طباعة هذه الصفحة

قوة ناعمة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية..

عيسى الهادي يضيـف “الدبلوماسيـة الرياضية” إلى المكتـبة

أسامة.إ

تعتبر الدبلوماسية الرياضية جزءاً هاما من نموذج القوة الناعمة الذي تعزز به الدول جاذبيتها، وقد ازداد استخدام هذا المفهوم ليحتل مكانة داخل عالم الدبلوماسية العامة.. هو ما خلُص إليه البروفيسور عيسى الهادي في كتابه “الدبلوماسية الرياضية”، والذي يؤكد فيه أن الرياضة وسيلة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول، وبناء قوتها الناعمة، ووضع قضايا سياسية على الأجندة الدولية.

انقضت دورة الألعاب الأولمبية قبل أيام، مخلفة وراءها، إلى جانب النتائج الرياضية، شواهد كثيرة على التأزم الذي يعرفه المنتظم الدولي على كثير من الأصعدة، بما فيها السياسي والأخلاقي. وينقلنا ذلك إلى الحديث عن دور الرياضة السياسي، وتوظيفها في الدبلوماسية والقوة الناعمة، وهو ما يعالجه أ.د.عيسى الهادي في كتابه “الدبلوماسية الرياضية”، الصادر عن دار “بصمة علمية”.
والمؤلف أستاذ الإعلام الرياضي بجامعة الجلفة، سبق له التدريس بمعهد التربية البدنية والرياضية بوهران، ومدير “مخبر بحث المنظومة الرياضية في الجزائر”. من مؤلفاته: “الاحتراف الرياضي في كرة القدم”، “دراسات في الإعلام الرياضي التربوي”، “المنظومة الإعلامية الرياضية”، “مدخل لفنيات التحرير الصحفي الرياضي”، “البرامج الرياضية التلفزيونية”، “الرياضة والسياسة”، “التعليق الرياضي”.

نظرة شاملة
نجد الكتاب مقسّما، في أكثر من 150 صفحة، إلى أربعة فصول، يتطرق أول فصل منها إلى مفهوم الرياضة، وأهميتها، والأهداف العامة منها، وعلاقتها ببعض الميادين الأخرى، والدعائم المؤسساتية لها، إلى جانب السياسة الرياضية في الجزائر. أما الفصل الثاني فيعالج فيه الكاتب مفهوم السياسة، والتعريف القديم لعلم السياسة، ثم التعريف الشامل له، وعلاقته بالعلوم الأخرى، وتطور الفكر السياسي، والدولة والمؤسسات السياسية.
وفي الفصل الثالث “الرياضة والسياسة بين التأثير والتأثر”، نجد حديثا عن الرياضة ونظام السياسة، وعلاقة السياسة الداخلية بالرياضة، والرياضة والسياسة الخارجية، والوظائف الإيديولوجية للرياضة، وعلاقة الشباب بالرياضة والسياسة، ودبلوماسية الرياضة (الرياضة وحل الصراعات الدولية)، وأهمية الرياضة في التقارب السياسي، والرياضة وحركات التحرّر، إلى جانب محطات في تاريخ الرياضة والسياسة.
فيما حمل الفصل الرابع عنوان “الدبلوماسية الرياضية دراسات وآراء”، وتطرّق فيه الكاتب إلى تفعيل الجزائر الدبلوماسية الرياضية، وفريق جبهة التحرير الوطني واستخدام الدبلوماسية الرياضية للتعريف بالقضية الوطنية، ودبلوماسية البينغ بونغ، وكيف أصبحت الرياضة القوة الناعمة للدول وحصانها الرابح في سياستها الخارجية، وحساسية الجماهير، والتكامل بين الثقافة والرياضة، والدبلوماسية الرياضية وإدارة الصراع، والدبلوماسية الرياضية والعولمة، وكيفية إسهام الرياضة في بناء القوة الناعمة للدول، وعلاقة الرياضة بالدبلوماسية العامة. وفي هذا الفصل أيضا، عالج الكاتب كيف كافحت الرياضة الابرتايد ووحدت البرازيل وكوت ديفوار، كما تطرّق إلى الدبلوماسية الرياضية السعودية، وإلى كأس العالم 2022 بقطر، إلى جانب أمثلة ونماذج أخرى.

الرياضة.. أهمية متزايدة
يشير عيسى الهادي في مقدمة كتابه إلى تزايد أهمية وقيمة ومكانة الرياضة في المجتمعات، نظرا لقيمتها النفسية والسوسيولوجية والصحية من جهة، والاقتصادية والسياسية من جهة أخرى. فبتنامي العمق الاجتماعي للرياضة وجماهيريتها، باختلاف الإيديولوجية الدينية والسياسية والمكانة العلمية والاقتصادية والثقافية لأي دولة من دول المعمورة، نلاحظ اهتمام الساسة بمتابعة واستثمار الرياضة بأشكالها المختلفة لاستغلالها في توسيع نفوذهم.
إلا أن الرياضة تحتاج دعما اقتصاديا وسياسيا، ولا يمكن الفصل بين السياسة والرياضة، وذلك بالرغم من القوانين والتشريعات العالمية التي تمنع التدخّل الحكومي في الهيئات الرياضية التي تخضع لهيئات رياضية دولية، وهذا النهج في التسيير كثيرا ما انحرف عن مساره إلى تدخل حكومي مباشر وواضح، ما تسبّب في تعليق الأنشطة والممارسة الرياضية لهذه الدول في التظاهرات الدولية والإقليمية، كما قد يكون التدخل الحكومي بشكل ضمني وغير مباشر. وبعض الحملات الانتخابية، باختلاف مستوياتها وأشكالها، تستغل نجوم الرياضة ومشاهيرها، بل إن التداخل بين الرياضة والسياسة أفرز مظاهر عديدة لولوج نجوم الرياضة عالم السياسة، ومن أبرز الشواهد على ذلك اللاعب جورج ويا الذي أصبح رئيس ليبيريا عام 2017.

الرياضة والقوة الناعمة
ويلاحظ الكاتب تعاظم استخدام مفهوم الدبلوماسية الرياضية في العقدين الماضيين، والمكانة التي أصبح يحتلها داخل عالم الدبلوماسية العامة. ويوجد قدر من الاتفاق على أن الرياضة أصبحت وسيلة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول، وبناء قوتها الناعمة، وتشكيل صورتها الذهنية، ووضع قضايا سياسية على الأجندة الدولية. كما أصبحت الدبلوماسية الرياضية اليوم جزءاً لا يتجزأ من نموذج القوة الناعمة الأوسع نطاقاً على المستوى الدولي، الذي تستخدمه البلدان لتعزيز جاذبيتها. وقد جذب مفهوم الدبلوماسية الرياضية، باعتباره أحد المؤشرات الرئيسة لتطور القوة الناعمة والدبلوماسية العامة، انتباه العديد من الدول.
ويستشهد الكاتب بالتاريخ، حينما يقول إنه بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد البث التلفزيوني المباشر الأول في دورة الألعاب الأولمبية روما 1960، وكذا ظهور مفاهيم کالقوة الناعمة والدبلوماسية الحديثة والدبلوماسية العامة، أصبحت الرياضة تدريجيا أداة فعالة ومرنة في السياسة الخارجية.
وتُفهم “القوة الناعمة” في كثير من الأحيان على أنها القدرة على تحقيق الأهداف في مجال السياسة الخارجية عن طريق إقناع التعاطف وجذبه من الجهات الفاعلة الأخرى، والقدرة على تحقيق المطلوب على أساس المشاركة الطوعية للحلفاء، وهي بهذا تمثِّل قوة جاذبية النموذج الاقتصادي، والسياسي، والثقافة، والتعليم، والإنجازات العلمية والتكنولوجية، ويمكن إضافة الرياضة، التي تؤدي كظاهرة ذات نطاق عالمي عديداً من الوظائف الاجتماعية والسياسية كنشر أساليب الحياة الصحية.
ويرى الكاتب أن مفهوم القوة الناعمة قد شهد مؤخرا تطبيقا واسعا في بحوث العلاقات الدولية عن طريق التركيز على الرياضة. وكان العمل الأول الذي تناول “الرياضة والعلاقات الدولية” عبارة عن مختارات سياسية كتبها لوي وآخرون في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حاولت تجميع المعرفة بالرياضة والثقافة والمؤسسات السياسية، لكنَّها كانت تفتقر إلى الأسس النظرية الواضحة. وفي الثمانينيات من القرن الماضي، حذَّر تايلور من أن بحوث الرياضة والعلاقات الدولية قد تجاهلت بعضها بعضا، وفي التسعينيات، نجح هوليهان في وضع الأسس النظرية للبحث العلمي في هذا المجال، في دراسته الرائدة في الرياضة والسياسة الدولية. ولم يعرض هوليهان نظرية جديدة، لكنه صنَّف دراسته ضمن ثلاث مجموعات من النظريات أساسية هي: المجموعة الواقعية، والمجموعة المتعدّدة، ومجموعة العولمة في المجموعة الأخيرة، وكان تركيزه على النظام الدولي خوفاً من أن تؤدي الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل الشركات متعدّدة الجنسيات في النهاية إلى إضعاف قدرة الدولة على استخدام الرياضة لأغراض دبلوماسية. وبعد سنوات عديدة، أشار ليفرمور، وبود، وأليسون، ومونينغتون مرة أخرى إلى التضمين النادر للرياضة في بحوث العلاقات الدولية. وفي وقت لاحق، حاول آخرون سد الفجوة بالدراسات ذات الصلة في منافذ النشر المختلفة، وقد استخدمت القوة الناعمة ودبلوماسية الرياضية قوالب ظهرت جلياً في الأدبيات الرياضية في أواخر عام 2000 وفي وقت مبكر من عام 2010، وصارت منهاجاً يحتذى منذ ذلك الحين.
ويعتقد بعض الباحثين أنَّه إذا كانت الموارد الثقافية جزءاً من سياسة الجذب الجديدة أو الدبلوماسية الجديدة، فيمكن فهم الأحداث الرياضية الضخمة كجزء من استراتيجية القوة الناعمة. ويسلِّط تحليل أمثلة البلدان الضوء على فائدة القوة الناعمة كأداة واسعة النطاق، لفهم دوافع الدول الناشئة لاستضافة الأحداث الرياضية الكبرى. وعن طريق دراسة كأس العالم لكرة القدم البرازيل 2014، وأولمبياد البرازيل 2016، وأولمبياد الصين 2008، وكأس العالم لكرة القدم جنوب أفريقيا 2010، يمكن النظر إلى استخدام القوة الناعمة على مستويات الاتصال والجذب، وتفحص الطبيعة التأسيسية والتنفيذية والخطابية ودور الأحداث الرياضية الضخمة في العلاقات الدولية عن طريق استخدام نهج مرتكز على الدولة لاستكشاف إجراءات الدبلوماسية العامة.

الرياضة والدبلوماسية العامة
يضيف الكاتب أن هناك تعريفات عديدة لدبلوماسية الرياضة في نصوص مختلفة، خصوصاً في العقد الماضي، من “الحرب دون إطلاق النار” إلى “أدوات تطوير السلام المستدام” التي تسعى إلى فهم أفضل للتفاعلات والصداقات الدولية.
ويرى الكاتب أن التنشئة الاجتماعية للآخرين عن طريق الدبلوماسية العامة هي ممارسة وزيادة القوة الناعمة للدولة المضيفة، وترى الدول أنَّ استضافة حدث رياضي ضخم على أراضيها هو نوع من الدبلوماسية العامة يعرض مدى قدرة الدولة على ممارسة وزيادة القوة الناعمة للدولة المضيفة. بعبارة أخرى، يُظهر ذلك قدرة البلدان النامية الكبيرة على تعزيز سلطانها في الشؤون العالمية، وبالتالي تعزيز جاذبيتها العالمية. ويكون التوجّه نحو الجماهير الأجنبية بدلاً من الدبلوماسية التي تركِّز على السياسات الوطنية التي تستهدف صانعي السياسات والحكومات. مثلا، استثمرت ألمانيا في استضافة كأس العالم لكرة القدم 2006 في محاولة لتصحيح صورتها الدولية “الملطخة” بسبب الحرب العالمية الثانية. وعلى عكس ألمانيا، كانت استضافة المملكة المتحدة لأولمبياد 2012 تدور حول جذب الأعمال والتجارة، وتنشيط “إيست إند” في لندن، ودفع المشاركة الرياضية الجماهيرية ودفعها للأمام، بدلاً من تعزيز صورتها الدولية.
وتبقى الرياضة أداة منخفضة المخاطر، ومنخفضة التكلفة، وغنية للأنشطة الدبلوماسية، يلاحظ المؤلف، مضيفا أن المحللين يعتقدون أنَّه مثلما يجلس الدبلوماسيون حول الطاولة لتحقيق المصالح الوطنية، يركض الرياضيون أيضاً في الملاعب لتعزيز هذه المصالح، كما استطاعت الرياضة الدولية بآلياتها ومؤسساتها الكبيرة، بما في ذلك اللجنة الأولمبية الدولية (211 عضوا) والفيفا (206 أعضاء) أن تتفوق حتى على الأمم المتحدة (193 عضوا) ويرتبط نجاح أي بلد في هذه الأحداث بالمكانة العالمية.
وأشار الكتاب إلى دور المنافسات الرياضية في توسيع الاتصالات الدولية والعلاقات الودية، مذكرا بمثال دبلوماسية البينغ بونغ (1971) وإذابة الجليد في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. كما قد يكون مشاهير الرياضة “سفراء سلام” يتحدَّثون إلى الجماهير العريضة حول قضايا متعدّدة.
وأشار الكاتب إلى ضرورة إدراك حقيقة أن البلدان المستضيفة للمسابقات الدولية غير قادرة على تعويض تكاليف تنظيم هذه الأحداث، إلا أنَّها تعزِّز في المقابل صورتها الدولية، فضلاً عن تحقيق التدفُّق السياحي، وزيادة الاستثمار الأجنبي.
ومن الأمثلة المعاصرة، يذكر الكاتب، قطر التي استثمرت في جميع مجالات الدبلوماسية الرياضية: تنظيم المنافسات الدولية، وتنمية الرياضة داخلياً، ورعاية منافسات أو كيانات رياضية عديدة، والحصول على حقوق البث الحصرية للمنافسات الدولية، وشراء كيانات رياضية أجنبية. كما تلبي الاستثمارات الرياضية حاجات عقلانية طويلة المدى: كالحاجة إلى التنويع الاقتصادي، وتحديث الدولة وتطويرها، وكذلك الحاجة السياسية للاعتراف الدولي لتعزيز مكانة البلاد في المحافل الدولية. ويعود الكاتب إلى استضافة قطر كأس العالم لكرة القدم 2022؛ وهذه البطولة هي أكثر الأحداث الرياضية جذباً لاهتمام الإعلام باعتبار كرة القدم أكثر الألعاب شعبية في العالم.
من جهة أخرى، يرى البروفيسور عيسى الهادي أن سحب الجزائر ترشحها لاحتضان نهائيات كأس إفريقيا 2025 و2027، أياما قليلة قبل الإعلان عن الدول المستضيفة للحدث الكروي الأهم في إفريقيا، كان خطوة جريئة وقوية أبدت ذكاء الدبلوماسية الرياضية الجزائرية، التي ضربت عصفورين بحجر واحد: الاحتجاج بطريقة غير مباشرة على ما يحدث داخل الاتحاد الإفريقي لكرة القدم وأسلوب تسييره للشأن الكروي في القارة السمراء من جهة، ومن جهة أخرى توريط هذا الاتحاد ليتحمل نتيجة قراراته اللامدروسة التي أصبحت بعيدة كل البعد عن المنطق والمصداقية.