«لا مستقبل لمن لا ماضي له”.. هي عبارة ما فتئ الدكتور مصطفى بيطام، مدير متحف المجاهد، يردّدها خلال الحوار الذي خص به “الشعب”، والذي تطرّق فيه إلى جهود المؤسسة المتحفية في الحفاظ على الذاكرة، وعلى ضرورة تكاتف الجهود من أجل تنشئة أجيال تعتز بماضيها وتبني به مستقبلها..
الشعب: هل لك أن تقدم لنا في عجالة نبذة عن نشاطات وجديد متحف المجاهد؟
مصطفى بيطام: أنا جد سعيد بهذا اللقاء وأتقدم بالشكر لجريدة “الشعب”، هذه الجريدة الرائدة منذ الاستقلال والتي لها مكانتها ووزنها.. نحن الآن متواجدون في متحف هو جزء من مقام الشهيد المدشن سنة 1982، والموجود في مكان له قيمته التاريخية حيث كان في القرنين الخامس عشر والسادس عشر قلعة لأحرار الجزائر الذين كانوا يصدون هجمات الاستعمار البرتغالي والإسباني على السواحل الجزائرية، وهناك دلالة تاريخية أخرى للمكان، حيث أننا بالقرب من المنزل الذي احتضن لقاء مجموعة الـ22 التي فجرت ثورة نوفمبر.. وعلى بعد 100 متر من فيلا سوزيني التي كانت مركزا للتعذيب إبان الاحتلال الفرنسي.
وظيفة المتحف الأساسية جمع ما أمكن من الوثائق واسترجاع الأشياء المتحفية المتعلقة بالمقاومة والثورة التحريرية.. وقبل 4 سنوات كان المتحف يشرف على الملحقات الموجودة عبر الوطن، والآن هناك استقلالية بعد تدشين المركبات الستة الموجودة في الولايات التاريخية الست، وكل مركب له ملحقاته.
يشتغل المتحف الآن على عدة جبهات، أولها العمل على استقطاب أكبر عدد ممكن من الزوار، مع المراهنة على الأجيال الصاعدة من الشباب والناشئة والمتمدرسين في الطورين الأول والثاني، وقد بلغ تعداد الزوار قرابة الـ200 ألف زائر سنويا، أغلبهم من الطلبة، ولكننا نعتبر هذا العدد قليلا باعتبار البطولة التي ميزت تاريخ المقاومة بالجزائر، وتذهب التقديرات إلى الحديث عن 10 ملايين شهيد منذ 1830، إذن لا يعقل أن نتوقف عند هذا العدد من الزوار.. لذا فبالتعاون مع مختلف وسائل الإعلام، لابد من نشر رسالة الوعي لدى المواطن لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الزوار.
من مهام المتحف أيضا القيام بتسجيل الشهادات الحية من أفواه المجاهدين.. ويتمثّل التراث المادي فيما نعثر عليه من أسلحة وألبسة وأدوات استعملت في المقاومة والثورة التحريرية، أما التراث غير المادي فيتمثل في الأنشودة والأغنية الوطنية والشهادات الحية، وهما شيئان متلازمان.
مع زوال جيل الثورة لتقديم شهاداته يظل عملكم مستمرا
عملكم هذا في ظل واقع واقع يثبت أن جيل الثورة يتناقص لأسباب طبيعية.. هل يؤثر هذا على وظيفتكم في جمع الذاكرة؟
نحن في سباق مع الزمن، إن الأعمار بيد الله، ولكن يمكن القول إنه بعد 15 سنة قد لن يبقى من المجاهدين إلا القليل، ولكن اليوم هناك عدد كبير من المجاهدين وذوي الشهيد، الذين ما زالوا على قيد الحياة، وكان من المفروض أن نغتنم الفرصة لتدوين وتسجيل مآثر هذه المقاومة والثورة من أفواههم، فثورتنا واقعية صنعها الشعب وهي ليست من صنع حفنة من الأشخاص، ومن النادر جدا ألا نجد بيتا ليس فيه مجاهد أو شهيد، إذن فهذا الشعب الذي خلّد ملحمة عظمى بجميع أطيافه وفئاته، وبغض النظر عن مستواه وظروفه الاجتماعية والسياسية، كلهم التحموا لصنع الثورة، وكان من المفروض أن هذه الروح التي صنعت الملحمة تبقى مستمرة فيهم وتدفعهم إلى تخليد هذه الثورة، وهو ما يتطلب وعيا لتسجيل مآثر مقاومتنا المسلحة على اختلاف مراحلها.. لا يوجد مجاهد أو مجاهدة إلا وفي ذاكرته ما لا يقدر بثمن من حيث القيمة التاريخية، وبعد رحيل هذا الجيل بعد عشرات السنين، لا بد من بقاء هذا التراث خزانا للأجيال القادمة لكي تستمد منه روحها ووحدتها الوطنيتين.
ألا يمكن القول إن من يكتب التاريخ من مؤرخين وأكاديميين هم من يتحملون المسؤولية أكثر في هذا الجانب؟
لا يمكن أن نحمّل المؤرخ المسؤولية إلا عندما نوفر له ما يجب توفيره من مراجع ومصادر، فالمؤرخ لديه آليات يوظفها عندما يكون في صدد دراسة وتدقيق وتمحيص واستقراء المادة التاريخية.. ولكن لا يمكن الانطلاق من فراغ، وبالنظر إلى تاريخنا الثري، فإننا كلنا كمؤسسات وجمعيات وأحزاب وهيئات ملزمون بجمع هذا الرصيد الهائل، وحتى الطبيعة ما زالت تختزن في جوفها من المغارات والمخابئ والمقابر الجماعية ما يستلزم استكشافه والحفاظ عليه بالمعتاد من الطرق، وهو ما يسمى بعملية الحماية والتخليد، فالكاتب يخلد المآثر بطريقته، والسينمائي والصحفي والفنان التشكيلي بريشته كلّ يخلد الثورة بطريقته، أما الحماية فهي موكلة لأجهزة الدولة من خلال صيانته وعزله عن العوامل البشرية والطبيعية التي قد تؤثر عليه.. من يجوب الجزائر من شرقها إلى غربها يرى بأم عينيه آثار القمع الفرنسي وقطع أنفاس الجزائريين بأبراج المراقبة والأسلاك الشائكة التي طوقت الجزائري وحاولت خنق إرادته دون فائدة.. كل هذا لابد من حمايته وتخليده.
إذن أنت توافقني القول بأن مسؤولية حماية تاريخ الجزائر خاصة المعاصر منه لا تقع فقط على وزارة المجاهدين بل هي مسؤولية جماعية بين مختلف الوزارات والهيئات..
هي مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى، ومسؤولية كل الهيئات والمؤسسات الملزمة بموجب الواجب الوطني وحماية هذه المآثر، بأن تشارك في هذه العملية بطريقتها.. ومهما عملت وزارة المجاهدين فلن يكون بوسعها القيام وحيدة بهذه المهمة.. لو يكون لهذا الشعب وعي عال وهبّة مثل هبة أول نوفمبر، فإن بإمكانه صنع المعجزات في هذا المجال: أقول هذا لأن هناك أسرا وعوائل بحوزتها أشياء ذات قيمة تاريخية بالغة ولكنها لا تولي لها الأهمية الكافية وتعتبرها مجرد إرث وتتمسك به، ولكن الدولة بموجب القوانين ملزمة باسترجاع كل الوثائق والأشياء المتحفية، ولا بد من تسليمها للمؤسسات ذات الاختصاص مثل الأرشيف الوطني والمتاحف الوطنية والجهوية.. ولا يكفي الحفاظ على المادة التاريخية فقط، بل يجب نقلها وإيصالها إلى الأجيال القادمة بطرق فنية وعصرية، ولا يجب أن ننسى وسائط السمعي البصري المهيمنة على الاتصال الحديث، ولو أن بلدا آخر له تاريخ مثل تاريخنا لخصص له كما كبيرا من القنوات المهتمة بالتاريخ.
ما الذي يجب فعله لتصدير هذه الواجهة الممثلة في ثورة الجزائر والتي قد تكون أشهر ما يعرفنا به العالم؟ هل تقوم متاحفنا بنشاطات ومعارض خارج الجزائر على الأقل في دول شقيقة وصديقة تهتم شعوبها بإرثنا الثوري؟
أريد الإشارة هنا إلى أن 150 وفدا أجنبيا يزور متحفنا سنويا.. ولكن أعيد التأكيد على أن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق الوزارة بل هي مسؤولية دولة بكل ما للكلمة من معنى، لا بد من رسم خطة هادفة ورؤية متبصرة، لا يجب أن نخجل بما قدمناه حتى الآن، فالجزائر على مدى 50 سنة من الاستقلال قامت بما يسعها من أجل التعريف بتاريخها الوطني، ولكن نظرا للكم الهائل من الإرث التاريخي فنحن ملزمون بضرورة الالتفات إلى هذا الأمر وإعداد استراتيجية على المدى القصير، المتوسط والبعيد، وما يهمنا الآن هو التعجيل واتخاذ التدابير الكفيلة بنقل إرث جيل الثورة قبل رحيله.. أما عملية التأريخ فهي عملية لا تنتهي، فالكتابة ومقارنة المعطيات واستنتاج الحقائق عملية متواصلة في الزمن.
يجب أن يكون التركيز حاليا على استرجاع الوثائق والمواد المتحفية داخل الوطن وخارجه، ولا بد من التركيز على تلك الدول التي ساندت الثورة سياسيا وماديا، والتي كانت الدبلوماسية الجزائرية متواجدة فيها، وهذا الحراك النضالي الجزائري تنطق به الوثائق التي تحوزها هذه الدول.. الدولة الجزائرية تعمل على قدم وساق لاسترجاع الأرشيف الوطني، كما أننا في القرن الحادي والعشرين ولا يوجد ما يمنع باحثا أو صحيفة أو جامعة من أجل المساهمة في هذه المهمة.. يجب على كل من بإمكانه المساهمة في جمع إرثنا الثوري أن يسائل ضميره: ماذا قدم لتاريخ الجزائر وما الذي يسعه أن يقدمه من أجل الحفاظ على الذاكرة الوطنية.. يؤسفني القول إننا ما زلنا نفتقر إلى ثقافة متحفية، حتى أن الكثير من الأشخاص يجهلون وجود متحف في هذا المكان وهم يمرون يوميا بالقرب منه.. ومن هنا تأتي أهمية الوعي والتوعية.
بصفتك جامعيا ومثقفا، كيف ترى دور المثقف الجزائري؟ هل هو مغيّب أم أنه لا يولي الاهتمام الكافي لنقل إرثنا التاريخي الحضاري إلى أجيال هي عرضة لغزو ثقافي مطرد؟
أعتقد أن المثقف ليس مغيبا، إنما هو غيّب نفسه بنفسه.. يبدو أن المثقف الجزائري تعوّد على الاعتقاد بأن هذه الأمور أوكلت إلى جهات غيره، وهناك من يتوانى عن تخصيص جزء من وقته أو أيام عطله لتسجيل حضوره والاحتكاك بصانعي الحدث.. صانعوا الحدث إبان الثورة كانوا أناسا بسطاء، والكثير من عظمائها لم يكونوا من حملة الشهادات العليا، ولكن من يقف أمام بيان أول نوفمبر يجده صالحا لكل زمان، ويرى في ديباجته ما يجعله يعتقد بأن من كتبه من فطاحلة العلوم السياسية والقانونية والإعلامية، والسر في ذلك يكمن بأن هؤلاء العظماء كانوا مؤمنين بالقضية، وخرجوا من رحم المجتمع، وهذا البيان تقطر منه مبادئ هي من صنع الشعب، وكما قال ماو تسي تونغ: إن المناضل يجب أن يكون كالسمك في الماء، إذا ما خرج منه فإنه يموت.. هؤلاء البسطاء خرجوا من رحم الشعب وعرفوا معاناته وعبروا عنها بطريقة قلت مثيلاتها.. إن العمل في مجال التاريخ يحتاج إلى صبر، لذا يجب على المثقف أن ينزل من برجه العاجي ويقترب من هذه الجماهير، ويبحث عن الحقيقة من مصادرها، ولا يكتفي بالبقاء في مكاتب الدراسة أو مدرجات الجامعة والانتظار أن تأتي المادة جاهزة.. لماذا لا ننقل طلابنا وأبناءنا إلى عين المكان؟ لماذا لا نزور مقارّ التعذيب أو مواقع المعارك؟ إن خمسين سنة هي لا شيء في عمر الشعوب، وتلك الجاذبية التي تربط شعبنا بثورته ما تزال موجودة، وهو ما لا يجب تفويته على أنفسنا.
أقول أيضا إن هناك من يشتغل علينا في الخفاء حتى يبعدنا عن منابع أول نوفمبر، لقد كان الجزائريون لا يفوقون الـ11 مليونا، يعيشون متاعب لا نظير لها وأغلبهم أميون، وجاءت ثورة التحرير الربانية فوحّدت هذا الشعب في لحمة واحدة، واستطاع بإرادته تركيع فرنسا إحدى الدول الكبرى في العالم، فكيف يمكن أن تغيب الإرادة في كتابة التاريخ والحفاظ عليه؟ هناك من يشتغل عن وعي أو غير وعي لتغييب هذه الأجيال وقطع الصلة مع الماضي.. إذا أردت أن أرمي حجرا فإن عليّ إرجاع يدي إلى الوراء لأكتسب قوة تسمح لي برميه، بنفس الطريقة نحن مجبرون على العودة إلى الماضي من أجل صنع المستقبل.. إن الرسالة إعلامية بامتياز في عالم صار أشبه بالقرية، لذا وجب توظيف وسائل الاتصال الحديثة في صالح الحفاظ على رسالة التاريخ.
كنتم قد أعلنتم منذ بضع سنوات عن إطلاق مشروع أدبي لتخليد ذكرى 150 شهيد خلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر.. إلى أين وصل هذا المشروع؟
يتعلق الأمر بسلسلة “من أمجاد الجزائر” الموجهة للناشئة من الطورين الأول والثاني، وهو مشروع ما يزال متواصلا، حيث بدأنا بالشهداء القادة على مستوى الولايات والمناطق والنواحي، على أن يمسّ المشروع أكبر عدد ممكن من الشهداء والمجاهدين.. ويشارك في المشروع كتاب من مختلف أنحاء الوطن، وهناك لجنتان علميتان لتصحيح أعمال الكتاب، لأننا نحرص على تقديم المادة بأسلوب قصصي مشوق للابتعاد عن المادة الجافة.. عدد الكتب حاليا 50 كتابا، في 5 ملايين نسخة وزعت على 24 ألف مؤسسة تربوية، وهناك 300 كتيب جاهز للنشر.
ولم نتوقف عند هذا الحد، إذ هناك أستديو بأكبر الوسائل لتسجيل الشهادات الحية، كما أسسنا بنك معلومات لجمع كل الوثائق المتعلقة بالشهداء والمجاهدين، والمحتشدات والسجون ومراكز التعذيب، وإعلام الثورة.. ويضم المتحف أول مكتبة وطنية مخصصة للمقاومة باللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنجليزية، أما الطفرة التي عرفها المتحف فهي قرار فتح أبوابه من الثامنة صباحا إلى غاية العاشرة ليلا كل أيام الأسبوع على مدار السنة، كما سهرنا على إبرام اتفاقيات مع المؤسسات التربوية، ولا يخفى على أحد ضرورة غرس قيم ومبادئ ثورتنا المجيدة في أذهان الأجيال الجديدة.