طباعة هذه الصفحة

أشاوس جيش التحرير الوطني لقّنوا المستعمر درسا في الإقدام

معركـة الجـرف الثانيــة..ملحمـة الانتصار..(3)

طارق عزيز فرحاني المركز الجامعي - بريكة

 أسفر كمين المعرقب الذي لم تتجاوز مدته عن 25 دقيقة عن تحقيق مجاهدي جيش التحرير الوطني لنصر جديد على حساب وحدات الجيش الاستعماري الفرنسي التي منيت بهزيمة ساحقة، وقد استشهد المجاهد محمد علي بن عياد براكني التابع لفوج التغطية، بينما تلقّت القوات الاستعمارية خسائر فادحة، رغما عددها وعدّتها. لهذا، قلنا إن كمين المعرقب الذي نصبه المجاهدون في يوم 04 أفريل 1956 لأفراد قافلة عسكرية فرنسية، واحدا من بين الكمائن الناجحة، جاء كرد رد فعل من القيادة الثورية على الانتهاكات والاعتداء التي كان جنود الجيش الاستعماري الفرنسي يقومون بها في حق المدنيين من ساكنة المنطقة.

 تجمع المصادر الجزائرية والفرنسية بأنّ المجاهدين استطاعوا إلحاق خسائر فادحة بالوحدة العسكرية الفرنسية التي تم إيقاعها في مصيدة كمين المعرقب، فجريدة «المجاهد» وبالرغم من أنها لم تحدد عدد القتلى الفرنسيين بالضبط، إلا أنها أوردت تفاصيل المعركة.
من جانبه، أكّد المجاهد بلقاسم جدي في شهادته هذا الكلام، وذكر بأن الجنود الفرنسيين تكبّدوا خسائر كبيرة. أما المجاهد محمد العربي براهمي فيذكر بأن المجاهدين جنديا فرنسيا واحد تمكن من الفرار  بعد أن ألقى سلاحه وراءه، ويشير المجاهد الطيب بن سلطان علوان إلى الخسائر التي لحقت بالقوات الفرنسية قائلا: قام شريط لزهر بنصب كمين غير بعيد عن الجرف لمجموعة من الشاحنات الفرنسية، أعلم أن عدة عسكريين قد حيّدوا، أما الضابط الفرنسي دومنيك فارال، فقد حدد الخسائر التي لحقت بالوحدة العسكرية الفرنسية بقوله: أعلن عن سقوط 32 قتيلا في الجانب الفرنسي من بينهم ملازم أول وطالب ضابط، بينما حدد الملازم جان بالازوك عدد قتلى الكمين بـ 22 قتيلا، فيما خسرت وحدة القطاع الوحدة المسؤولة عن الجهة التي وقعت فيها المعركة 22 جنديا بينهم ضابطان.

الأسلحة والمعدّات الحربية

 بالنسبة للأسلحة والمعدات الحربية التي استرجعها المجاهدون خلال هذا الكمين، أشار الجنرال الفرنسي فرانسوا كان بأن الثوار تمكنوا من غنم كمية معتبرة من الأسلحة، بينها 03 رشاشات 30 ثم اختفوا في ضفاف الواد الوعرة، فيما حددت جريدة «المجاهد» خسائر الجيش الاستعماري الفرنسي في المعدات كالآتي: 25 رشاشة و7 بندقيات رشاشة ومدفعين من عيار 60 و7 بندقيات من نوع ماس 49 و04 من نوع ماص 36، وكمية وافرة من المسدسات والعتاد و04 آلات راديوفونية لتلقي الأخبار وإرسالها.
أما المجاهدون صالح بناني بناني وبلقاسم جدي ومحمد العربي براهمي، فقد حدّدوا الخسائر التي لحقت بالوحدة العسكرية الفرنسية كالآتي: احتراق عربة استطلاع مصفحة، وسيارة جيب وثلاث شاحنات GMC، وتم غنم مدفعي هاون، من بينها مدفع هاون 82 ملم دون قاعدة غنم 36 قطعة سلاح منها: 02 مدافع رشاشة فرنسية 29/24، بندقيتين آليتين ذات خزان 10 طلقات 15 بندقية تكرارية من نوع ماص 36 06 بنادق ماص 49 04 مسدسات من عيار 09 ملم. كمية كبيرة من الذخيرة الحية وعدد من حاملات الذخيرة والقنابل اليدوية الهجومية والدفاعية. معدات التوجيه: 01 جهاز إرسال لاسلكي، 04 نظارات ميدان 04 بوصلات، عدد من الساعات اليدوية.

معركة الجرف الثانية..الاستعداد

 بعد نجاح كمين المعرقب في تحقيق أهدافه، قام المجاهدون المشاركون فيه بجمع الغنائم من أسلحة وذخيرة حية ومعدات حربية، ثم شرعوا في مغادرة موقع الكمين تمهيدا للعودة إلى مقر الإدارة بجبل أرقو الذي يبعد عنهم ببضعة كيلومترات شمالا، في حين اكتفى الجنود الفرنسيون المتواجدون في المركز العسكري بجبل الجرف بمتابعة مجريات الكمين من وراء جدران المركز، وعجزوا عن تحريك قواتهم لنجدة زملائهم وفك الحصار عنهم، أين تملكهم الجبن والخوف بسبب هذه الضربة التي وجهت لهم من طرف مجاهدي جيش التحرير الوطني، وتزامنت عملية خروج المجاهدين مع تحليق الطائرات الحربية الفرنسية فوق المنطقة، فقد وصلت متأخرة، وفشل قادتها، رغم تحليقهم المستمر، في تحديد المواقع التي يتمركز فيها المجاهدون الذين استطاعوا مسايرة الوضع واستفادوا من جغرافية وتضاريس المنطقة لتمويه أنفسهم بشكل جيد. وتأخرت عودة المجاهدين رغم قصر المسافة للأسباب التالية:
صعوبة المشي بين التضاريس الوعرة، حمل المجاهدين لغنائم كثيرة أثقلت كواهلهم، تساقط الأمطار في المنطقة، ولكن رغم هذه الصعوبات، واصل المجاهدون المشي خلال الليل، ورجعوا إلى مقر الإدارة وتمركزوا هناك في انتظار التطورات التي سيسفر عنها الكمين.
في خضم قيام المجاهدين بتنفيذ الكمين كانت القيادة الثورية لناحية تبسة تترقب نتائجه، وعندما وصلتها أخبار نجاحه، سارع القائد بشير ورتان المكنى سيدي حني إلى تشكيل وإرسال دوريات من المجاهدين، وكلف أفرادها بتقديم الدعم للمجاهدين المشاركين في الكمين. ثم أجرى اتصالا ثانيا بالمجاهد صالح بن علي سماعلي، قائد قطاع الشريعة، ومسؤول الفرع الطيب بن سلطان علوان، وقادة الأفواج جفافلية علي بن بلقاسم، حاجي الطاهر علي بن علي الزرمومي، أين قيموا الموقف السائد بالمنطقة على إثر الكمين، وأطلعهم على معلومات جمعها المسبلون وتفيد بقيام قيادة الجيش الاستعماري الفرنسي بحشد وتجهيز وحداتها العسكرية حتى تقحمها في عملية لمتابعة المجاهدين المشاركين في الكمين، ودرسوا الموقف وخلصوا إلى تبني قرار يقضي بالاستعداد لمواجهة القوات الفرنسية.

المواجهة

من الملاحظ أنّ المصادر الفرنسية تشير إلى أنّ المعركة استمرت لمدة خمسة أيام مثلما يذكر الملازم جان بالازوك الذي كتب بشأنها ما يلي:
من 05 إلى 10 أفريل، وقعت معركة عنيفة في منطقة الجرف، بالنمامشة، لمدة خمسة أيام،أما دومنيك فارال فيضيف بأن فصيلتين تابعتين للكتيبة 23 من قوات المرتزقة المحمولة، كانت متمركزة في بئر العاتر، تحركتا لملاحقة الثوار.
وعن الظروف التي بدأت فيها المعركة، أشار الجنرال فرانسوا كان بأن القوات الفرنسية كانت تقوم بالتعبئة العامة جنوب قرية ثليجان يوم 05 أفريل. هناك ولأول مرة شاهد وصول 07 طائرات هليكوبتر من بينها 03 من نوع Banane للقوات البرية، و04 من نوع Sikorsky للقوات البحرية و02 للقوات الجوية، وإذا كانت القوات الفرنسية قد شرعت في تجميع وحداتها لشن العملية العسكرية ضد معاقل جيش التحرير الوطني، فإن المجاهدين بدورهم أخذوا كامل الاحتياطات الممكنة لديهم، حيث لم يمنعهم الانتصار الذي حققوه في المعرقب من البقاء للعدو بالمرصاد إذ كانوا متيقنين أن النجدات سترسل، وفعلا لم يلبثوا إلا قليلا، وشاهدوا العساكر يقتربون من مسالك الجبال، وينزلون من السماء.
كانت الإمدادات ترسل من جميع الأماكن، ولقد لاحظ الجنود المظليين ذوي القبعات الحمراء قد جاؤوا من تبسة نفسها، أين توالى إرسال الإمدادات خلال العشية كلها واستؤنف في اليوم التالي فتيقنوا أن المعركة ستكون من أشد المعارك التي دارت رحاها بين رجال جيش التحرير الأشاوس، والقوات الغاشمة منذ اندلاع الثورة.
وبعد استكمال كافة التحضيرات، أصدرت قيادة الجيش الاستعماري الفرنسية الأوامر لضباطها ببدء العملية العسكرية، أين هاجمت وحدة عسكرية فرنسية مدعومة بالطيران الحربي على الساعة التاسعة صباحا المكان المسمى الظهر القريب من جبل تازربونت، والذي تمركز فيه المجاهد القائد مقداد بن الحفناوي جدي مع مجموعة مكونة من 65 مجاهدا، لتبدأ بذلك المعركة بين الطرفين ويشتد لهيبها.
يصف المجاهد محمد العربي براهمي مجريات اليوم الأول من المعركة قائلا: انجر عن كمين المعرقب وقوع معركة كبيرة في اليوم الثاني من حصوله بجبل أرفو العظيم. شاركت فيها كل أفواج المجاهدين المتواجدة به، ودامت أكثر من 12 ساعة، تلقى فيها العدو ضربة أخرى لا تقل عن ضربة الكمين الموجعة، وقد خسر فيها أكثر من 20 قتيلا وفي مقدمتهم قائد مركز الجرف برتبة نقيب، ناهيك عن عشرات الجرحى والمصابين من جنوده خلال المعركة، وقد استعملنا في هذه المعركة الأسلحة التي غنمناها من الكمين.
من جانبه، يتحدّث المجاهد بلقاسم جدي عن بداية المعركة قائلا: في اليوم الموالي نشبت المعركة بيننا وبين الجنود الفرنسيين، أين كان تعداد مجاهدي جيش التحرير الوطني فيها كثير، وهذا ما أدى إلى اشتداد دائرة المعركة لتشمل الجبال المحيطة بجبل أرقو، ثم امتدت لتصل إلى جبل تازربونت.
وعن هذه التطورات، يتحدّث المجاهد الطيب بن سلطان علوان قائلا: فيما يخصني فقد تمركزت في تازربونت، واشتبكت وفقدت خمسة من رجالي علي بن علي (زرمومي)، عمر بن الصيد (جدري)، فرحات (زرمومي) الصادق بن محمد وعيساوي عبد الرحمن من تبسة.
وعن الظروف التي وقعت فيها المعركة، يتحدّث المجاهد فرحاني محمد الصغير بن إبراهيم قائلا: تزامنت المعركة التي قادها المجاهد علي بن علي الذي ينحدر من فرقة أولاد أحمد بن عيسى، وهي إحدى الفرق المشكلة لعرش الزرامة، مع عودتنا من رحلة الانتجاع التي قضيناها في صحراء الخنف بواد المشرع، أين أقمنا في شعبة المزارة حيث تمركز المجاهدون في داغوس جبل فعور الكيفان، وشرعوا في مواجهة القوات الفرنسية المدعومة بالحركى خلال الفترة الصباحية، وقاوموا مقاومة شرسة بشجاعة منقطعة النظير طوال اليوم، أين كان المجاهد علي بن علي الزرمومي يردد خلالها عبارات التكبير التي دوت في الجبل ورددت الصخور صداها، ثم يطلق الرصاص ببندقية رشاشة نوع 24/29 FM وبندقية فيزي قارة، باتجاه الجنود الفرنسيين الذين منعهم من الاقتراب منه، وبحلول المغرب، استشهد وتوقف سلاحه عن إطلاق النار، بعد أن قام أحد الجنود الفرنسيين برمي قنبلة يدوية عليه، وقد خاض معركة بطولية وتمكن من إلحاق خسائر فادحة في صفوف القوات الفرنسية، ثم قام الجنود الفرنسيون بعد ذلك باعتقال بزويش علي تومي.
بعد نهاية المعركة ومغادرة الوحدة العسكرية الفرنسية للجبل، قمنا بتكوين مجموعة من الرجال لأجل دفن شهداء المعركة، ثم غادرنا شعبة المزارة باتجاه كاف الديار بجبل فعور الكيفان، ولما صعدنا إلى مكان المعركة وجدنا أثار دماء الجنود الفرنسيون ملتصقة بصخور الجبل، ثم صعدنا إلى المكان الذي تمركز فيه الشهيد مصار علي بن علي، وكانت المفاجأة كبيرة، حيث لم نعثر على جثمانه بعد أن قام الجنود الفرنسيون بإخراجه واحراقه، ولم نعثر سوى على بقايا سرواله، فقنما بدفن بقية الشهداء الذي عثرنا عليهم ثم غادرنا الجبل وعدنا إلى بيوتنا.
تواصلت المعركة في يوم 06 أفريل أين كان رماة المجاهدين وهم في أماكنهم العالية المنيعة، يطلقون على الهيلوكوبترات والطائرات وابلا من نيران رشاشاتهم لكي يمنعوها من النزول، وكانت تلك الطائرات مختلفة الأنواع منها المقنبلة ومنها المطاردة، ونجح المجاهدون في تحييد خمس طائرات هيلوكوبتر وأخرجوها من العمل.
ولمواجهة حجم الأضرار، سارعت فرقة قسنطينة لطلب تعزيزات من الجزائر العاصمة، وقد استجابت القيادة الفرنسية في الجزائر لطلبها، فأرسلت السرية الثالثة من الفوج الأول لفيف أجنبي مظلي (CC/REP) التابع للمقدم ألبرت بروتير، أين قام أفرادها بعملية إنزال في مساء يوم 06 أفريل، وبوصول هذه السرية، تواصل القتال ليلا بين المجاهدين والجنود الفرنسيين على ضوء الأسهم المنيرة التي كانت تطلقها طائرات العدو.
في هذا الإطار، أورد الجنرال فرانسوا كان في شهادته ظروف الاشتباك الليلي الذي خسر فيه الجيش الاستعماري الفرنسي عددا ما من جنوده يوم 06 أفريل  1956 قائلا: في أول مواجهة لي فقدت العريف الأول كودراي والعريف براي، إنّها كارثة بالنسبة للملازم الأول المشؤوم الذي أمضى كل يومه والقسم الأول من الليلة في إطلاق النار على عدو لم ير له أثرا..ازدادت سرعة الرياح عند حلول الليل، وأخذت تقلب القماش لتكشف عن وجوه الموتى التي كان يضيئها نور القمر بشكل مخيف. إنّ ثوار قبيلة النمامشة قنّاصون مرعبون مزودون بسلاح إيطالي «ستاتي»، حيث لا يسمع إلا أزيز رصاصها المرعب. تحضرني هنا نادرة مثيرة للشفقة كانت الكتيبة الثانية على يميننا يقودها النقيب فوساريو قام بالهجوم على كتل من الصخور يتمركز بها العدو استنجد بالطائرة لنقل 04 أو 05 جرحى من بينهم العريف جاليوراكي الذي جرح في ساقيه، كان ممدّدا في الطائرة، وبمجرد ارتفاعها عن الأرض، تلقى هذا الأخير رصاصة في الرأس..يا له من يوم..وعلى الساعة الخامسة والنصف من صبيحة يوم 07 أفريل استؤنف القتال بين المجاهدين والجنود الفرنسيين، أين أبدى المجاهدون أثناءه نفس الإقدام الذي أبدوه في اليوم السابق، واستعملوا الأسلحة التي كانوا استولوا عليها في المعركة الأولى، فكبّدوا القوات الفرنسية خسائر فادحة، وإمدادات العدو تتقاطر وتضرب حولهم بنطاق مساحته نحو الخمسين كيلومتر مربعة، لقد شارك في هذا الحصار الآلاف من جنود الاستعمار وست طائرات مطاردة وعشر هليكوبتر وثلاث بيبركب وعدد لا يحصى من رجال المظلات ذوي القبعات الخضراء، توالى إنزالهم وراء خطوط المجاهدين عدة ساعات.