طباعة هذه الصفحة

تعتمد على الابتكار وروح المبادرة ونجاعة التسيير

Lمقاولات الثقافة.. المبادئ الريادية في خدمة الإبداع

أسامة إفراح

اكتسب مفهوم ريادة الأعمال الثقافية اهتمامًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، كوسيلة لإحياء الصناعات الثقافية واستدامتها. ويتضمن هذا النهج تطبيق المبادئ المقاولاتية على القطاعات الإبداعية والثقافية من أجل دفع عجلة الابتكار وخلق القيمة الاقتصادية وتعزيز التنمية الثقافية. ومن المحركات الرئيسية للمقاولاتية الثقافية الاعتراف بقيمة الثقافة كأصل اقتصادي، حيث تسهم الصناعات الثقافية بشكل كبير في الاقتصاد العالمي وتلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الهويات الاجتماعية والثقافية.

تلعب ريادة الأعمال الثقافية دورًا حاسمًا في تعزيز الإبداع والابتكار في القطاع الثقافي. ويمكن للمقاولاتية الثقافية أن تعزز التعاون والشراكة بين مختلف أصحاب المصلحة في النظام البيئي الثقافي، بما في ذلك الفنانين والمنظمات الثقافية وصناع السياسات والشركات. كما يمكن للمقاولاتية الثقافية أن تسهل تدويل الصناعات الثقافية من خلال تعزيز التعاون عبر الحدود، وتعزيز التبادل الثقافي، وتسهيل الوصول إلى الأسواق للمنتجات والخدمات الثقافية.. ولكن، قبل الحديث عن فوائد المقاولاتية، وجب تعريف المفاهيم وضبط معانيها.

مـن هـو المـقـاول؟

تعتبر حياة حميدي (جامعة الشلف) أن المقاول شخص يتمتع بمؤهلات ومهارات وقدرات إبداعية ونزعة استقلالية وروح المبادرة والمسؤولية، في أن ينشئ مشروعا أو مؤسسة ناجحة، مع قدرته على تقبل وتحمل الخسائر المحتملة. وهو الشخص الذي لديه الإرادة والقدرة، ويستطيع أن يحول فكرة جديدة إلى ابتكار يجسد في أرض الواقع.
ومن خصائص المقاول، تذكر حميدي الدافعية القوية والمرونة، الالتزام، الفعل أو الإنجاز، التصور والانضباط، التحكم الذاتي، تحمل الضغوط، الثقة بالنفس، الاستعداد والميل إلى المخاطرة، والحاجة إلى الإنجاز.
أما المقاولاتية، فيعتبر كل من صبرينة سيدي صالح وعلى لونيس (جامعة سطيف) أنها “قابلية المبادرة بتنفيذ عمل أو إنشاء مؤسسة جديدة بدلا من مراقبة أو تحليل أو وصف مثل هذا العمل أو هذه المؤسسة”.
ونجد مقاربات مختلفة تعرف المقاولاتية وتفسرها، تقول حياة حميدي، مثلا، يمكن القول إن المقاولاتية ظاهرة تنظيمية، حيث يرى غارتنـر أنها عملية إنشاء منظمة جديدة، فيما يرى فايول أنها “مجموعة الأنشطة التي تسمح بإنشاء مؤسسة جديدة”، ودولينغ يعرّفها بأنها “عملية خلق منظمة اقتصادية مبدعة من أجل تحقيق الربح أو النمو تحـت ظروف المخاطرة وعدم التأكد والاستفادة من فرص جديدة عامة”.
كما أن المقاولاتية اسـتغلال للفـرص، وهي “سـيرورة تحويـل الفرص إلى انطلاق الأعمال”، وقد عرفها كل من شاين وفنكاتارمان بأنها “العمليـة الـتي يـتم مـن خلالهـا اكتشـاف وتثمين الفرص التي تسمح بخلق منتجات وخدمات مستقبلية”.
والمقاولاتية خلق للقيمة، حيث يعتبر موران أن الفـرد الشـرط الأساسـي في خلـق القـيم، والمقاول هو الذي يستطيع ويسعى إلى خلق قيمة جديدة كإنشاء مؤسسة جديدة، أمـا القيمـة المقدمـة فتتمثـل في مجمـوع النتائج التقنية، المالية والشخصية التي تقدمها المؤسسة.
والمقاولاتية ابتكار، وقد ركـز شـومبيتر Schumpeter (أحد أهم المسهمين في إبراز دور المقاول) علـى دور الابتكـار في العمليـة المقاولاتيـة، والمقاول بحسبه ليس فقط مجرد منشئ أو مشترٍ بسيط لشركة ما، بل هو محرك التنمية الاقتصادية.
وعلى فكرة الابتكار، ينبني على جزء هام من الثقافة والمقاولاتية الثقافية معا.

المـقـاولاتـية الـثقافـية.. المـفهوم والـنماذج

يرى كل من سوسن زيرق (جامعة سكيكدة) وعلاء الدين بوزيد (جامعة جيجل) أن مفهوم المقاولاتية الثقافية، أو ريادة الأعمال الثقافية، أو ريادة الأعمال الفنية، مفهوم حديث نسبيا في عالم الإدارة والأعمال، وكذا في مجال الدراسات الثقافية بصفة عامة. وقد تم تقديم هذا المفهوم لأول مرة من قبل بول ديماجيو Paul Dimaggio سنة 1982، وعرفها على أنها “إنشاء شكل تنظيمي يمكن لأعضاء النخبة التحكم ومراقبة وإدارة وتحليل عمليات تشكيل مؤسسات الثقافة العالية”. وتعرف أيضا على أنها “النشاط المحدد لإنشاء أعمال ثقافية وتقديم المنتجات والخدمات الثقافية والإبداعية إلى السوق التي تشمل قيمة ثقافية ولكن لديها أيضا القدرة على توليد إيرادات مالية”.
ويضيف الباحثان أن المقاولاتية الثقافية، من خلال مقارباتها ومفاهيمها، تجمع بين المفاهيم الثقافية التي تشكل جزء من الحياة المجتمعية، والمفاهيم الاقتصادية التي تسعى إلى تحقيق الأرباح وضمان استمرارية الحياة اجتماعيا وثقافيا، وتشكل ركيزة للصناعات الإبداعية التي تنتقل من الطابع الثقافي المعنوي إلى الإنتاج الثقافي عبر مدخل الإبداع.
وفي دراستهما، سعى الباحثان إلى تسليط الضوء على المقاولاتية الثقافية باعتبارها ركيزة للصناعات الإبداعية، وباعتبار هذه الأخيرة تتسع انطلاقا من الأعمال الثقافية التي تخضع لمبادئ الإنتاج الصناعي. وركزا على نموذجيْ كوريا الجنوبية والهند، كونهما “تجربتين رائدتين في هذا المجال على المستوى الإقليمي والدولي”.
وأشارت الدراسة إلى أن المنتجات والقيم الثقافية لم تعد تحمل طابعا معنويا فقط، بل يمكن إعادة إنتاجها بشكل اقتصادي يدر أرباحا تضمن استمرارية المجتمعات والمؤسسات اقتصاديا، اجتماعيا وثقافيا، وذلك من خلال الاستثمار في هذه المنتجات عبر تحويل وخلق وتطوير المفاهيم والأفكار الإبداعية والثقافية الجديدة إلى قيم حقيقية مدركة مجسدة في منتجات وعمليات وخدمات تمثل مخرجات الصناعات الإبداعية، تضمن تحقيق التميز واكتساب الأفضليات التنافسية.
وقد أدركت كل من كوريا الجنوبية والهند (نموذجا الدراسة) أهمية هذه الصناعات الإبداعية في استغلال إمكانياتها الثقافية الثرية، وتحديد الطرق التي يتفاعل بها الأفراد مع ثقافتهم ويستمدون قيمتهم منها، إضافة إلى أهمية ذلك في بناء علامة تجارية تبرز الهوية الوطنية.
وفي تجربة كوريا الجنوبية، تم وضع خطط لدعم ما يسمى “الموجة الكورية”، وتقديم دعم معتبر بهدف تحقيق الريادة في هذا المجال، وقد آتت هذه الجهود أكلها واليوم تغزو الثقافة الكورية العالم كله (مثلا: فرقة غنائية كورية تبلغ إيراداتها 3.6 مليار دولار، وفيلم سينمائي كوري يفوز بالأوسكار، وسلسلة درامية كورية هي الأعلى مشاهدة). ولا تختلف التجربة الهندية كثيرا عن سابقتها، إذ تعتبر تجربة متميزة من خلال تركيزها على تثمين تراثها الغني الضارب في أعماق التاريخ، والذي يتجلى في تفرد منتجاتها الثقافية وتميز الفرد الهندي الذي يعتبر الإبداع نمط حياة وليس مجرد أحد مدخلات عملية الإنتاج الثقافي الذي يعوّل عليه لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة إلى جانب بقية القطاعات الأخرى.
في الأخير، نبهت الدراسة إلى جانب الحاجة إلى تنفيذ ريادة الأعمال الثقافية كنظام أكاديمي، فقد تم الاعتراف بها كأداة أساسية لتعزيز الصناعات الثقافية والإبداعية. كما أكدت على أهمية إجراء المزيد من الدراسات حول طرق وآليات قياس القدرات الإبداعية في منظمات الأعمال.

المقاولاتية الثقافية في الجزائر

يرى كل من محمد سفيان بداوي وإيمان مرابط (جامعة المسيلة) أن امتلاك الجزائر مواهب في الصناعات الثقافية والإبداعية، وإمكانات في مختلف القطاعات الثقافية، يجعلها مطالبة بالاستثمار في هذا المجال الحيوي (أي المقاولاتية الثقافية)، ودفع الشباب المقاولين لتبني مشاريع ثقافية إبداعية.
وبالعودة إلى أرض الواقع، يمكن ملاحظة الجهود والمبادرات التي تترجم سعي الجزائر إلى تشجيع ريادة الأعمال في جميع المجالات، بما فيها الصناعات الثقافية. ولن نتطرق في هذا المقال إلى جميع الوكالات والمؤسسات وصناديق الدعم التابعة لوزارة الثقافة والفنون، ولا إلى لقاءات الوزارة بالفاعلين في القطاع لتشارك الأفكار والاقتراحات والخبرات، ولا إلى اتفاقيات التعاون التي تجمع الوزارة بالقطاعات الأخرى في هذا الصدد (على غرار السعي إلى توفير الأوعية العقارية)، ولكننا سنشير إلى أمثلة ثلاثة نستأنس بها لفهم هذا التوجه العام في تشجيع المقاولاتية الثقافية.
قانون المقاول الذاتي: المقاول الذاتي هو كل شخص طبيعي يمارس بصفة فردية نشاطا مربحا يندرج ضمن قائمة النشاطات المؤهلة للاستفادة من القانون الأساسي للمقاول الذاتي، الذي يسمح للشباب بالقيام بأنشطة مربحة بطريقة منظمة وقانونية، في إطار رسمي، والاستفادة من تغطية الضمان الاجتماعي.
كما يلعب هذا القانون دورًا كبيرًا في تخفيف العبء على الشركات الناشئة، والسماح لهم بدعوة رواد الأعمال المستقلين، تمكين الاستخدام المشترك للموارد البشرية بين مختلف الشركات، وتسهيل تصدير بعض الخدمات الرقمية بالتوازي مع القرار الذي أصدرته الدولة بالسماح بتحويل جميع الإيرادات من صادرات الخدمات الرقمية بالعملات الأجنبية إلى البلاد.
كما أنشئت “الوكالة الوطنية للمقاول الذاتي” للإسهام في تنظيم الأنشطة الاقتصادية الجديدة، لا سيما في مجال الرقمنة، وتعزيز روح المبادرة من خلال تسهيل وصول الشباب إلى العمل الحر، وتشجيعهم على الاندماج في الاقتصاد الرسمي للبلاد. وهذه الوكالة مسؤولة عن إنشاء وإدارة السجل الوطني لمنظمي المشاريع الذاتية، من خلال منصة التسجيل الإلكتروني التي أنشئت لهذا الغرض.
وتسمح هذه المنصة بالحصول على “بطاقة المقاول الذاتي”، بشرط أن يكون النشاط ضمن قائمة النشاطات التي تتشكل من سبعة ميادين أحدها “الخدمات الثقافية والاتصال والسمعي البصري”.
ويشمل هذا التصنيف وحده 345 نشاطا يملك كل نشاط منها رمز محدد، نذكر منها على سبيل المثال الكاتب الأدبي، والشاعر، ومؤلف الأعمال الدرامية، والملحن، والخطاط ومصمم الخطوط، والمنتج السينمائي، وغيرها من النشاطات. ويمكن للحاصل على هذه البطاقة من مزاولة نشاطه بطريقة مقننة، وفوترة خدماته، والتصريح بأرباحه. ويستفيد حامل البطاقة من امتيازات منها الإعفاء من إلزام القيد في السجل التجاري، والإعفاء من إلزامية توفير محل لممارسة النشاط، ونظام ضريبي تفضيلي.
حاضنة “مبادرة Art”: أطلقت وزارة الثقافة والفنون مشروع حاضنة “مُبادرة Art”، وهي “مبادرة مبتكرة تهدف إلى دعم وتعزيز الصناعات الإبداعية في الجزائر”، بالشراكة مع المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، والديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، والمدرسة العليا الجزائرية للأعمال.
وبحسب الوزارة، فإن هدف المشروع “تقديم الدعم الاستراتيجي والعملي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وكذا الشركات الناشئة في الصناعات الإبداعية، مع التركيز على الاستخدام الاستراتيجي للملكية الفكرية”. كما يقدم المشروع “دعما شخصيا للمشاركين يتمثل في ورشات عمل تفاعلية، وجلسات تدريب جماعية، واستشارات فردية من طرف خبراء جزائريين ودوليين”.
ويعمل هذا البرنامج على اختيار ودعم ما بين 15 إلى 20 شركة ناشئة، صغيرة ومتوسطة، من جميع أنحاء الوطن، تمارس نشاطها في مجالات الصناعات الإبداعية المختلفة، على غرار الفنون والتصميم والإعلام والترفيه والتكنولوجيا الإبداعية، حيث يتم تشجيع المشاركين الراغبين في تثمين تراثهم الثقافي وتحفيز إبداعهم وتعزيز مكانتهم في السوق على تقديم ترشحهم.
ويتوجه المشروع إلى مبدعي المحتوى الرقمي، ومقدمي خدمات البث المباشر، ومطوّري وسائط تفاعلية، الساعين إلى الابتكار في الطريقة التي يتم بها إنشاء وتوزيع، واستهلاك هذه الطرق الجديدة. إلى جانب محترفي تصميم الغرافيك وتصميم المنتجات، والمبتكرين الذين يبحثون عن حلول تصميمية مبتكرة لتلبية احتياجات السوق.
قافلة “شاب فكرة”: بحضور أعضاء من الحكومة وممثلي هيئات وطنية، شهد ماي الماضي إطلاق الطبعة الثالثة من القافلة الوطنية “شاب فكرة”، التي تهدف إلى مرافقة الشباب حاملي الأفكار من أجل تجسيد مشاريعهم.
وأبرزت وزيرة الثقافة والفنون، صورية مولوجي، حينها، أن هذه المبادرة “ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي والإبداعي تجسد مسعى مرافقة الشباب وحاملي الأفكار الإبداعية والثقافية، وكذا المزاوجة بين الإبداع الفني والثقافي من جهة، والإبداع الاقتصادي من جهة أخرى”.
وأشارت الوزيرة إلى أن هذه القافلة الوطنية التي أطلقتها المؤسسة الناشئة
تجوب 14 ولاية، بهدف “شرح مفهوم المقاولاتية في أوساط الشباب الجزائري بغية إظهار عبقريته وتحويلها إلى مشاريع قابلة للتجسيد ميدانيا”.
كانت هذه بعض الأمثلة على مبادرات من شأنها تشجيع ريادة الأعمال الثقافية، التي تمثل نهجًا ديناميكيًا ومبتكرًا لتعزيز الإبداع، وتعزيز التنمية الاقتصادية، والحفاظ على التراث الثقافي.