وأيّة شهادة شهدتها قبل أن تنال الشهادة، بقدميها المبتورتين اللاتين سبقتها للجنّة.. شهدت على بتر أطراف الأسرى في سجنهم اللعين “سدي تومان”.. شهدت أنّ هناك امرأة تعتقل بتهمة مساندة الأسرى بطرق سلميّة.. بتهمة أنّ هناك احتلالا يريد أن يعتقل الزوج والإبن والأخ ثم عليك أيّتها المرأة أن تكمّمي فمك بيدك ولا تنبسي ببنت شفة، أن تبلعي لسانك وأن تلوذي صامتة بقهرك..
أمّ حذيفة رفضت أن تسلب حريتها وكرامتها من قبل معتلّ بغيض، تحركت ونافحت وتكلّمت، هذا المعتل يريدنا شاهدي زور على مجازره في غزّة، أخواتها هناك يعذّبن ويقتلن، أطفالهنّ يقطّعوا بمفرمة صهيونية حادّة النصال حارقة ساحقة ماحقة، أتبقى أم حذيفة مكتوفة الأيدي مكبّلة الأقدام، لا أبدا فروح عظيمة ذات عنفوان عظيم حتما ستتحرّك الأقدام وستسير نصرة لدماء غزّة، أم حذيفة لديها أقدام لا تعرف إلا الحركة والثورة، قدمان تعرفان الطريق وتعرفان كيف تقطعه رغم وعورته وقسوة المشي فيه وعواقب من تسير فيه، ومع ذلك هناك إرادة حرّة وعزم نبيل، هناك إيمان راسخ وفكر منير وقضية عادلة وهمّة تناطح السّحاب، فهل تقيل أو تستقيل إذا كان العدوّ ذو بطش شديد.
هذه هي المعادلة التي تعود إلى جذرها كفّ بيضاء نقية شريفة عفيفة تناطح مخرزا لئيما، تصرّ هذه اليد على فعلها ويصرّ المخرز على بطشه، فلا النزال القاسي الشديد يتعبها ولا الثمن المبذول يرهقها، إنّها الروح الباسلة ذات العزم الشديد.
أمّ حذيفة وغزّة بينهما مشتركات كثيرة، العدوّ واحد ويفعل بهما ذات الفعل، الحصار والاعتقال والبطش والدمّ من الاحتلال. ومن غزّة وأم حذيفة إرادة الحياة والوقوف في وجه الجبابرة الطغاة والإصرار على الانتصار وتحقيق الحرية والسيادة ورفض الانحناء مهما كانت التضحيات، غزّة الآن تقطّع وتقتّل ويحاولون مسحها عن الوجود ومع هذا تصرّ على الحياة، وهكذا فعلوا مع أمّ حذيفة: حوصرت وقطّعت وقتلت ثم أصرّت على الحياة فكان لها الشهادة، حيث الحياة العزيزة الكريمة الخالية من شوائب هذه الحثالة البشرية السوداء.
كم مرّة اعتقل زوجها عبد الجبّار ومن أولادها كذلك فما وهنت وما جزعت بل كانت روح وحادية هذا المسار الذي اختاروه لرفض المحتلّ وكلّ تجليات فاشيته وساديته وانحطاطه، أرادوا الانتقام فكان لهم هذا الاعتقال الذي كان داميا، فجّرت سيّارة الاعتقال، هذه الآلة التي تصادر من الفلسطينيين حريتهم وكرامتهم وإنسانيتهم، بترت القدمان ثم تناولتها ماكينة الإهمال الطبّي التي لا ترى الفلسطينيّ إلا مجرما لا يستحقّ الحياة.
أمّ حذيفة بهذا الاعتقال وهذه الجريمة البشعة، تطرح أسئلة كبيرة وحسّاسة وجارحة للكبرياء، على كلّ من يملك أيّ انتماء لإسلام أو عروبة أو قدس أو حتى يملك حسّا إنسانيا: لماذا يعتقلون المرأة الفسطينية؟ ولماذا نمرّر لهم هذا الاعتقال لنسائنا وأعراضنا؟ لماذا نسكت على هذه الجريمة؟ أين ضاعت النخوة العربية والشهامة الإسلامية والكرامة الإنسانية؟ ما كان لأمّة حيّة أن تمرّر لهم هذه الجريمة.
شهادة أم حذيفة بهذه الطريقة صفعة مدوّية لهذه النخوة أو ما تبقى منها. فهل تراها تصحو أو تعود إلى نبلها ورشدها بعد هذه الجريمة..
غادرت هذه الحياة إلى بارئها شاكية ظلم هذه العصابة وكلّ من تآمر معها أو خذل أهل فلسطين، ستبقى أم حذيفة خنساء فلسطينية أثبتت خنساويتها بطريقة فذّة فريدة، ستبقى قدماها لعنة على المحتلّ وشاهدة على الاعتقال والحصار وظلم المرأة والإنسان. والله ينبّهنا ويمنحنا دفعة معنوية عظيمة عندما يبعدنا عن أيّ ظنّ أو خاطر أو مجرّد حسبان يمرّ في عقولنا سريعا: (ولا تحسبن الله غافلا عمّا يعمل الظّالمون) هذه وحدها كافية شافية.