تعدّ بلدية آث ياني التي تبعد بحوالي 35 كلم عن مقر عاصمة الولاية، مهدا لصناعة الفضة التي توارثها الأجيال أبا عن جد، فسكان المنطقة يسعون جاهدين للمحافظة على هذا الموروث الهام الذي يعكس ثقافة سكان منطقة القبائل، فارتباط السكان بهذه الصناعة التقليدية كان منذ الأزل ولا يزال متواصلا إلى غاية اليوم.
الحرفيون بمنطقة بن يني لا يزالون يحافظون على صناعة الحلي التقليدية، و يبدعون في صناعتها يدويا باستخدام أدوات تقليدية، يضفون عليها ألوان تعكس البيئة المحيطة من أصفر وأزرق وأخضر، حيث يعكس الأصفر شمس ساطعة صفراء، وتلال خضراء، وسماء زرقاء ومياه البحر المتوسط.
حكاية كفاح من أجل بقاءﺀ هذا التراث جميلا ولونا من ألوان الأصالة
في أحضان إكمالية العربي مزيان تنطلق سنويا فعاليات عيد الفضة التي تعد من بين الحرف القديمة نلتقي دائما بحرفيين حكايتهم هي كفاح من أجل بقاﺀ هذا التراث جميلا ولونا من ألوان الأصالة، وهذه حال أبناء هذه الصناعة من منطقة اث ياني التي تمارَس فيها هذه المهنة منذ سنوات، والتي تتميز بها عن غيرها من المناطق الأخرى، حيث من بين جميع الحرف والمهن القديمة فإن صناعة الفضة لها تاريخ باث ياني، إلاّ أنّ واقع هذه المهنة اليوم غير ما كانت عليها في السابق، فقد أصبحت مهددة بالزوال نتيجة عدة مشاكل حسب ما صرح به السيد محمد الذي حدثنا عن عمله الذي يمارسه منذ 30 عاما، وكان سعيدا في نقل إلينا أخبار عمل أحبه وعاش معه لحظات عمره الحلوة والمرة.
عمي محمد يقول “أنّ تاريخ هذه الحرفة بمنطقة آث ياني يعود إلى عدة سنوات، وتعتبر من أقدم الحرف”، مضيفا أنّ نساء منطقة القبائل تتزين بالحلي في الأعراس، والتي من بينها الأقراط، العقود، قلادات وخواتم، بالإضافة إلى الخلخال
وثاعصابت، وقد نمت هذه الحرفة وازدهرت إلى ما بعد استقلال الجزائر.
وكان العمل أي صناعة الحلي يقوم على تكاثف وتعاون الأسرة بكاملها، وبموازاة ذلك كانت المهنة تشكل مورد العيش الأساسي لها وهذا دليل على الطلب الكبير الذي كان موجودا عليها، وكان هناك العديد من العائلات التي مارستها وارتبط اسم المهنة بها، لكن للأسف الوضع تغيّر اليوم.
وقال محدثنا أنّ صناعة الفضة تتميز بأنها عمل يدوي يعتمد على آلات يدوية وتقليدية، حتى أن طريقة العمل لم تتغير كثيرا منذ حوالي المائة عام، وهذا ما يميز الفضة المصنوعة يدويا كإنتاج محلي عن غيرها من الفضة المستوردة من الخارج.
وفي حديثنا مع السيد محمد علمنا بأنّه يشتري الفضة خاما ويقوم بكل العمل في مشغله، فيقوم بتذويب الفضة على النار لمدة ساعة ولا يخلط فيه أي شيء، وبعد التذويب يقوم بصب الخليط لإعطائه الأشكال المختلفة، وبواسطة دولاب السحب يتم تحويلها إلى خيطان فضية قد يصل طولها إلى مائة متر وبكثافة معينة بحسب الحاجة، والتسحيب كان يتم يدويا في السابق، وتلفّ على قطع حديدية لإعطائها الشكل المطلوب ومن ثم تستخدم في الزخرفة.
والإنتاج يكون متنوعا من عقود، خواتم، أقراط وكل كيلو من الفضة ينتج حوالي 40 قطعة فضية، أما أدوات العمل فتتميز بأنها أدوات يدوية دقيقة وبعضها أدوات جد بسيطة. وللأسف أضحت اليوم لا تشكل مصدر رزق العديد من الحرفيين بسبب عدة مشاكل يواجهونها يوميا على غرار غياب المادة الأولية والمرجان.
وأشار محدّثنا أنّه في السابق كان شباب آث ياني عند فشلهم في الدراسة يجدون هذه الحرفة التي توارثها الأجداد ليواصلوا فيها، لكن اليوم يعزفون عن ممارستها.
حرفة تعكس هوية وثقافة أمازيغية
تحتل الفضة مكانة متميزة وسط العائلات القبائلية؛ فهي أساسية بين حلي النساء والفتيات، ولا يمكن الاستغناء عنها، وهنا يجدر القول أن هذه الحرفة تعتمد على مهارة الحرفي، أما طريقة العمل وأسرار المهنة فهي عند الأجيال السابقة شبه احتكار عائلي تتوارثه أبا عن جد. ويوزّع العمل داخل بعض الدكاكين الصغيرة بين الصناع، فهناك مَن يصهر المعدن، ومَن يحفر أو يرصع بالأحجار الكريمة.
وأما عن الإشكال التي ينتجها هؤلاء الصاغة فهي عبارة عن مجموعة متكاملة من الحلي، مثل الخواتم المتنوعة والأساور المختلفة والأقراط المتباينة الأحجام، والأحزمة والخلاخل.
وتستوحى الزخارف التي يعتمد عليها الصاغة لتزيين الحلي من شكلين أساسيين رأس الثعبان
والرؤوس السبعة، كما أن الطابع السائد في تزيين الحلي هي عبارة عن ثلاثة ألوان الأزرق الأخضر
والأصفر، وهو ما يضفي رونقا خاصا، وهي ألوان تعكس محيط وطبيعة بيئة السكان التي هي أصول أمازيغية.
هذه الحلي، طبعا، تستعمل في المناسبات المهمة، مثل حفلات الزواج والختان والأعياد الدينية، وبالإضافة إلى قيمتها الجمالية، تعد الحلي الفضية هذه وسيلة للادخار نظرا لقيمتها المادية.
وقد أكد لنا بعض الحرفيين ممن تحدثنا إليهم، أن عيد الفضة يعد مصدرا هاما لتسويق هذا المنتوج،
وأدى الإقبال المتزايد إلى انتعاش سوق الفضة، مقابل ركود سوق الذهب نتيجة انخفاض أسعار الأولى، وارتفاع أسعار الثانية، خصوصا أن حلي الفضة باتت تلبي أذواق النساء، بعد تحديث صناعة الفضة، وإدخال تقنيات حديثة في ترصيع الأحجار وصياغة الإكسسوارات.
كما أشار البعض الآخر إلى أن النساء في منطقة القبائل هجرن جميع أنواع حلي الذهب، وأصبحن يتزين بإكسسوارات الفضة كالأساور والأقراط والخواتم والساعات والخلاخل، وللرجال أيضا نصيب من ثروة هذه المنطقة، حيث إن أغلبهم يرتدون خواتم الزواج الفضية من صنع صاغة هذه المنطقة.
وتقول فاطمة في الأربعينات من عمرها (زبونة في معرض الفضة التقت بها “الشعب”): “لاحظنا في الفترة الأخيرة أن النساء لا يملن إلى شراء الكثير من الحلي الذهبية، والاحتفاظ بها كثروة، بل أصبح الجيل الجديد من النساء يرفعن شعار: الزينة بأقل تكلفة ممكنة، مما يؤمن لهن الظهور بمظهر جميل وبتكلفة قليلة، بينما لا تستطيع المرأة التي تشتري حلي الذهب بسبب تغير الموضة والخوف من تعليقات النساء، حين تظهر بها في أكثر من مناسبة، فتلجأ إلى شراء طقم جديد، وتقنع نفسها بفكرة ادخار المال في الذهب”.
وتشير محدثتنا إلى أن النساء يحرصن على الظهور في كامل أناقتهن فيقبلن على الحلي لتكتمل زينتهن، ومن الأفضل أن تستعمل المرأة حليا صغيرة وأنيقة على أن تستعمل حليا باهظة الثمن، ولا تمنحها الطلة الجميلة، فالتزيين لا يتطلب الكثير من المال، بقدر ما يحتاج حسن الاختيار.
ويقول عمر (صائغ حلي) “هناك إقبال كبير على شراء الفضة، بفضل التشكيلات الجديدة التي ظهرت في الأسواق، وباتت تساير الموضة العالمية”. ويضيف: «يعمل صائغو الفضة على إعادة تصنيع الحلي القديمة بصهرها لصياغة حلي جديدة، مما جعل وجود النماذج القديمة جدا أمرا نادرا».
نقص المرجان..عبء آخر
بالرغم من كون صناعة الحلي جزء لا يتجزأ من عادات وتقاليد منطقة اث ياني والقبائل ككل والتي لا تزال تحافظ عليها، إلا أن هناك مخاوف من اندثار هذه الحرفة التقليدية مع الأجيال الجديدة التي عزفت عن امتهان هذا الفن، ويرجع ذلك في جانب كبير منه إلى ارتفاع أسعار المادة الخام.
وقال مصطفى أحد المشاركين في معرض الحلي الفضية و له محل للمصوغات البربرية التقليدية خارج منطقة بني يني، أن غالبية الحرفيين هجروا هذا الفن، بدليل أنه «قبل عام 1992 كنا 396 شخصا من محترفي صناعة المصوغات إلا أن عددنا 29 شخصا فقط اليوم، والسبب في هذا ارتفاع أسعار المواد الخام والنقص في المرجان».
وتحتفل منطقة اث ياني في شهر أوت من كل سنة بعيد الفضة، وذلك منذ العام 1995. ارتبط اسم الفضة بالمنطقة وأصبح الجزائري يطلق على الفضة اسم «فضة بني يني» أو فضة القبائل نسبة للمنطقة التي تخصص لها عيدا كاملا يشارك فيه العديد من الحرفيين في مجال الفضة من مختلف مناطق الجزائر وخصوصا من الاوراس وبني ميزاب والجنوب.
لكن هذه الحرفة تعتمد على الحركة السياحية التي لا تعرفها منطقة اث ياني إلا موسميا ما يجعل عمل الحرف والمهن يكون موسميا كذلك، لذا يطالب الحرفيون بتنشيط السياحة وإقامة المعارض المحلية والدولية ما يساعد بالتعريف على الإنتاج وترويجه، ناهيك عن تشييد دار للحرف التقليدية بالمنطقة بهدف جلب السياح والذي من شأنها أن يروج لأعمال الحرفيين على مدار السنة.
ويتدخل حرفي آخر بلهجة يملؤها الحصرة، للأسف هذه المهنة اليوم في دائرة الخطر ومهددة بالزوال، ولا يختلف واقعها عن غيرها من الحرف الأخرى، لذا نطالب من وزارتي الثقافة والسياحة بالاهتمام بحرفهم والمحافظة عليها ومساعدتهم في التعريف عن إنتاجهم وتسويقه.
وفي السياق ذاته، يقول السيد خالد يشتغل في صناعة الفضة منذ أزيد من 40 سنة: «لقد عشقت هذه الحرفة كون والدي كان يشتغل فيها، انطلاقي في البداية كان بهدف مساعدة والدي فقط، ثم أحببت هذه الصناعة وبدأت في العمل بها لكن للأسف لو قارننا هذه الحرفة بالسنوات السابقة لكشفنا العديد من الصعوبات التي يواجهها الحرفي أثناء عمله، والتي من بينها غياب المادة الأولية خاصة المرجان أين نلجأ إلى استيراده بأثمان جد غالية».
إلى جانب ذلك، فإن الحرفي الذي لا حول ولا قوة له يعاني من معوقات إدارية أوصدت الأبواب في وجهه على غرار مشكل الضرائب، وكذا تعقيد الملفات الإدارية التي يواجهها يوميا أثناء مزاولة عمله، فيجب على الدولة مساعدتهم وإعفائهم من الضرائب خاصة أن دخلهم يعد ضئيلا جدا، فالوزارة من واجبها أن تحافظ على هذه الحرفة، مشيرا في كلمته أن الجزائر تعد البلد الوحيد مقارنة بالدول الأجنبية التي لا يحفظ فيها حقوق الحرفي، فيجب ترك الحرفي في فنه واحترافيته وكذا للإبداع بدل إقحامه في المشاكل الإدارية والملفات التي تعد معقدة بالنسبة لهم.
مستقبل الحرفي مرهون بضمانات تسمح له بالبقاء والاستمرارية
أخبرنا بعض الحرفيين أن مستقبل الحرفي أصبح اليوم في خطر، خاصة انه يعاني من التهميش من طرف المسؤولين الذين لا يأخذون مطالبه ـ حسبهم ـ محل الجد، ما جعل العديد منهم يتركون هذه الحرفة، مما أثر بشكل سلبي على صناعة الحلي الفضية، وهذا على الرغم من كون قطاع الحلي الفضية من القطاعات المنظمة بالمنطقة بهدف الحفاظ عليها.
ويسعى سكان بن يني من خلال تنظيم عيد الفضة لتسويق منتوج هؤلاء الحرفيين، والحفاظ على هذه الحرفة، لكن غياب الأمن كما أشار البعض ممن كان لنا حديثا مطولا معهم، سبب في عدم تسويق المنتوج، ناهيك عن غياب المرجان والمادة الخام، ما سبب هجرة الشباب وعزوفهم عن الحفاظ على هذا الموروث الثقافي الهام، مما يهدد صناعة الحلي بالزوال، فهم يفضلون مهن يمكنها أن تكون مصدر رزقهم.
ويقول البعض أن هذه السنة وبعد الاستقرار المسجل بالمنطقة، فإن عيد الفضة سجل تحسنا كبيرا خاصة نتيجة التوافد الكبير من المواطنين والزوار، فيسجل يوميا حوالي 2000 زائر والعدد مرشح للارتفاع، فصناعة الفضة بمنطقة اث ياني مرهون كذلك بالوضع الأمني حسب العديد من الحرفيين، فغياب السياحة وهروب الزبائن يثير المخاوف في تسويق هذه الصناعة، ففي سنوات الثمانينات كانت المنطقة تعج بالزوار لاقتناء مختلف الحلي الفضية، لكن نتيجة العشرية السوداء وسنوات الإرهاب فقد أصبح التنقل جد خطر، فما يمكننا قوله أن هذه الحرفة مرهونة بعدة تفاصيل أخرى كالأمن، ناهيك عن إنجاز سوق أو دار للصناعات التقليدية بالمنطقة لتسويق المنتوج.