طباعة هذه الصفحة

ناجــي العـلي.. الفنّان المقـاوم..

بقلم: عامر الخطيب

ما فائدة الفنّ؟!.. هل تستطيع لوحة فتح الطرقات وإقامة الجسور؟ هل تطعمنا القصائد والروايات والقصص الخبز؟ هل تمنح الأغنية والمعزوفة الموسيقية الشبع للفقراء؟! بناءً على أجوبة هذه الأسئلة يمكن القول إنّ الفنّ رفاهية لا نفع منها، ما أجبر الفنّانين على الدفاع بغضب، فقالوا: الفنّ غاية في ذاته – والفنّ هو من أجل الفنّ.

ولكن ما لم يدركه الفرد في خضم أعبائه الحياتية، أنه يرنو إلى ما هو أبعد من الفائدة المادية أو المعيشية، فإذا كان يفتش عن حياة كريمة لن يحتاج فقط إلى الطعام والشبع وتعبيد الطرقات وتزفيتها، بل يحتاج أيضاً إلى ما يعزي أحزانه ويمنحه التوزان ويثري تجربته الباطنية ممّا يعطيه أملاً جديداً ومقدّمة جديدة لآفاقٍ أوسع وكلّها أمور لم يكن ليدرك كنهها إلا بالفنّ، لأنّه جزء من سلوكياتنا لا ينفصل عنا، ولأنّ الأعمال الفنية هي وسائل نسجها الإنسان لتفسر لنا وضعنا الإنساني وتساعدنا على فهم العالم بطرق أصدق وأكثر ذكاءً.

هذا يقودنا إلى سؤال آخر.. هل إدراك الفنّ بوصفه تجلياً للجمال يسير كما نظن؟!
قال تولستوي: “يجب علينا أن نكف عن النظر إلى الفنّ بصفته وسيلة للمتعة وأن ننظر إليه باعتباره شرطاً من شروط الحياة الإنسانية، وهذا سيجعلنا ندرك أنّ الفنّ هو من وسائل الاتصال بين الناس”.
 والفنّ أيضاً هو “المكابح التي تخفّف من سقوطنا في حفر التوحش” على حدّ قول الفنان السوري مجد كردية، وقال تولستوي أيضا: “إنّ ماهية الفنّ (عدوى المشاعر) حيث ينقل الإنسان مشاعره من سرور ومعاناة وتأمل وغضب بالكلمات والألوان والألحان سابحة لتلتقي بالمتلقي في كلّ زمان ومكان ولولا قدرتنا على التعبير عن مشاعرنا لأصبحنا همجاً ووحوشاً”.
أما فان كوخ فيقول: “ إنّ الفنّ يواسي من كسرته الحياة”..
يجب أن نعلم أنّ “الموناليزا”، وهي لوحة زيتية رسمت على لوح خشبي لدافنشي، أنجزها بين عامي 1503 و1519م. عندما كان يعيش في فلورنسا الإيطالية، وتعد الأشهر والأغلى في العالم وهي ملك الحكومة الفرنسية في متحف اللوفر، تجذب سنوياً أكثر من تسعة ملايين زائر لمشاهدتها، وهذا يطرح السؤال التالي:ما هو الفنّ؟
في الحقيقة.. من الصعب القبض على تعريف للفنّ، ولكن يمكن القول إنّ الفنّ: “ هو وسيلة للتصريح عن رأي أو إحساس”، أما المقاومة: فهي لغة تعني الممانعة وعدم الرضوخ لقوى مفروضة من الخارج، ومصطلح القوة الناعمة أو الحرب الناعمة لا يشمل مفهوم المقاومة العسكري؛ لأنّ الحرب أو القوة الناعمة، هي حالة تخريبية تعرض قيم الشعوب والمجتمعات للخطر وتركز مع الاستمالة والإغواء والجذب لتخلط الحق بالباطل، والمقاومة الناعمة تعني استخدام جميع الوسائل المتاحة لمواجهة الحرب الناعمة بدون القوة العسكرية، والخط الدفاعي الأول بالمقاومة الناعمة يكون بإشاعة الوعي لتبيان الحق وتعزيز التحصين والمناعة وتمييز العدو وفضح خططه ووسائله.
يتضح لنا أنّ مصطلح “الفنّ المقاوم” يقوم على الأصالة ونبل الأهداف والمواقف السامية.. والفنّ بهذا المعنى يستحق الاهتمام؛ لأنّ عمره أقدم من الفلسفة والعلم بآلاف السنين.
الفنّ المقاوم بالمفهوم الذي يعنينا هو: وسيلة التواصل حينما تفشل اللغة في توصيل ووصف محتواها؛ لأنّه يقدر على البوح بالمسكوت عنه، ويكمن الفنّ في خلق المعنى بأداة ذكية، كما أنّ الفنّ المقاوم يقود ويعكس ويعرّي التغيير في السياسات والأخلاق والمجتمعات، وهو حجر الأساس في عملية خلق ثقافة المقاومة.
في وسع الفنّ الدافق بالأفكار إيصال رسائله متجاوزاً الزمن واللغة؛ لأنّه مفهوم تخيّلي يغوي ذائقتنا الجمالية، فهو يقع بين نية الفنان وتعبيره وخبرة الجمهور وثقافته.
ومن أهم وسائل التعبير عن نوايا ومقاصد الفنان هو فنّ الكاريكاتير أو رسم الكاريكاتير وهي كلمة إيطالية معناها الرسم الساخر..
نشأ هذا الفنّ الحديث في نهاية القرن السادس عشر على أيدي الأخوة كراتشي في مدينة بولونيا، حيث كانوا يصوّرون أصدقاءهم صوراً تدعو إلى الضحك وعُرّف فنّ الكاريكاتير الحديث في فرنسا عام 1665م رسماً كوميدياً يتجه للسخرية في سياق مغاير للطبيعه على يد الرسام “ جيان لورينزو برنيني “.
وفنّ الكاريكاتير فنّ قديم كان معروفاً عند المصريين القدماء والآشوريين واليونانيين، حيث حفظ التاريخ صوراً على قطع من الفخار والأحجار عند المصريين القدماء تشمل رسومات مختلفة لحيوانات أبرزت بشكل ساخر.
ويبدو أنّ أول من استخدم الكاريكاتير السياسي بالمعنى الصحيح هو الانكليزي “جورج توزند” ولعلّ أول ملك كان هدفاً لرساميّ الكاريكاتير هو ملك فرنسا “لويس الرابع عشر” و«جورج الأول” مؤسّس الأسرة المالكة في بريطانيا وجورج الثاني أيضاً.
وأعظم المصوّرين الهزليين في الولايات المتحدة هو “توماس ناست”.
وبالإجمال يعتبر أبرز فنّاني الكاريكاتير الذين أثروا هذا الفنّ على مرّ العصور: الأرجنتيني كارلوس لاتوما، الأمريكي جورج كروسيز، البريطاني ديفيد لويس، الأمريكي رالف ستيدمان، الفلسطيني ناجي العلي، الفرنسي ميشيل كونان، السويدي أمرو كارلسون، النرويجي بيتر بروجيل، الإنكليزي جيرالد سكارف، ومؤخراً البرتغالي فاسكو جار جالو الذي رسم “حول أحداث غزّة الأخيرة”.. رسم رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو وهو يرتدي القلنسوة والقبعة اليهودية وعليها نجمة داوود وهو يدفع نعشاً مغطى بالعلم الفلسطيني إلى محرقة الجثث مع وضع عبارة (العمل يحرّرك).. العبارة نفسها التي كتبت عند مدخل معسكر الإبادة النازي في “أوشفيتز”، وقد نالت اللوحة شهرة عالمية وهدّد صاحبها بالقتل، وبعض الروايات تقول لقد تم قتله..
أما رسّامو الكاريكاتير العرب فقد برز منهم “سعد حاجو” السوري وعماد حجاج الأردني ومصطفى حسين المصري، ورشاد السامعي اليمني.
وأبرز شخصيات الكاريكاتير العربية: “أبو محجوب” للرسام الأردني عماد حجاج، و«حنظلة” للرسام الفلسطيني ناجي العلي.

فمن يكون حنظلة؟ ومن هو صاحب هذه الشخصية؟

ناجـي الـعلي.. رسـام الـكاريــكاتـير الفلسطينــي

ولد عام 1937 في بلدة الشجرة من منطقة الجليل ثم لجأ إلى لبنان عام 1948 درس في صيدا ثم درس ميكانيك سيارات عام 1957، عمل في السعودية ثم عاد إلى لبنان ودرس الفنون الجميلة، وقد تعرض إلى الاعتقال السياسي عدّة مرات بسبب رسوماته، وعمل في الكويت كرسام كاريكاتير وعمل في صحيفة السفير اللبنانية إلى أن اقتيد أسيراً عام 1982 ثم غادر إلى لندن واغتيل فيها عام 1987 من قبل شخص مجهول . له أربعة أبناء هم خالد، ليالي، جودي، أسامة، من زوجته الفلسطينية وداد صالح نصر.

والطفل الفلسطيني حنظلة؟ من يكون حنظلة؟
حنظلة: هو رمز لمرارة شخصية كاريكاتيرية رسمها ناجي العلي من عمق يأسه، وهو طفل رث الثياب حافي القدمين يدير ظهره دائماً للعالم (بعد سنة 1973) وكأنّه يدعو المشاهد ليرى ما يراه.
ولد في العاشرة من عمره وسيظلّ في العاشرة حتى يعود إلى فلسطين، وقد قال عنه ناجي العلي “إنّ حنظلة هو بمثابة الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف، وهو الرمز الفلسطيني المعذب والقوي رغم كلّ الصعاب التي تواجهه فهو شاهد صادق على الأحداث ولا يخشى أحد”.
ولد حنظلة في 5 جوان عام 1967 وقدّمه ناجي العلي عام 1969 في جريدة السياسة الكويتية أصبح بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته، كما برزت أيضاً في رسوماته شخصية فاطمة الفلسطينية وزوجها الذي ينكسر أحياناً وهي شخصية لا تهادن، رؤياها شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية وبكيفية حلّها، وردّ فعلها غالباً ما يكون قاطعاً وغاضباً، وترمز إلى فلسطين، وفي لوحات أخرى ترمز إلى مصر وبيروت وصبرا وصيدا وصور، وهي المقاومة والمرأة الشامخة، المرأة الشامخة ذات الوجه المدور والعينين الواسعتين، حافية القدمين، تتجوّل وهي ترضع ابنها حب الوطن، وتدفع زوجها وأبناءها إلى تحرير الوطن، والاستشهاد في سبيله وهي رمز إلى المناضلات العربيات.

ومن شخصياته ناجي العلي أيضاً :
الرجل الطيب : شخصية الكادح والمناضل النحيل ذو الشارب، كبير القدمين واليدين ممّا يوحي بخشونة عمله، وهو الفلسطيني المشرد والمقهور والمناضل والمكسور أحياناً والجريح، وفي عدّة لوحات المعذب والمعتقل في السجون، الثابت على موقفه الرافض الاعتراف بالحدود المصطنعة، الحزين على فراق الشهداء. الصبور على الألم، يحمل رمزية كلّ مواطن عربي بحسّه الوطني والقومي وإيمانه بقضيته.
الرجل السمين: هو رجل صاحب كرش كبير يرمز للرجعية والبرجوازية، وهو يقف بانتظام واحترام أمام القوى الصهيونية وهو خانع ضعيف يعمل على التطبيع مع العدو.
الجندي الصهيوني: يرتدي دوماً خوذته على رأسه تأكيداً على جبنه وضعفه، كما أنّ أنفه طويل، وهو خبيث مرتبك أمام الأطفال الفدائيين، وفي أغلب الحالات يصبح مرتبكاً أمام حجارة الأطفال وخبيثاً وشريراً أمام القيادات الانتهازية.

أبـرز رسومـات نـاجـي الـعلي

تميّزت رسومات ناجي العلي بالنقد اللاذع الذي يعمق الوعي عبر اجتذابه للانتباه، من خلال رسوماته الكاريكاتيرية، ويعتبر من أهم الفنانين الفلسطينيين الذين عملوا على ريادة التغيير السياسي باستخدام الفنّ كأحد أساليب التكثيف من جهة، والتوضيح بالكلمات من جهة أخرى.

له أربعون ألف رسم كاريكاتيري من أهمها:
- لوحة “لا لكاتم الصوت”
- لوحة “من راقب الأنظمة مات هماً”
- لوحة “حاج تقلي الدم ما بصير مي صار زفت”
- لوحة كلمة فلسطين (التي تكتب بالرصاصة).
- لوحة “لن نرفع الأعلام البيضاء سوف نرفع العلم الفلسطيني”
- لوحة “التطبيع”
- لوحة “لاجئين 1948 في المخيمات _ لا صلح - لا مفاوضات - لا اعتراض”.
- لوحة “أنا أفكر إذا أنا موجود”. كتبت العبارة على شاهدة قبر.
- لوحة “أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر”
- لوحة “فلتسقط جارة كندا”.. بعد إعلامه من قبل الكويتيين باستياء السفارة الأمريكية من رسوماته.
- لوحة المعلم العربي الذي يكتب بيت الشعر على السبورة : “إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... بدي العن أبوه”
- لوحة “كلّ فلسطيني متهم حتى تثبت إدانته”

أبـرز مقولات نـاجـي العـلـي

«اللي بدو يكتب لفلسطين واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حالو: ميّت”.
«هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب”
« الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة.. إنما بمسافة الثورة “
«متهم بالانحياز وهي تهمة لا أنفيها. نعم أنا منحاز إلى من هم تحت”.
أما الكاتب الروائي والناقد العراقي حسين السكاف فقد كتب عن ناجي العلي قائلا: “ناجي العلي الفنان الذي لم يمت”، وقد أخرجت المخرجة هناء الرملي فيلم وثائقي قصير عن حنظلة ناجي العلي ( الأيقونة).
حصل  العلي على جائزة القلم الذهبي لحرية الصحافة المقدمة من الرابطة العالمية للصحافة. انقلبت حياته حين زار الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني مخيم عين الحلوة وتعرّف عليه وشاهد رسوماته ونشر أحدها في مجلة (الحرية) العدد 88 عام 1961 لتبدأ رحلة ناجي في الصحف وتكون البوابة التي قدّمته للجمهور.
في مقابلة حديثة مع ولده خالد أفاد أنّ والده ناجي العلي عمل من أجل فلسطين وفي سبيلها متمسّكاً في شعار (ما أخذ بالقوّة لا يمكن استعادته إلا بالقوّة).

عمل ناجي العلي في ( الطليعة الكويتية – السياسة الكويتية – السفير اللبنانية – القبس الكويتية – القبس الدولية).