تكويــن مجتمع مدنـي واعٍ... درع حـامٍ للهوّيــة والسيـــادة الوطنيــة
الحديث عن التحوّل الرقمي حديث عن ضرورة بناء مجتمع مدني قادر على مسايرة هذا النظام الذي أدخل العالم في نموذج حياة موّحد، والذي لا يمكن بأي حال من الأحوال لنا كدولة محورية في منطقتنا إلا مواكبة هذه التطوّرات على اعتبار أن الاستثمار الأساسي يكمن في الفرد الواعي بواجباته وحقوقه في هذا العالم الافتراضي، وهذا بطبيعة الحال يمثل صورة واعدة من صور الجزائر الجديدة التي تتغير، بحسب ما أكده الخبير في الرقمنة د. حسان درار والأستاذ المحاضر بالمدرسة العليا الوطنية للمناجمنت في حديث لـ “الشعب” على اعتبار أن بلادنا تتطوّر في عالم متجدّد باستمرار الثابت الوحيد فيه هو التغيّر والتطوّر.
أوضح د. درار العالم يعيش عصر التكنولوجيات والاتصال والتدفق العالي للمعلومات، بكل ما يحمله هذا الواقع من انعكاسات على مجمع الحياة العامة، بعدما كان القرن الماضي عهد التنظيم والإدارة، بكل ما عرفته النظم الإدارية من تطور نوعي غـير مسبوق، والناجم بالأساس عن بروز وتبلور مفهوم الدولة الاجتماعية حتى في عمق النظم التي كثيرا ما تبنّت مبدأ الدولة المراقبة غير المتدخلة، في حين يعرف العالم في القرن الـ 21 جملة من التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية استوجبت وضع آليات جديدة لتأطيرها ضمن النمط التكنولوجي المفروض، بما يضمن لها التعايش مع هذا النمط المعلوماتي أولا، وبلوغ الهدف المرجو المتمثل في تحقيق التنمية الشاملة لضمان استمرارية تلبية الحاجيات الاجتماعية، وترقية الخدمات العمومية في مرحلة ثانية.
رقمنة وتحسين الخدمة العمومية لتلبية الطلب المجتمعي
واعتبر المتحدّث أن الجزائر جزء من المنظومة العالـمية بكل ما لهذه المنظومة من تأثير، بحيث سعت إلى انتهاج التجديد والعصرنة لمواكبة هذه الموجة العابرة للحدود والقارات غيـر أن الواقع ما زال يبرز الحاجة الكبيرة إلى المزيد من العمل لتحقيق الغايات المطلوبة ولو مرحليا، مشيرا إلى أن هذه التحوّلات دفعت السلطات العمومية إلى وضع آليات ترتكز أساسا على استعمال الوسائل الحديثة المادية منها والبشرية لتكون القاطرة الـتي تخوض بها عملية تحسين وتعزيز الإدارة العمومية الجزائرية والقفز بها إلى مستوى المثالية.
وأشار المتحدّث أن التوجه الذي أقرّه رئيس الجمهورية في تعميم أنماط التسيير الرقمي والمعلوماتية يهدف بالخصوص إلى عصرنة المرفق العام بالدرجة الأولى، بشكل يمسّ الجانب الهيكلي مثلما تمسّ أيضا الجانب البشري، حيث تجعل من هذا النمط جزءًا من ثقافتنا المؤسساتية، وفي مرحلة ثانية جزءًا من ثقافتنا الاجتماعية والفردية أيضا.ويرى د. درار أن كل ذلك يندرج في مسعى تلبية متطلبات المجتمع وتحسين الخدمات العمومية في الإطار التنظيمي المحدّد لهذا الغرض، قائلا: “إذا كان من الواجب الإقرار بأن هذه العملية قد مكنّتنا خلال السنوات الأخيرة من تحقيق مكاسب نوعية، بالخصوص في مجال التسيير الإداري، من خلال رقمنة الكثير من النشاطات القطاعية والعديد من الخدمات العمومية، إلا أن الوضع مازال يستلزم جهودا أكبر ومساعي أفضل للرقّي بالرقمنة إلى مستوى أعلى وفقا لما تقتضيه التحدّيات المتزايدة وما ينجلي عن التجارب المعاشة.”
وبحسب الأستاذ المحاضر بالمدرسة العليا الوطنية للمناجمنت فإن هذه المعاينة ليست سوى وليدة واقع تأثر بعدة نقائص أهمها إشكالية الوعي العام المتمثل في عدم الاقتناع بفكر وثقافة الإدارة الالكترونية وعدم القدرة على التخلي على نمط الإدارة التقليدية البيروقراطية إضافة إلى مشاكل ذات صلة بالأمن المعلوماتي سيما مخاطر اختراق المنظومة المعلوماتية، ناهيك عن ترسيخ النظام التقليدي فكرا وممارسة لدى بعض المتعاملين العموميين والخواص وعدم القدرة وربما الرغبة أيضا في مجاراة التحوّلات والتطوّرات الرقمية في العالم، إلى جانب نقص العمل التوعوي والإعلامي الموجّه لتعميم فكر الرقمنة لدى عامة المواطنين.
بنـاء مجتمع رقمي هادف يسرّع التحــوّل
ويؤكّد د. درار أنّه أمام أهمية هذا المجال، وشدّة الحاجة الماسة لمجتمعنا للاندماج في الرقمنة بشكل أوسع وأسرع في آن واحد، قصد تقليص الفارق الرقمي ولما لا تداركه، فإنه يستوجب مواكبة هذه التغيرات العميقة في مجتمعنا وفي ثقافته عن طريق العمل في بناء مجتمع رقمي هادف من شأنه دعم جهود الدولة في الإسراع في إنجاح التحوّل الرقمي المنشود، مما يستدعي - بحسبه - إحداث ثورة ذهنية توعوية وتكوينية وتعليمية لدى المجتمع المدني حتى يكون الدرع الحامي للهوية والسيادة الوطنية، مشيرا إلى أن الجزائر تزخر بالكفاءات والطاقات الشبانية ذات الميول لعالم الرقمنة إلى درجة وجود ثروة معتبرة من المؤهلات ذات القدرة العالية، وهي الثروة التي تستدعي تأطيرا وتأهيلا مناسبين - على حد قوله - حتى نجعل منها الوعاء الحقيقي لإنجاح هذا التحوّل.
إعداد مخطط عمل يرسّخ المواطنة الرقمية كمرجع
وبحسب الأستاذ فإنه أصبح ضروريا أكثر من أيّ وقت مضى مجابهة التحدّيات التي يفرضها الوضع الراهن، وذلك عن طريق إعداد مخطط عمل يكون بمثابة مرجع لترسيخ المواطنة الرقمية على أسس المُكتسبات المُحقّقة والعقبات التي ينبغي تجنّبها، حيث يضطلع هذا المخطط بشكل أساسي إلى وضع آليات من شأنها ضمان تعاون والتنسيق بين جميع الجهات الفاعلة من المؤسسات، والشركات والكفاءات والمواطنين..، وذلك بهدف إقحام كافة شرائح المجتمع في سياسة الرقمنة باعتباره عنصر فعّال في عملية التوعية وتعميم أهداف الرقمنة لدى عموم المواطنين.
وأشار محدّثنا أن المواطنة الرقمية التي تعني القدرة على الاستخدام الآمن والمسؤول للتكنولوجيا والمشاركة الفعّالة في الحياة الرقمية، تمثل الآلية الآمنة للتنقل في العالم الافتراضي، حيث تقوم أساسا على فهم الحقوق والواجبات على الإنترنت بنفس القدر الذي نفعله في العالم الواقعي، وبما أن القدرة على الوصول إلى المعلومات والتعبير عن الآراء والمشاركة في الحوارات الرقمية تعتبر حقوقا أساسية، فمن الجدير بالذكر أن نشير إلى هذه الحقوق تأتي مع واجبات مسأوية، مثل الالتزام بقوانين الإنترنت واحترام خصوصية الآخرين.
وعليه فترسيخ مواطنة رقمية هادفة يواجه العديد من التحدّيات أهمها الخصوصية وأمان البيانات، حيث يجب على المواطن الرقمي أن يكون حذرا عند مشاركة معلوماته الشخصية عبر الإنترنت وأن يكون على علم بالقوانين المتعلقة بتأمين البيانات، إلى جانب ذلك، يجب على المواطن في هذا الفضاء الرقمي أن يكون قادرا على التمييز بين المعلومات الموثوقة وتلك التي ليس لها أساس من الصحة والمساهمة في الحفاظ على هويته الوطنية والمشاركة في حماية السيادة الوطنية هذا من جهة، ومن جهة أخرى توفر المواطنة الرقمية أيضا فرصا كبيرة، تمكن للأفراد والمجتمع من استخدام الإنترنت كوسيلة للتعلّم وتطوير المهارات، وأيضا للمشاركة في الأعمال الاجتماعية والنشاطات السياسية.
التصرّف بمسؤولية لضمان استدامة العالم الرقمي
وبحسب درار فالمواطنة الرقمية ليست مجرد مسألة فردية، بل هي مسألة اجتماعية تؤثر على المجتمع بأكمله، خاصّة وأن فهم الحقوق والواجبات في العالم الرقمي والتصرف بمسؤولية فيه هو أمر حاسم لضمان استدامة العالم الرقمي والمساهمة في تحقيق التقدم والتنمية، إذا علمنا أن أبرز جوانب المواطنة الرقمية تطوير الوعي الرقمي، والذي يتضمن فهم الخصوصيات الرقمية ومكافحة الإعلام الكاذب والفهم السليم للحقوق والواجبات الرقمية.
ويلخّص د. درار المواطنة الرقمية في مجموعة المبادئ والسلوكيات التي يمارسها المواطن الرقمي بالعالم الافتراضي، والتي تمثّل معايير التطوير المستمر للاستخدام المناسب والمسؤول والمتمكن للتكنولوجيا، ومن أجل تحقيق العناصر المكوّنة للمواطنة الرقمية، يجب الارتكاز على محاور أساسية تتعلق بتشجيع والتكفل بالمبادرات الهادفة لإنشاء فضاءات رقمية عن طريق وضع منصّات رقمية حول التحسيس والتوعية في الاستعمال الأمثل للتكنولوجيات الرقمية، التوعية حول القوانين والتنظيمات المتعلقة بالرقمنة في المعاملات، إلى جانب إقحام المجتمع المدني في سياسة الرقمنة باعتباره عنصر فعّال في عملية التوعية وتعميم أهداف الرقمنة لدى عموم الـمواطنين، وتشجيع الفكر الإبداعي في التكفل بجميع الإشكالات الـتي من شأنها إعاقة سياسة الرقمنة بمفهومها الشامل.
في المقابل يرى أستاذ محاضر بالمدرسة العليا الوطنية للمناجمنت أن محور الحماية والمتعلق بالأساس بالأمن المعلوماتي والبيانات من أجل الحفاظ على سيادة الوطنية، يشكّل أهم المحاور التي ترتكز عليها المواطنة الرقمية، حيث تواجه جميع الدول عبر العالم تهديدات لأمنها وسيادتها الوطنيتين بسبب انتشار الإنترنت والعولمة وكذا الاستعمال المفرط لشبكات التواصل الاجتماعي وتكنولوجيات الرقمنة، وذلك عن طريق استعمال الإنترنت لاختراق نقاط الضعف في الأنظمة والشبكات والبنى التحتية.
تزايـد الجرائم والهجمـات الإلكترونيــة..
وأكد الخبير في الرقمنة أن الكثير من المؤسسات والمنشآت الصناعية في جميع أنحاء العالم تواجه تهديدات متزايدة من الجرائم الإلكترونية المتطوّرة، والجزائر ليست بمنآى من هذه الجرائم، حيث تظهر إحصائيات الدرك الوطني بخصوص الجرائم الإلكترونية في الجزائر ارتفاعا في السنوات الثلاث الماضية. فقد ارتفعت حالات “الجرائم الإلكترونية” (بين شكاوى الضحايا والبلاغات) بنسبة 38.30٪ العام الماضي، من 2838 قضية في عام 2021 إلى 4600 قضية في عام 2022، وخلال شهري جانفي وفيفري 2023 فقط، تمّ الإبلاغ عن أكثر من 500 قضية مرتبطة بهذا النوع من الجرائم.
وبحسب المتحدّث تستهدف الهجمات الإلكترونية بشكلٍ أساسي الخصوصية والبيانات الشخصية للأفراد، حيث وصلت في عام 2022 إلى أرقام كبيرة تتراوح بين 65 و75٪ من القضايا التي تعاملت معها عناصر الدرك الوطني، فيما ترتبط باقي القضايا المعالجة باختراق أجهزة الكمبيوتر أو الشبكات أو الأجهزة المتصلة بالشبكة، بالإضافة إلى حالات تمسّ بالأمن والنظام العام.
ومن بين الأسباب المشجّعة لهذا الارتفاع المستمر في الجرائم الإلكترونية سوء فهم أو تفسير خاطئ من قبل بعض المواطنين لمفهوم مثل هكذا جرائم والقوانين المتعلقة بهذا المجال، حيث ينطبق ذلك على سبيل المثال على الأشخاص الذين يشاركون أو يعيدون نشر بعض المحتويات التي تعتبر مسيئة أو إجرامية دون نية الإضرار في الكثير من الحالات ممّا لا يعفي مرتكب مثل هذه السلوكيات من المتابعات القضائية.
إجـراءات عديـدة لتعزيـز الأمـن المعلوماتـي بالجزائـر
ولتعزيز الأمن المعلوماتي بالجزائر أشار د. درار إلى أن السلطات العليا للبلاد قامت بالعديد من الإجراءات في هذا الإطار، حيث كرسّ دستور 2020، ولا سيما في مادته 47، حقّ حماية البيانات وسلامتها، وذلك صونا للحرية الفردية والحياة الخاصة، ولضمان هذا الحقّ، قام رئيس الجمهورية، في 11 أوت 2022، باستحداث السلطة الوطنية لحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، وبناء عليه، دخل قانون رقم 18-07 المتعلق بحماية الأشخاص الطبيعيين في مجال معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي حيّز التنفيذ في 10 أوت 2023. حيث يحدّد هذا القانون التزامات مسؤول معالجة المعطيات الشخصية، وحقوق الشخص المعني بمعالجة هذه البيانات.وتم تفعيل الوكالة الوطنية لأمن الأنظمة المعلوماتية التي من أبرز مهامها إعداد ومتابعة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لأمن الأنظمة المعلوماتية، وسيكون لهذه الوكالة - بحسب المتحدّث - دورا بالغ الأهمية في نشر الوعي بأهمية الأمن السيبراني بين مختلف فئات المجتمع، مما سيساهم في تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في مجال الأمن السيبراني وذلك عن طريق تبادل الخبرات والمعلومات وتطوير حلول مشتركة لحماية المؤسسات من التهديدات الإلكترونية.وإلى جانب ذلك تم إنشاء المدرسة الوطنية العليا للأمن السيبراني في الجزائر والتي تعتبر خطوة هامة نحو تعزيز الأمن السيبراني في البلاد، حيث ينتظر أن تساعد هذه المدرسة في سدّ النقص الحاد في المهارات المتخصصة في المجال من خلال تكوين كفاءات مؤهلة قادرة على حماية الأنظمة المعلوماتية من التهديدات الإلكترونية، وتوفير بيئة مناسبة للبحث والتطوير في مجال الأمن السيبراني، لاسيما في تطوير حلول مبتكرة لحماية المعلومات من التهديدات الإلكترونية المتطوّرة.في المقابل يرى د. درار أن التحسيس والترسيخ لمواطنة رقمية هادفة يبقى من أبرز العوامل التي تساعد في مواجهة التحدّيات المتعلقة بأمن المعلومات وبالتالي ضمان السيادة الرقمية، لأنه لا يمكن حماية الأنظمة المعلوماتية ومكافحة ظاهرة الجرائم الإلكترونية دون مشاركة قوّية من المجتمع المدني ووعي عام بمخاطر هذا النوع من الجرائم مما يستوجب نشر وتعزيز الوعي الأمني بين المواطنين، وذلك من خلال البرامج التدريبية بتقديم برامج تدريبية حول أساسيات الأمن الإلكتروني والتهديدات الشائعة، وإطلاق حملات التوعية لزيادة وعي المواطنين بالتحدّيات الأمنية وأهمية حماية البيانات والأنظمة، ناهيك عن وضع لدى المؤسسات العامة والخاصة سياسات أمن معلومات واضحة ومفهومة يلتزم بها الجميع وتبني برنامج الإبلاغ عن المخالفات والأنشطة المشبوهة سواء لدى المواطنين أو المؤسسات.