سعيدة.. مهد حضارات زاهرة.. هذا ما تثبته خريطة المواقع الأثرية والمعالم التاريخية التي تزخر بها.. مواقع تعود إلى حقب زمنية تغوص فيما قبل التاريخ، وتنبثق في العصور الحديثة.. وهو ما أكّدته الدراسات من خلال تحقيق الديوان الوطني للممتلكات الثقافية الذي أحصى أكثر من 147 موقعاً أثرياً يعود إلى مختلف الحقب.
تتوفر ولاية سعيدة على أربعة مواقع مصنّفة وطنياً، وهي “مغارة واد سعيدة”، “موقع عين المانعة”، “مغارات تيفريت”، التي تعود إلى ما قبل التاريخ، بالإضافة إلى موقع “تيمزيوين الروماني”. ناهيك عن المعلم التاريخي المتمثل في “مقر بلدية سعيدة القديم” الذي حصل على التصنيف مؤخراً من طرف اللجنة الوطنية للممتلكات الثقافية في دورة جويلية 2024.
ونظراً للخصائص الجغرافية والمناخية التي تتميز بها الجزائر، وتوفرها على مؤهّلات وثروات طبيعية هامة، فقد كانت – في العصور القديمة - ملجأً للتوافد الروماني نظراً للانعكاسات الاقتصادية والمعيشية التي مسّت العالم وقتها..
وكان لمدينة سعيدة دورها الكبير في التاريخ، وموقع “لوكي الروماني” الذي يقع بقرية “معاطة” ببلدية يوب، ويبعد عن مركز مقر هذه البلدية بعشرة كيلومترات على الطريق الولائي رقم 15 بوادي بوبور، حيث يوجد حصن تيمزوين، وهو عبارة عن ثكنة عسكرية محصّنة بسور مزدوج، ترتفع عند أسفل السور الثاني أثار بناية تشبه المعبد أو الكنيسة، ويحدث عن أحداث تاريخية ملهمة شهدتها المنطقة.
في أسفل البناية، توجد بقايا بنيت بواسطة قطع حجرية كبيرة الحجم، تشبه خزان ماء أو حوض كبير، وقد قام الباحث الفرنسي “إيفان لوبلان” بحفرية في الموقع، وتم العثور على أحجار “الميتراك” وقطع ألواح خشبية وزجاجية، بالإضافة إلى عدة قطع نقدية قديمة.
لوكـي.. حـصـن شـاهد على التـاريـخ
كان الموقع الأثري لوكي بتيمزوين من أهم الحصون العسكرية الثابتة بالمناطق الغربية من موريتانيا القيصرية، حيث بنيت الثكنة من طرف الفوج الأول المعروف ببانونيا في عهد الإمبراطور الروماني سيبتميوس سيفيروس 193-211 م، وأصبح هذا الحصن مهجوراً في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع الميلادي، ويمثل مواصفات حصن “خط الليمس”، الذي كان عبارة عن نظام دفاعي قوي يحتوي على ثلاثة عناصر أساسية: فوساتوم أي خندق، بأسوار وحصون أو قلاع صغيرة من الناحيتين الأمامية والخلفية وعناصر محصّنة ومعزولة، بالإضافة إلى شبكة طرق تصل مختلف المواقع ببعضها، وبذلك كان “الليمس” نوعا من التحصينات الحدودية، لأنّه كان يحيط بالأقاليم المحتلة فعليا من طرف الرومان ويميّزها عن غيرها من الأقاليم.
تـأهيل المـوقع
يعمل قطاع الثقافة لولاية سعيدة جاهداً على إعادة تأهيل هذا الموقع الذي يتربّع على مساحة كبيرة تفوق عشرة هكتارات، وقد مسّت عملية الترميم الأجزاء المتبقية من الموقع، وهي الحمامات وأحواض الترسيب والخزّانات المائية.
عملية الترميم تمت تحت إشراف مكتب دراسات معتمد من طرف وزارة الثقافة، قام بمتابعة وتوجيه العملية، وقد مسّت الترميمات الدعامات والأساسات والأسطح لمنع التدهور والمحافظة على الموقع للأجيال اللاحقة.
تعتبر النقوش الأثرية على القبور شواهد هامة، وقد تمت دراستها منذ خط الليمس إلى آلهة الأرواح والأباطرة، كما يمكن أن يكون الموقع مقبرة نظراً لوجود عدّة منشآت، حيث تتم في كلّ مرة اكتشافات جديدة، يقوم متحف الموقع بعرضها للسياح.
مسّت عملية الترميم، أيضا، سطوح الجدران وتلبيسها لمنع التناثر بسبب الأمطار، حيث تم التركيز على عدم تدهور الأجزاء المتبقية من الموقع الذي يتواجد بالضبط على ضفاف “واد بربور” بقرية “معاطة” ببلدية “يوب”، ويتربّع على مساحة شاسعة تحتوي على عدّة منشآت وأحواض لخزّانات المياه والحمامات، فولاية سعيدة تتميّز بموقع جغرافي متميّز، حيث يتعانق فيها المجد والتاريخ، ممّا جعلها قبلة للجميع والمكان المفضّل للزوار والسياح، يجسّد ماضيها القديم آثار القصور المتواجدة بها، والتي ظلت شامخة تحفظ ماضيها.
تبعد هذه القصور مسافات قليلة ومتقاربة على ضفاف الوادي، وفي حديثه مع “الشعب”، أكّد الباحث حري سعدي أنّ سكان تيمزوين بذات القرية، مارسوا نشاطاتهم اليومية في الزراعة. ومن بين هذه النشاطات زراعة الشعير المنتشرة على نطاق واسع، بالإضافة إلى زراعة القمح الذي يتم تصديره إلى إيطاليا.
رغم مشاركتهم في الحملات العسكرية وفرض الضريبة السنوية على المزارعين، إلا أنّ المساحات الشاسعة كانت غنية بالغابات الكثيفة وأسماك الأحجار الكبيرة، كما أشار الباحث إلى المعلم الأثري الذي يعود تاريخه إلى عدّة قرون، حيث تتجمّع داخله مساكن متراكمة متماسكة تحيط بها أسوار عالية، ومنازل متشابهة، وفي الطابق السفلي تخصّص الحجرات لكلّ ما هو متعلق بأدوات الإنتاج الزراعي ومخزن المؤونة.
يقول الباحث إنّ الآثار الرومانية لا تزال شاهدة على الطابع العمراني المميّز، ممّا يجعل ولاية سعيدة مرشحة لتصبح قطبًا للسياحة العالمية، ويبقى الموقع محلّ اهتمام للحفاظ على الأجزاء المتبقية منه، وقد يكون هناك بنايات أخرى تحت الأرض أو الأنقاض. يوصي الباحثون بالقيام بحفريات إضافية لمعرفة ما هو موجود، مثل المعابد أو الكنائس والسكنات المدنية أو العسكرية.
اعتبر الباحث حري سعدي محافظ منسّق تراث ثقافي بمديرية الثقافة لولاية سعيدة، هذا الجهد من جريدة “الشعب” التفاتة هامة للتراث الثقافي والحفاظ على الذاكرة الوطنية. واعتبرها فرصة لتحيين ومعرفة الأضرار ولتشجيع الزيارات المتتالية للطلبة والتلاميذ والباحثين والمهتمين بالتراث الثقافي، مشيرا إلى أنّ مديرية الثقافة تعمل على قدم وساق لإعادة الاعتبار لكلّ التراث الثقافي الذي تزخر به الولاية.