طباعة هذه الصفحة

الدبلوماسية العامة للدول الإسلامية:

المحتوى والآليات

أ ـ د ـ إسماعيل دبش أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية جامعة الجزائر ٣

الحلقة3

القيم الإسلامية ترفض صراع الحضارات أو صراع الأديان، بل تقر بالتكامل. وأن ما هو مطروح من صراع الحضارات الذي يقدمه مفكرون من الغرب، مثل “صامويل هنتنغتون” في كتابه بعنوان “صراع الحضارات”(30)، الهدف منه هو تحديد عدو حضاري، وترشيح الإسلام لذلك كهدف أول، في انتظار ترشيح أهداف أخرى في مناطق أخرى من العالم، من أجل ضمان سيرورة الحضارة الغربية من جانبها الرأسمالي المتطرف، والذي يعكس الهيمنة والاستغلال المستمر بداية بالاستعمار، ونهاية بالعولمة المتطرفة(31).


 ٣ .  تصاعد التطرف من مختلف المصادر والقناعات، وتضاعف التباين في الطرح والأفكار لدرجة التناقض أحياناً، مثل صراع الحضارات التي قدمها مفكرون في الغرب مثل صامويل هنتنغتون (Samuel Huntington) أو نهاية التاريخ التي قدمها فرانسيس فوكو ياما (Francis Fukuyama)، في مقابل المدارس القيمية والإنسانية التي تدعو إلى حوار الحضارات أو تكاملها مثل فرويد هاليداي (Fred Halliday). ضمن هذا التباين وهذه التحولات والمظاهر الجديدة من خلال العولمة والترتيبات الدولية الجديدة تزداد أهمية الدبلوماسية العامة لخدمة التوجهات والمصالح الخارجية.
 ٤ . تضاعف عدد الدول المستقلة وتوفرها على إمكانيات الاتصال والتأطير الإعلامي وبالتالي الوعي وتكوين الرأي العام المحلي والجهوي الذي عادة ما يكون موجهاً بمرجعيات وأبعاد وطنية، قد لا تنسجم مع إرادات وسياسات الدول الكبرى.
 ٥ .  تضاعف عدد المنظمات الدولية الإقليمية وجمعيات حقوق الإنسان والشركات متعددة الجنسيات وتأثيرها في توجيه الرأي العام توجيهاً قد لا ينسجم مع المصالح الخاصة لدولة أو دول ما.
 ٦ . مع تطور وسائل الاتصال وتكنولوجيات المعلومات التي أدت إلى تضاعف وعي الأمم والشعوب، لم تبقى الدبلوماسية التقليدية أو ممارسة النفوذ بالقوة العسكرية (القوة الصلبة) وحدهما كافيان لتمرير مصالح الدول، بل أصبح لابد من توسيع مجالات واهتمامات الدبلوماسية التقليدية، لكسب شعوب تلك الدول لضمان المصالح واستمرارها. كما عبر عنها جوزيف ني (Joseph S. Nye) أستاذ باحث في العلاقات الدولية ومساعد وزير الدفاع الأمريكي سابقا (1994-1995) “رؤية كل طرف للواقع تشكل أحد أهم عناصر الفوز”(28). أو مثلما عبّر عن ذلك أيضا مارك ليونار (Mark Leonard)، متخصص في الشؤون الدبلوماسية (عينه الوزير الأول البريطاني توني بلير سنة 1998 رئيس مركز السياسة الخارجية بلندن: British Foreign Policy Center): “هدف الحكومة البريطانية من هذا المركز هو متابعة القضايا والتطورات السريعة في العالم انطلاقا من العمل على التفاهم والانسجام مع الآخرين”، ورسم مارك ليونار خطة ومنهجا لذلك كما يلي:
 * مضاعفة التآلف لدولة ما (increasing familiarity)، أي جعل الأفراد يفكرون في الدولة ويطوّرون صورتها الإيجابية لديهم،
 * مضاعفة التقدير والتقبل (increasing appreciation)، بالعمل على بناء مشاعر إيجابية للدولة من طرف الآخرين والانسجام مع منظور ووجهة نظر الدولة.
 * تفعيل وإشراك (وترابط) الشعوب (engagingn people)، من خلال تشجيعهم على اعتبار أن الدولة المعنية بالعلاقات العامة هي أفضل الأماكن للسياحة والدراسة ومنتجاتها هي الأحسن والأجود.
 * العـمـل على الـتأثـير في تـوجيه سـلوكات الشـعــوب والأفـراد  (influencing peoples behaviors)، من خلال تشجيع الشركات على الاستثمار وتشجيع الأفراد على تأييد موقف الدولة.(29)
خامساً: أهمية الدبلوماسية العامة للدول الإسلامية
انطلق الإسلام وانتشرت الفتوحات والحضارة الإسلامية على أساس مبدأ الحوار والإقناع. ذلك هو أصل المحتوى والمقاربات والممارسات والسلوكات الموضوعية للشعوب الإسلامية في تبليغ الرسالة الإسلامية وإدارة المصالح. بمعنى أن ما تم تحديده في مفاهيم ومضامين الدبلوماسية العامة هو متجذر في المحتوى والمرجعية الإسلامية. الضعف هو في تفعيل وتكثيف ذلك ومسايرته للتطور السريع الذي تشهده العلاقات الدولية والسياسة الخارجية للدول والحكومات. على الدول الإسلامية الاهتمام أكثر بالدبلوماسية العامة وتفعيلها أكثر ميدانياً خاصة في هذه المرحلة بحكم أن:
 ١. القوة الصلبة أثبتت فشلها وباستمرار في إدارة النزاعات وتسوية الخلافات، وتحقيق المصالح، بل أكثر من ذلك أنها أدت إلى التصعيد والتوتر، وإلى نتائج عكسية للهدف (العراق نموذجاً لذلك).  
 ٢. موضوعياً وواقعياً، الاستعمال الهادف والبناء للقوة الناعمة هو الوسيلة الأمثل لضمان المصالح الدائمة.
 ٣. مع التطور المتزايد للأسلحة الفتاكة، وخاصة النووية منها، أصبحت الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تسوية النزاعات وإدارتها بالطرق السلمية والقوة الناعمة. الحروب والأسلحة الفتاكة، مثل السلاح النووي لا يوجد بها منتصر ولا مصالح محمية.
 ٤ . لا القيم الأصيلة للإسلام ولا القناعات الحقيقية للشعوب الإسلامية، ولا وضع وإمكانيات الدول الإسلامية تسمح باستعمال القوة الصلبة (hard power) لمواجهة التحديات والمخاطر. إنه حتى وإن توفرت الإمكانيات والقدرة، فإن المبدأ والإرادة في القيم والبنية الثقافية والحضارية الإسلامية تعتمد السلم والحوار والعدالة والإقناع والمنفعة المتبادلة والتعاون، وسيلة ومحتوى ومنهجاً وممارسة في التعايش والتعامل مع الآخرين، “يَا أيُهَا النَّاسُ، إَنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى، وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... “ (صدق الله العظيم، سورة الحجرات الآية:13).
صراع الحضارات والاديان مرفوض في القيم الإسلامية
القيم الإسلامية ترفض صراع الحضارات أو صراع الأديان، بل تقر بالتكامل. وأن ما هو مطروح من صراع الحضارات الذي يقدمه مفكرون من الغرب، مثل “صامويل هنتنغتون” في كتابه بعنوان “صراع الحضارات”(30)، الهدف منه هو تحديد عدو حضاري، وترشيح الإسلام لذلك كهدف أول، في انتظار ترشيح أهداف أخرى في مناطق أخرى من العالم، من أجل ضمان سيرورة الحضارة الغربية من جانبها الرأسمالي المتطرف، والذي يعكس الهيمنة والاستغلال المستمر بداية بالاستعمار، ونهاية بالعولمة المتطرفة(31).
الإسلام عقيدة تسامح، وثقافة نيرة وحضارة قامت على احترام الإنسان وإثراء الحضارات الأخرى، وساهم المسلمون في إثراء الحضارة الغربية في مختلف العلوم بما فيها علوم النهضة الصناعية والاقتصادية بأوروبا. يكفي التذكير بعالم الرياضيات جابر بن حيان (حوالي سنة 800م) والطبيب الرازي (865-925م)، عالم الفلك البيروني (973-1050م) الطبيب ابن سينا (980-1037م)، الفيزيائي ابن الهيثم (965-1039م)، وعلماء الاجتماع وفي مقدمتهم ابن خلدون بمقدمته التي مازالت مرجعية قوية ومؤثرة وواسعة الانتشار في الحضارة والأفكار والمدارس والجامعات الغربية... ولنتذكر كذلك أن الأرقام المستعملة من 1 إلى 9 هي أرقام عربية إسلامية...(32). إنجاز حضاري أكده واعترف به الرئيس الأمريكي الحالي أوباما في خطابه بجامعة القاهرة (5 جوان 2009) قائلاً:

إنني أدرك بحكم دارستي للتاريخ أن الحضارة مدينة للإسلام الذي حمل معه في أماكن مثل الأزهر نور العلم عبر قرون عدة، الأمر الذي مهّد الطريق أمام النهضة الأوروبية وعصر التنوير. ونجد روح الابتكار الذي ساد المجتمعات الإسلامية،... ونجد روح الابتكار الذي ساد المجتمعات الإسلامية وراء تطوير علم الجبر وكذلك البوصلة المغناطيسية وأدوات الملاحة وفن الأقلام والطباعة، بالإضافة إلى فهمنا لانتشار الأمراض وتوفير العلاج المناسب لها. حصلنا بفضل الثقافة الإسلامية على أروقة عظيمة وقمم مستدقة عالية الارتفاع وكذلك على أشعار وموسيقى خالدة الذكر وفن الخط الراقي وأماكن التأمل السلمي. وأظهر الإسلام على مدى التاريخ قلبا وقالبا الفرص الكامنة في التسامح الديني والمساواة ما بين الأعراق(33).

 ٥ . بمفهوم أن النظام الدولي هو ليبرالي المحتوى ورأسمالي المشروع وغربي المصدر، يبرز أن التحول في العلاقات الدولية لا يرقى لمستوى التغيير، وأن ما حدث هو ترتيبات دولية جديدة، ولو بظاهرة العولمة المعاصرة والتي هي عملياً انعكاس وامتداد للنظام الدولي القائم على اللاتوازن وحول من يستفيد أكثر، وليس على أساس عدالة دولية.
عوامل التأثير متعددة وتباين مصالح
ومهما يكن فإنه في عهد العولمة المعاصرة أو التحولات الدولية الجديدة تعددت عوامل التأثير وتضاعف تباين المصالح، وتكاثفت وسائل الاتصال بنوعية وسرعة عالية، وأصبح بإمكان الدولة بإدارة رشيدة للموارد البشرية وتنظيم دولة بهياكل عصرية، وبالاعتماد على الكفاءة والرسكلة المستمرة والمتجددة للموارد البشرية لمتابعة أحد التطورات التكنولوجية، مرفوقة بممارسات سياسية تعكس الحكم الرشيد بمقوماته الديمقراطية البناءة والتكيف مع الواقع الدولي بالمقاربات الواقعية (pragmatism)، ترشح الدولة للعب دور أو على الأقل تمرير رسائل بوسائلها الخاصة لتحقيق الأهداف المسطرة لمصالحها الوطنية.
العالم الإسلامي، إقليمياً ودولياً بحاجة لاستشراف المستقبل ولا يبقى محطة تجارب لاستقبال استشراف وخطط الآخرين، يُستَشرف به لتجسيد استراتيجيات الغير ولا يَستشرِف مستقبله. ذلك أصبح موجهاً حتى إلى المفاهيم والقيم الإسلامية لدرجة وصف الإسلام والمسلمين بالإرهاب من طرف المتطرفين في العالم، بما فيها المقاومة ضد الظلم والاضطهاد والعنصرية والقمع وسلب الحق وبالقوة، أو عند الدفاع عن الحق (المقاومة الفلسطينية) أو الدفاع عن القيم والمعتقدات الإسلامية.
وضع أدى إلى تغذية وإحياء عداءات تاريخية دفينة ضد الإسلام من طرف متطرفين في الغرب ذوي الخلفية والمرجعية الاستعمارية المتحالفة مع الصهيونية في المنطقة. اعتراف بهذا الوضع عبر عنه حتى الرئيس الأمريكي أوباما في خطابه بالقاهرة:
إننا نلتقي في وقت يشوبه توتر كبير بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم، وهو توتر تمتد جذوره إلى قوى تاريخية تتجاوز أي نقاش سياسي راهن...
لقد استغل المتطرفون الذين يمارسون العنف هذه التوترات عند أقلية صغيرة من المسلمين بشكل فعال. ثم وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 واستمر هؤلاء المتطرفون في مساعيهم الرامية إلى ارتكاب أعمال العنف ضد المدنيين، الأمر الذي حدا بالبعض في بلدي إلى اعتبار الإسلام معاديا لا محالة، ليس فقط لأمريكا وللبلدان الغربية وإنما أيضا لحقوق الإنسان. ونتج عن كل ذلك مزيد من الخوف وعدم الثقة.
هذا وما لم نتوقف عن تحديد مفهوم علاقاتنا المشتركة من خلال أوجه الاختلاف فيما بيننا، فإننا سنسهم في تمكين أولئك الذين يزرعون الكراهية ويرجحونها على السلام ويروجون للصراعات ويرجحونها على التعاون الذي من شأنه أن يساعد شعوبنا على تحقيق العدالة والازدهار. ويجب أن تتوقف هذه الدائرة من الارتياب والشقاق(34).

المقاربات السلبية تجاه الإسلام والمسلمين تضاعفت أكثر بعد الحرب الباردة، حيث قدمت العناصر الفاعلة في الغرب الإسلام عدواً بديلاًَ للشيوعية. تضاعف ذلك أكثر بعد أحداث سبتمبر (2001)، تفجيرات مدريد (2004) تفجيرات لندن (2005)، الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام بالدانمارك (2006)، وقضية منع الحجاب في فرنسا (2006-2007)، الفلم العنصري بعنوان “الفتنة” الذي أنتجه نائب بالبرلمان الهولندي فيلدرز (2008)، منع بناء المآذن في سويسرا ومنع النقاب في بلجيكا (2010) وحرق المصاحف وإلقاء الخطب السياسية المسيئة للإسلام وللرسول (عليه الصلاة والسلام) من طرف عناصر يمينية متطرفة، لأحزاب متطرفة بأوروبا خاصة أثناء الحملات والاستحقاقات الانتخابية، والقائمة طويلة(35).
بين دول العالم الإسلامي توجد مقاربات ومواقف غير منسجمة في علاقاتهم الإقليمية أو الـدولية، خاصة في الممارسة والميدان. القضية الفلسطينية والعلاقة مع الكيان الإسرائيلي نـماذجاً لذلك. يجب ترتيب البيت من الداخل قبل البحث عن آليات التكامل الإقليمي أو انسجام مواقف الـدول الإسلامية مع الآخرين. كما قال تعالى “إِنَّ الله لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَومٍ حَتّى يُغَيِرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم” (صدق الله العظيم، سورة الرعد: الآية11). يجب أن توجه الدبلوماسية العامة الإقليمية من أجل التغيير لتعزيز آليات الانسجام بين الدول الإسلامية قبل الذهاب إلى علاقة العالم الإسلامي بالعالم الآخر.
(يتبع)