الاستقرار والأمن الليبي بيد الليبيين وحدهم.. والتدخلات الأجنبية مرفوضة اليوم وغدا
عاد الوضع في ليبيا ليثير كثيرا من القلق داخليا وإقليميا، بفعل المستجدات الخطيرة التي تشهدها البلاد منذ عشرة أيام، على إثر قرار قوات شرق ليبيا التحرك باتجاه جنوب غرب البلاد، ما يعزّز المخاوف من انتكاسة أمنية قد تنسف اتفاق وقف القتال الذي تمّ التوصل إليه عام 2020 بشقّ الأنفس.
تعيش ليبيا منذ أيام على وقع توتّر جديد تفجّر بعد أن بدأت الحشود العسكرية تتحرّك من شرق ليبيا باتّجاه جنوب غرب البلاد، في صورة أعادت للأذهان الهجوم الواسع الذي شنّه حفتر ما بين أفريل 2019 وجوان 2020 على العاصمة طرابلس في محاولة فاشلة للسيطرة عليها.
وقد أثارت خطوة قوات شرق ليبيا التي تمّ تبريرها بالسعي لحماية الحدود بفعل التطورات التي تعيشها المنطقة، وتعزيز الأمن القومي للبلاد واستقراره في هذه المناطق الحيوية، ردّ فعل غاضب ومناوئ من عموم الشعب الليبي ومن الأمم المتحدة والمجموعة الدولية التي رأت فيها تهديدا مباشرا لأمن واستقرار ليبيا، ومن خلالها، لسلامة دول الجوار التي أبدت هي الأخرى رفضها الشديد لهذا التصعيد الخطير، ودعت إلى ضبط النفس والالتزام بوقف القتال وبالعملية السياسية.
مقامــرة خطـــيرة
مغامرة قوات شرق ليبيا التي هزّت الهدوء النسبي الذي تعيشه ليبيا، أعادت فتح الجراح التي لم تندمل بعد، وعزّزت المخاوف من العودة إلى مربّع الاقتتال والفوضى الأمنية، خاصة بعد أن قابلتها تحشيدات من غرب البلاد، وتعليمات بـ«رفع درجة الاستعداد لصد أي هجوم محتمل”.
طبعا، هذه الأجواء الساخنة رفعت من منسوب التجاذبات السياسية، والاتهامات المتبادلة بين الأطراف الليبية، ففي حين اتهمت حكومة الوحدة الوطنية قوات الشرق بإعادة فتح أبواب جهنّم على ليبيا، ووصف المجلس الأعلى للدولة خطوتها بأنها “مشبوهة” وقال آخرون إنها جاءت بإيعاز من جهات خارجية تسعى للتمدّد في مناطق ليبيا الاستراتيجية، ردّت قيادة قوات شرق ليبيا بأن تحرّكها العسكري يأتي “في إطار تعزيز الأمن على الحدود، والتصدي لأي تهديدات قد تستهدف سلامة الوطن واستقراره خاصة في ظل التوترات التي تشهدها بعض دول الجوار”.
ضبــط النفــس ووقــف التصعيـــد
التحشيد العسكري والاتهامات المتبادلة بين الأطراف الليبية، رفعت من منسوب التوتر وفاقمت من حدّة المخاوف ليس على المستوى الداخلي فقط، بل وعلى المستوى الدولي والإقليمي، فبعثة الأمم المتحدة في ليبيا سارعت إلى الدعوة لـ«وقف التصعيد وتجنب المزيد من التوترات”، بينما أصدرت سفارات فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بيانا مشتركا دعت فيه إلى “أقصى درجات ضبط النفس” و«تجنب أي عمل عسكري استفزازي يمكن أن يعرض الاستقرار في ليبيا وأمن سكانها للخطر”.
وفي بيان مشترك نشرته السفارة الأمريكية لدى ليبيا عبر منصة “أكس”، حذرت سفارات تلك الدول من أن “هذه التحركات العسكرية في ظلّ الجمود المستمر في العملية السياسية تعرض الوضع لخطر التصعيد والمواجهة العنيفة، وقد تهدّد اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020”.
وقالت: “نظرًا للمخاوف الحقيقية بشأن أمن الحدود على طول الحدود الجنوبية لليبيا، فإننا نحث القوات الأمنية في الشرق والغرب على اغتنام هذه الفرصة لتعميق التشاور والتعاون من أجل تنفيذ إجراءات فعّالة لتأمين الحدود وحماية سيادة ليبيا”.
كما استشعرت بعثة الاتحاد الأوروبي هي الأخرى “القلق العميق” إزاء التحركات العسكرية في المنطقة الجنوبية الغربية لليبيا، وأكدت أن “استخدام القوة من شأنه أن يضرّ بالاستقرار في ليبيا ويؤدي إلى معاناة إنسانية وينبغي تجنبه مهما كلف الأمر”.
ودعا الاتحاد الأوروبي جميع الأطراف إلى الدخول في حوار لمنع الانقسام والحفاظ على الاستقرار واتفاق وقف إطلاق النار، وحثّ جميع الأطراف الليبية الفاعلة والمجموعات المسلحة على ضبط النفس ووقف التصعيد بشكل عاجل.
استقــرار ليبيــا من استقــرار الجـوار
هذا، وانطلاقا من أنّ استقرار دول جوار ليبيا هو من استقرار هذه الأخيرة، سارعت الجزائر للتعبير عن انشغالها بتطورات الوضع في الشقيقة الشرقية، حيث استقبل وزير الشؤون الخارجية الجزائري، سفير دولة ليبيا الأحد الماضي، وناقش معه المستجدات المقلقة في الجارة الشرقية لاسيما عمليات الحشد العسكري تجاه المناطق الغربية والجنوبية للبلاد وما تحمله هذه التطورات من أخطار محدقة بتجدد الاشتباكات والمواجهات بين الأطراف الليبية.
وناشدت الجزائر، على لسان رئيس دبلوماسيتها، الأشقاء الليبيين لـ«التحلي بالحكمة وضبط النفس وإعلاء المصالح الحيوية للشعب الليبي فوق أي اعتبارات أخرى”، وأبرزت “حتمية تضافر جهود الجميع للحفاظ على أهم مكسب تمّ تحقيقه عبر العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، ألا وهو مكسب وقف الاقتتال بين الإخوة الفرقاء في دولة ليبيا الذي يتوجّب تثمينه وتعزيزه والبناء عليه للمضي قدما نحو تحقيق التسوية السلمية المنشودة، حفاظا على أمن واستقرار ليبيا وكذا أمن واستقرار جوارها الإقليمي”.
وحثّت الجزائر أيضا على “تسخير كل ما تملكه ليبيا من مقدرات ومقومات للإسراع بإنجاح العملية السياسية الهادفة إلى توحيد المؤسسات عن طريق انتخابات حرة وشفافة ونزيهة، وتحقيق المصالحة الوطنية ووضع حد للتدخلات الأجنبية “.
أولويــات حل الأزمـة
وكانت الجزائر قد عرضت قبل أيام على رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالنيابة، ستيفاني خوري، أربع أولويات رئيسية ترى أنه لا بد من التركيز عليها في الوقت الراهن لحل الأزمة، من بينها الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار، ووقف التدخلات الخارجية، وتحقيق المصالحة الوطنية.
جاء ذلك خلال استقبال وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، أحمد عطاف، بداية هذا الشهر، لستيفاني خوري، في إطار التشاور والتنسيق بين الجزائر ومنظمة الأمم المتحدة حول تطورات ومستجدات المشهد الليبي.
وشدّد عطاف عقب المحادثات، في تصريحات صحفية، على أربع أولويات رئيسية لا بد من التركيز عليها في الوقت الراهن، تتعلّق الأولى بتفادي تحويل الاستحقاق الانتخابي في ليبيا إلى غاية بحد ذاتها، فالغاية تبقى أشمل وأوسع، مؤكدا أن نجاح هذا الاستحقاق يتوقف على مدى التقدم المحرز في العمل التحضيري الذي ينبغي استنفاذه على أكمل وجه.
أما الأولوية الثانية، فهي أهمية الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار والعمل على تثبيته، وكأولوية ثالثة، رحّب عطاف بكل المبادرات والرغبات والمسارات التي تضع نصب أولوياتها حل الأزمة الليبية، مشدّدا على ضرورة أن تكون هذه الأخيرة امتدادا وسندا وعونا للجهد الأممي الذي يبقى المرجع الأساسي الذي تتجسّد فيه ثوابت حل الأزمة الليبية، وكذا معالمها وضوابطها.
وتتمثل الأولوية الرابعة في عدم التخلي عن مشروع المصالحة الوطنية الليبية، مبرزا أنه على الرغم من كل الصعوبات التي اعترضت سبيل هذا المشروع، إلا أنه يبقى يكتسي أهمية بالغة، كونه سيسهم، لا محالة ولا ريب في بلورة أرضية جامعة وموحّدة لجميع أبناء ليبيا، تنأى بهم عن نهج التجاذب والانقسام، وتبعدهم كل البعد عن منطق الغالب والمغلوب.
وأعرب الوزير الجزائري عن أسفه لكون الأزمة الليبية تخطّت منذ بضعة أشهر عامها الثالث عشر، ومع زيادة عمرها تزداد بذات القدر تعقيداتها، محذرا من انحسار آفاق الحل السياسي الذي طالما سعت الجزائر جاهدة وبإخلاص من أجل تحقيقه وتثبيت أسسه ومقوماته.
معضلـــة التدخـــلات الخارجيـــة
وأرجع عطاف طول أمد الأزمة الليبية في المقام الأول، إلى تزايد وتعاظم وتعقد التدخلات الخارجية في شؤون هذا البلد، موضحا أن “مفتاح حل هذه الأزمة يكمن أساسا في استبعاد وإنهاء هذه التدخلات، بجميع أشكالها ومضامينها ومآربها، السياسية والعسكرية والأمنية”.
وجدّد عطاف “دعوة الجزائر ومطالبتها لجميع الأطراف الأجنبية برفع أياديها الجاثمة على الشأن الليبي، ووضع حدّ للسياسات والممارسات والتصرفات التي تغذي الانقسام وتزرع الفرقة وتعمق الهوة بين أبناء الوطن الواحد والأمة الموحدة”.
وشدّد عطاف على أن الجزائر “تبقى على قناعة راسخة أن إنهاء هذه التدخلات سيكون له الأثر البالغ في تمكين الأشقاء الليبيين من تجاوز التجاذبات والاستقطابات الراهنة، ومن إيجاد أرضية توافقية تكرس مساهمة الجميع في مسار ليبي-ليبي يطوي صفحة الخلافات، ويرأب الصدع، وينهي الأزمة بصفة نهائية”.
هذه الأرضية التوافقية ـ وفق عطاف - “لا بد أن تفضي إلى تنظيم انتخابات حرة ونزيهة يمنح من خلالها الشعب الليبي الشرعية لمن يراهم الأكفأ والأقدر على تمثيله والذود عن مصالحه، وتتولد عنها مؤسسات موحدة وقوية، رادعة ومبطلة لكل مفعول من مفاعيل التدخلات الأجنبية، ومن شأنها أن تعيد لدولة ليبيا هيبتها ومكانتها الطبيعية والمستحقة على الصعيدين الإقليمي والدولي”.
بدورها، أشادت ستيفاني خوري بـ«دور الجزائر المهم والأساسي في دعم جهود الليبيين للتوصل إلى حل للأزمة الليبية”، ولفتت إلى أن النقاش الذي جمعها بعطاف كان عميقا ومفيدا جدا، حيث جرى التطرّق إلى التحديات من ناحية الانقسامات الأمنية والاقتصادية، وكذا من ناحية الاستقرار في المنطقة وليس فقط في ليبيا.
وأضافت خوري أنه تمّت أيضا “مناقشة الأهداف المشتركة بين الأمم المتحدة والجزائر، والتي تصبّ في صالح الشعب الليبي من أجل الوصول إلى دولة ليبية موحدة دون انقسامات، وكذا استقرار المنطقة ككل”.
وتستعد القائمة بأعمال البعثة الأممية للدعم في ليبيا لتقديم ثاني إحاطة لها في الـ20 من شهر أوت الجاري أمام مجلس الأمن الدولي حول ليبيا.
في الأخير، يبقى من الضروري التأكيد على أن الحل في ليبيا هو بيد الليبيين أنفسهم، فهم الذين عليهم أن يسدّوا الباب أمام التدخلات الخارجية المريبة، وينخرطوا بجد في استكمال مسار العملية السياسية تحت إشراف الأمم المتحدة لتتويجها بانتخابات تعيد بناء مؤسسات الدولة وتقودها إلى برّ الأمان .