استمرت المعركة بضراوة كبيرة، وتمكن المجاهدون في نهايتها من الخروج من ميدان القتال الرئيسي واتجهوا إلى مرتفعات كاف النسورة شمالا، بعد النجاح في إلحاق خسائر فادحة في صفوف وحدات الجيش الاستعماري الفرنسي التي فقدت جنودها بين قتلى وجرحى بلغ مجموعهم أكثر من 50 قتيلا وما يساويهم جرحى ومصابون مثلما أكدت جريدة المجاهد التي تناولت النتائج التي أسفرت عنها معركة الجرف الثانية، والإنجازات التي حققها المجاهدون فيها.
..لكن، اعترف أحد أكابر الضباط الفرنسيين أن المعركة أسفرت عن ثلاثمائة وأربعة وسبعين قتيلا بينهم عدة ضباط وعن المئات من الجرحى، في مقابل استشهاد ثمانية وجرح واحد وعشرين من مجاهدي جيش التحرير الوطني. ومن المحقق أن الجزائريين أسقطوا في تلك المعركة 06 هيلكوبترات سكرسكي وطائرة مطاردة تندربلت، وعطبوا طائرة من نوع «بيبركب» إضافة إلى حرق سبع سيارات معدة لنقل الرجال والعتاد، وقد اعترف رؤساء الاستعمار أنفسهم أن طائرة هيلكوبتر واحدة تساوي فريقا من الجنود، ما يمكّن من تقدير أهمية ما لحق القوات الفرنسية من خسائر فادحة في يوم الجرف التاريخي.
ورغم حدة القتال، كانت الإصابات قليلة في صفوف المجاهدين، حيث لم تتجاوز خمس إصابات لحقت بكل من المجاهدين حاجي الطاهر سلطان الشامخي قواسمية بشير بن المكي، تومي فرحات، والطيب بن سلطان علوان، يضاف إليها استشهاد المجاهد عمار الذي ينحدر من فرقة أولاد أحمد بن عيسى.
من جانب آخر، يمكننا الوقوف على قوّة المعركة ونجاح المجاهدين في تحقيق نتائج إيجابية وباهرة فيها، وتقويض وإفشال مخططات قيادة الجيش الاستعماري من خلال تصريحات بعض الضباط الفرنسيين الذين عبروا عن خيبة أملهم، ولعلّ أبرزها تصريح الجنرال فانسكيم للصحفي كلود دلماس والذي جاء فيه الآتي:
بالنسبة للتسليح الذي مكن هؤلاء الرجال من مهاجمة طائرات الهيلوكوبتر، فهو يأتي مباشرة من ليبيا، أخيرا، تضع الظروف الجغرافية لهذه المعارك أحد الجوانب الرئيسية للمشكلة وهي إغاثة الجرحى فهي عقبة لا يمكن التغلب عليها إلا إذا كانت قواتنا عددها كاف يسمح لها بالتطويق.
ثم يأتي تصريح الجنرال فرانسوا الذي قال فيه: في صباح يوم07 أفريل، عاد الصمت ومعه خيبة أملنا وحزننا.
أما الملازم جان، فقد اعتبر - من جانبه - بأن هذه القضية بالنسبة للفرنسيين ليست سوى نصف نجاح. فبعد نهاية القتال خسرت القوات الفرنسية 47 جنديا وجرحا 50 معظمهم خلال الاشتباكات الأولى، و 130 ثائرا قتلوا.. في محاولة لتضخيم عدد الجزائريين الشهداء بالمعركة.
أصـداء المعركـة في الصحافـة الاستعماريـة
خلّفت معركة الجرف الثانية صدى قوّيا في وسط الصحافة الاستعمارية الفرنسية التي واكبت تطوراتها، وقد حاول الصحفيون من خلال التقارير التي نشروها التقليل من الخسائر الفادحة التي لحقت بصفوف القوات الفرنسية، وتضخيم الخسائر في صفوف المجاهدين، وهذا ما عبرت عنه جريدة المجاهد بالقول: لقد تناقضت البلاغات في تفاصيل هذه الواقعة وحاولت الجرائد المزيفة تخفيف ما تكبده فيها الأعداء من خسائر، ويمكن استعراض بعض النماذج من المقالات التي تناولت المعركة، وهي المنشورة في جريدتي الكومبا وصدى وهران التي تؤكد الطرح الذي ذهبت إليه جريدة المجاهد:
جريـــدة الكومبــا
تناولت الجريدة مجريات المعركة في ثلاثة أعداد متتالية، والتي جاء فيها:
عدد 08 أفريل 1956: اشتباك عنيف شرق النمامشة.. الجزائر 06 أفريل، وقع أمس اشتباك مهم في المنطقة الواقعة على بعد 05 كيلومترات شمال الجرف شرقي سلسلة جبال النمامشة بين دورية تم نقلها من مركز الجرف وعصابة قوّية من الخارجين عن القانون.
تشير المعلومات الواردة حتى الآن إلى أن خسائر كبيرة من كلا الجانبين، تم تدمير إحدى الشاحنات واشتعلت فيها النيران جزئيا. تم إرسال التعزيزات إلى مكان الحادث في الساعات الأولى من صباح اليوم. كما تجري حاليا اشتباكات عنيفة في المنطقة الواقعة على بعد 06 كيلومترات جنوب شرق المزرعة، حيث تم الاشتباك مع الفرقة التي تمت متابعتها من قبل قواتنا.
عدد 09 أفريل 1956 تنظيف منطقة النمامشة في اللمامشة، استمرت الاشتباكات التي بدأت يوم 05 أفريل في منطقة المزرعة بين وحداتنا وعصابات المتمردين القوية طوال يوم 06 أفريل وبعدها مرة أخرى، تم الاشتباك مع فرقتين ثائرتين تم تطويقهما خلال الليل في مكان يبعد حوالي 10 كيلومترات جنوب شرق المزرعة.
في 07 أفريل، جمعنا المعلومات التالية من مصادر رسمية حول الاشتباكات التي استمرت مساء السبت في منطقة المزرعة. من جانب الثوار الخسائر أشد بكثير، على نحو فعال، يوم 07 أفريل بعد الظهر، تم إحصاء 20 جثة على الأرض، كما أن الخارجين عن القانون يضطرون أحيانا إلى أخذ موتاهم. العدد يثبت فاعلية قواتنا وحربنا العنيفة اضطرت طائرتا هليكوبتر إلى الهبوط اضطراريا.. الجنود والطاقم بأمان وقد تم استرداد الطائرتين. وبدعم فعال من القوات الجوّية تتواصل الغارات حول القمم التي تهيمن على منطقة المزرعة، وتجدر الإشارة إلى أن البحث المنهجي سيستغرق عدة أيام بسبب جغرافية المنطقة شديدة الصعوبة خصوصا أنها مليئة بالصدوع التي يتحصن فيها المتمردون.!!!
عدد 10 أفريل 1956: انتهى القتال في الجرف بالمزرعة يوم 08 أفريل.. يمكن تقديم التقرير التالي مع الأخذ في الاعتبار أن أعمال البحث لم تكتمل بالكامل من جانب القوات الفرنسية، هناك حوالي عشرين قتيلاً وثلاثين جريحًا غالبية هذه الخسائر تم تكبدها خلال المواجهات الأولى حيث تمت مهاجمة الوحدة المنقولة، تسبب القتال في الأيام التالية في تكبد القوات الفرنسية المشاركة خسائر طفيفة، تبدو خسائر الثوار مهمة للغاية، كما لوحظ أثناء البحث الذي أعقب العملية. تم العثور على أكثر من ستين جثة في الميدان من المؤكد وفقا للآثار التي خلفتها المعركة، أنه تقرير عن نتائج القتال في النمامشة يقول المكتب الإقليمي للعمل النفسي:
يمكننا تقييم عدد جثت الثوار الذين أزيلت جثثهم أو دفنوا كما تم استعادة عدد كبير من الأسلحة الحربية، كما تم ضبط وثائق مهمة.
جريــدة صــدى وهـران..
من جانبها، خصصت جريدة صدى وهران في عددها الصادر يوم 08 أفريل 1956 حيزا تناولت فيه أخبار معركة الجرف الثانية، أي بعد مضي أربعة أيام على بدايتها، وجاء في العنوان الذي كتب بالبنط العريض: معارك ضارية في قسنطينة مقتل مائة متمرد في الجرف المزرعة.. نأسف لمقتل 22 قتيلا وواحدا في عداد المفقودين و20 جريحا في صفوف قوى الأمن..
وقالت الصحيفة إن المعركة في الجرف المزرعة كانت صعبة، حيث تم تقطيع مجموعتين كبيرتين إلى أشلاء، ولكن لم يكن من الممكن تحديد الرقم الدقيق لخسائرهم بدقة نظرا لحرص القيادة المحلية على عدم الإشارة إلى أنهم قتلوا بشكل مؤكد الخصم الذي تعافى كان على الأرض. ومع ذلك فإن التقديرات الأولى المقدمة مع جميع التحفظات، ستؤدي إلى أكثر من مائة يمثلون عدد القتلى من المتمردين.. يستمر العمل في هذه المنطقة ومن المتوقع أن يتم قتل العديد من الخارجين عن القانون. ونحن نأسف للخسارة، في صفوف قوى الأمن قتل ضابطان و22 رجلا وفقدان واحد وجرح 20.
جريـدة المجاهد.. لسـان الصـدق..
لم تفوت جريدة المجاهد وصف المعركة، واستخرجت بعض الدروس المستقاة منها، وأشارت إلى فشل مرتزقة الاستعمار وتخاذلهم وبراءة الله منهم. وإنه يحق للشعب الجزائري ولجيش التحرير الوطني أن يفتخرا بيوم الجرف، فإن هذا الانتصار والعشرات من الانتصارات التي تقدمته ومن التي سنحصل عليها إن شاء الله عن قريب، يقوي عزم أبناء وطننا خصوصا وقد بدت في أفقه بشائر الفوز، وأشرق نور عهد جديد، عهد الحرية والسعادة والهناء.
وإذا كان بعض الفرنسيين من أقطاب السياسة والعسكرية – تقول المجاهد – ما زالوا يشكون في نجاح الثورة الجزائرية الحالية، فإن انهزامهم بالجرف ذلك الانهزام الذي تلا انهزامات عدة يريهم لو كانوا يبصرون أن محاولاتهم في التغلب على الشعب الجزائري ستبوء لا محالة بالفشل المرير والدمار الوبيل. فليعلموا – تواصل المجاهد - أن أبناء وطننا الذين اختاروا أن يعيشوا أو يموتوا أحرارا، لمتيقنون أن النصر سيكون حليفهم وذلك لا لقوتهم بل لأنهم محقون والحق يعلو ولا يعلى عليه.
أما المجاهد محمد العربي براهمي، فاعتبر أن المعركة تعد أكبر نصر تحقق على مرأى ومسمع من المواطنين سكان المنطقة الذين ثأر منهم عساكر العدو انتقاما لما تكبدوا من خسائر فادحة.
فـي الختــام..
من خلال ما سبق نستنج ما يلي: أظهر كمين المعرقب تحكم المجاهدين في تقنيات الحرب الثورية، حرب العصابات التي نجحوا من خلالها في توجيه ضربات صاعقة للقوات الفرنسية، من خلال ما تم استرجاعه من غنائم والجنود الفرنسيين الذين تم القضاء عليهم، وأثبت فشل الجنود الفرنسيين في التعامل مع هذا النوع من الحروب غير النظامية، مثلما فشلوا في مواقع سابقة على غرار فج المورد في 24 ماي 1955، والحميمة القرعة 17 جويلية 1955.
أخذت معركة الجرف الثانية اسمها واشتهرت به من وراء الكمين الذي نصبه المجاهدون في المعرقب والذي استهدفوا من ورائه الجنود الفرنسيين التابعين للمركز العسكري الفرنسي بجبل الجرف. تمكن المجاهدون من الصمود في معركة الجرف الثانية لمدة ستة أيام من القتال المتواصل، ضد وحدات المظليين الفرنسيين التي جاءت لتقديم الدعم للوحدات الفرنسية التي كانت متمركزة في منطقة تبسة، أين حققوا نتائج إيجابية في هذه المعركة وهذا ما كشفت عنه ووثقته الكتابات الفرنسية.
نجح المجاهدون خلال معركة الجرف الثانية في القضاء على ضابطين من ضباط الجيش الاستعماري الفرنسي، كان أحدهما الضابط المسؤول عن المركز العسكري بجبل الجرف، وهذا ما يعتبر أقوى رد من المجاهدين على الجرائم والممارسات القمعية التي مارسها هذا الضابط واقترفها جنوده الذين أعطى لهم الضوء الأخضر للتفنن في ارتكابها، مستغلا القوة التي كانت متوفرة بين يديه.
تعد معركة الجرف الثانية إحدى المعارك الكبرى التي خاضها المجاهدون بناحية تبسة، وجاءت لتكمل سلسلة الانتصارات التي حققوها في مواقع سابقة على غرار معارك وادي الجديدة الأولى، أم الكماكم الأولى، الجرف الكبرى وغيرها.
جبل أرقو معقل من معاقل الثورة بناحية تبسة، كيف لا وهو الجبل الذي يسميه ساكنة المنطقة بالأرض الحرة أو المحررة في إشارة إلى أنه أرض عصية على الغزاة، فقد كان كابوسا حقيقيا لدى قيادة الجيش الاستعماري الفرنسي، وفشلت كل مخططاتهم لفرض السيطرة عليه، رغم الإمكانات البشرية والمعدات المتوفرة لديهم، وظل الجبل المستقر الدائم للمجاهدين طوال سنوات الثورة التحريرية.
أقحمت قيادة الجيش الاستعماري الفرنسي في معركة الجرف الثانية سبع طائرات نقل جنود، في محاولة منها لكسب رهانها لكن عزيمة المجاهدين وتصميمهم كان أقوى أين تمكنوا من عطب 04 طائرات من هذه الطائرات بنسبة إصابة تقدر بـ 57.14 بالمائة.