحتلال»، ومنها كذلك موقفه الصارم من ترجمة بيان أول نوفمبر، فقد كان يرى أن مصطلحات غير دقيقة تسلّلت إليه مثل (إقامة الدولة) الذي ينبغي أن يكون (بعث الدولة)؛ لأن المصطلح الأول ليس صحيحا، بحكم أن الدولة الجزائرية كانت قائمة قبل الاحتلال الفرنسي.
إنّ مسار الدكتور المجاهد محمد العربي الزبيري سيبقى منارة هدى لكل الدارسين، ومنهجا صارما ينبغي أن يحظى بالعناية، كي يتواصل عبق الثورة المباركة، وتعرف أجيال المستقبل ما كابد الأجداد من أجل استخلاص الحرية واستعادة الأرض من براثن مستعمر غاشم، لم يعرف له التاريخ مثيلا.
رحم الله المجاهد الدكتور محمد العربي الزبيري، وجزاه خيرا عن الجزائريّين جميعا..