طباعة هذه الصفحة

الدبلوماسية العامة للدول الإسلامية:

المحتوى والآليات

أ ـ د ـ إسماعيل دبش أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية جامعة الجزائر ٣

الحلقة2

العلاقات الإنسانية عملية طبيعية ناتجة عن الحاجة إلى تكامل وتعاون التجمعات البشرية والتعارف والاتصال الثقافي والاجتماعي وتبادل المصالح والحاجات (خدمات، مقايضة وتجارة السلع...) أو التعامل أو إقامة العلاقات لاحتواء الخلافات أو تسوية النزاعات. مسار وفعالية صنّفت لاحقا بالعلاقات العامة على المستوى المحلي وبنفس المضمون والحاجة والتطور أخذت العلاقات العامة البعد الخارجي أو الدبلوماسية العامة.


ثالثاً: أهمية الدبلوماسية العامة:
مهما كانت قوة الدولة أو درجة التفاهم أو التحالف بين الأنظمة السياسية والحكومات والدول، فإن المصالح الدائمة والصداقة البناءة والعلاقات الخارجية المتجذّرة لا يمكن أن تتّسم بالثبات والاستمرارية في غياب تفهم وقبول الشعوب والجماهير لمواقف وسياسات الدول. مثلاً، معظم الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي لها علاقات صداقة وتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي بعض الحالات ترقى لدرجة التحالف، لكن شعوبها لها نظرة ورأي آخر بسبب الغموض في سياستها الخارجية والازدواجية في تعاملها خاصة مع القضايا الإسلامية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وجد ذلك اعتراف حتى من طرف الخبيرة الأمريكية شارلوت بيرز، التي كانت مكلفة بلجنة تحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية أمام العالم الإسلامي واستقالت (فيفري 2003) لنفس السبب بعد أقل من سنتين في هذه المهمة، معتبرة استقالتها أمرا طبيعيا، “لأن درجة انحياز الإدارة الأمريكية ضد العرب والمسلمين في تزايد لصالح إسرائيل وتهديداتها بضرب العراق،... إن محاولاتها للدفاع عن السياسات غير المقبولة في العالم العربي، كانت بمثابة إدخال فيل كبير في علبة صغيرة، لأن صورة أمريكا لدى شعوب العالم أقبح كثيرا مما يتخيله الأمريكيون”(١٦)، (رغم أن هذا المنظور العربي بدأ يتحول إلى أقل سلبية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية في خضم الأحداث والاحتجاجات التي عاشتها بعض الدول العربية هذه الأيام، عادة يحرق فيها العلم الأمريكي، ولكن لم يحدث ذلك بعد).
تسؤلات جورج بوش
وها هو جورج بوش الرئيس الأمريكي السابق، عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، يبرز الأهمية القصوى لفهم شعوب العالم للدبلوماسية الأمريكية عندما قال في مؤتمر صحفي أسابيع بعد أحداث سبتمبر (14 أكتوبر 2001)، “إنني مندهش من سوء الفهم لبلدنا، وحول لماذا يكرهنا ذلك الشعب. أنا مثل معظم الأمريكيين، لا نستطيع تصديق ذلك، لأننا نعرف كم نحن طيبون”(١٧).
ولمحاولة تهدئة وتلطيف المنظور الإسلامي السلبي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وبالمركز الإسلامي بواشنطن، أعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن، للمرة الأولى (جوان 2007)، تعيين ملاحظ ومبعوث خاص للولايات المتحدة الأمريكية في منظمة المؤتمر الإسلامي، قائلا بالمناسبة، إن “مبعوثنا الخاص سوف يسمع ويتعلم من ممثلي الدول الإسلامية ويتبادل معهم الآراء والقيم الأمريكية... إنها فرصة للأمريكيين لإظهار للمجتمعات الإسلامية اهتمامنا بالحوار ومواصلة الصداقة”(١٨). شهور بعد ذلك (فيفري 2008)، تم تعيين السيد صدى قمير، مبعوثا أمريكيا خاصا للمنظمة من طرف الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن، ليعوض لاحقاً بالسيد حسين رشاد، الذي عين من طرف الرئيس الحالي أوباما (فيفري 2010). وبالمناسبة، عبّر الرئيس أوباما قائلاً، “أنا فخور بالإعلان اليوم عن تعيين رشاد حسين مبعوثاً أمريكياً لدى منظمة المؤتمر الإسلامي... بوصفه محاميا ماهرا ومساعدا مقرّبا ومحترما من قبل فريقي في البيت الأبيض، قام رشاد بدور رئيسي في تنمية شراكات كنت أعربت عن رغبتي في إقامتها في القاهرة”(١٩).
وفي نفس الإطار والاتجاه، كان خطاب الرئيس الأمريكي الحالي أوباما بالقاهرة (جوان 2009):
إننا نلتقي في وقت يشوبه توتر كبير بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم، وهو توتر تمتد جذوره إلى قوى تاريخية تتجاوز أي نقاش سياسي راهن... هذا وما لم نتوقف عن تحديد مفهوم علاقاتنا المشتركة من خلال أوجه الاختلاف فيما بيننا، فإننا سنسهم في تمكين أولئك الذين يزرعون الكراهية ويرجّحونها على السلام ويروّجون للصراعات ويرجّحونها على التعاون الذي من شأنه أن يساعد شعوبنا على تحقيق العدالة والازدهار... ويجب أن تتوقف هذه الدائرة من الارتياب والشقاق(٢٠).
وبالولايات المتحدة الأمريكية ولنفس الهدف بواشنطن (26-27 أفريل 2010 )، استضاف الرئيس أوباما أكثر من 250 شخصية أكاديمية، فكرية، رجال أعمال، إعلاميين منتخبين، بهدف تحسين الصورة الأمريكية في العالم الإسلامي وتقريب وجهات النظر بين الأمريكيين والمسلمين(٢١)، مبادرة كان قد أعلنها الرئيس أوباما في خطابه بالقاهرة(٢٢) بهدف واستراتيجية إصلاح العلاقات مع العالم الإسلامي ومدّ الجسور وترقية العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي وتقوية التعامل الاقتصادي والتجاري.
فمهما كانت القوة الصلبة (hard power) أو قوة الدولة وتأثيرها الدولي الواسع، فإن القوة الناعمة (soft power) من خلال تقديم الصورة الإيجابية والسلوك الصادق المؤسس على تقبل الأمم والشعوب؛ هو النهج والمسلك البناء ذو الأبعاد الاستراتيجية لتحقيق المصالح الوطنية واستمرار ذلك وتجذّر الأبعاد الاستراتيجية الهادفة والبناءة. فالقوة الناعمة هي القدرة في التوفيق بين الأهداف والمصالح عن طريق الجاذبية (soft power)، بدلاً من الإكراه (hard power). تعبير متميّز وصف به القوة توماس جيفرسون (Thomas Jefferson) الرئيس الأمريكي الثالث (1801-1809)، “إنني أتمنّى أن تنمو حكمتنا بقدر ما تنمو قوتنا وأن تعلمنا هذه الحكمة درساً مفاده، أن القوة ستزداد عظمة كلما قل استخدامها” والتي استشهد بها الرئيس أوباما في خطابه بالقاهرة(٢٣).
وهنا تصبح للدبلوماسية العامة الأولوية في بناء عوامل التفاهم والثقة اللازمة الطويلة المدى لسياسة الدول وبرامج الحكومات، خلافا للدعاية التي تعتمد على التعبئة الظرفية وأحيانا التمويهية التي أصبحت غير فعالة بحكم تواجد وتعدد مصادر المعلومات ووصولها بسرعة، التي تشل أو تبطل أي عمل دعائي.
أسباب وعوامل هادفة وثابتة وبناءة للتفاهم
يفترض أن يتم الاعتماد في الدبلوماسية العامة على تقديم أسباب وعوامل هادفة وثابتة وبناءة للتفاهم، انطلاقا من التفعيل والتفاعل بين تبادل الرأي والرأي الآخر حول مختلف القضايا والاهتمامات للوصول إلى توافق أو انسجام بين سياسة أو مصلحة الدولة والطرف الآخر المستهدف من تلك السياسة(٢٤).
تنطلق أهمية الدبلوماسية العامة من أنها سند أساسي للسياسة الخارجية للدول. فبقدر ما تكون الدبلوماسية العامة ناجحة، بقدر ما تكون السياسة الخارجية أكثر نجاحا. كان ذلك سبب أسـاسي وراء إدماج الولايات المتحدة الأمريكية لوكالة الإعلام (USIA: United States Information Agency) في مصالح كتابة الدولة للشؤون الخارجية لتصبح (1999) الدبلوماسية العامة من الناحية الرسمية والتنظيمية جزءاً من هياكل وزارة الخارجية بفروع وتمثيليات عبر مختلف السفارات.
رابعاً: تطور الدبلوماسية العامة
العلاقات الإنسانية عملية طبيعية ناتجة عن الحاجة إلى تكامل وتعاون التجمعات البشرية والتعارف والاتصال الثقافي والاجتماعي وتبادل المصالح والحاجات (خدمات، مقايضة وتجارة السلع...) أو التعامل أو إقامة العلاقات لاحتواء الخلافات أو تسوية النزاعات. مسار وفعالية صنّفت لاحقا بالعلاقات العامة على المستوى المحلي وبنفس المضمون والحاجة والتطور أخذت العلاقات العامة البعد الخارجي أو الدبلوماسية العامة.
الاتصال الجماهيري والشعبي أو غير الحكومي بدأ بصفة أكثر تنظيماً على الأقل مع بداية تشكل الدول الحديثة، وازدادت أهميته أكثر بعد الحرب العالمية الثانية مع تصاعد التنافس والخلاف بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي في إطار الحرب الباردة(٢٥)، حيث أصبح للاتصال أهمية أكبر لتمرير رسائل الدولة وأفكارها وإيديولوجياتها إلى الدول وخاصة التي لها مواقف متباينة أو متناقضة. تشكل العلاقات الأمريكية - الصينية على المستوى الشعبي نموذجاً لذلك. فرغم أن العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين كانت مقطوعة حتى سنة 1978، فإنه كانت هناك علاقات شعبية، منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية سنة 1949 (وحتى مع الحزب الشيوعي الصيني قبل عام 1949)، وظهرت أكثر مع الزيارة (10-17 أفريل 1971) التاريخية للفريق الأمريكي للبينغ بونغ (Ping Pong) إلى الصين التي كانت انطلاقة هامة للعلاقات الأمريكية – الصينية على المستوى الجماهيري أو الشعبي، والتي تبعتها الزيارة الرسمية للرئيس الأمريكي نيكسون (21-28 أفريل 1972).
تعتبر الولايات الأمريكية بالمفهوم المؤسساتي والهيكلي والعملي من بين الدول الأوائل في العالم للتأسيس إلى الدبلوماسية العامة، خاصة منذ 1965، حيث تم إنشاء مركز الدبلوماسية العامة الذي تأسس نتيجة لمراحل ومنظور مؤسساتي إعلامي واتصالي للسياسة والعلاقات الخارجية، بهدف كما عبّر عنه “إدوارد مورو” (Edward Murro) الإعلامي الأمريكي المعروف (والذي شغل منصب مدير الوكالة الإعلامية الأمريكية USIA: 1961-64)، بأنها “رواية قصة أمريكا للعالم” من خلال التبادل في التعليم، الكتب، المنشورات، البث الإذاعي، المكتبات ومراكز الإعلام، المسيرة من طرف سفارات الولايات المتحدة في العالم(٢٦).
قبل ذلك، كانت الدبلوماسية العامة تصنّف أكثر في إطار الدعاية (Propaganda)، مارستها بالأخص الولايات المتحدة الأمريكية بهدف إقناع العالم بأهداف سياستها الخارجية، بداية بالدعاية ضد النازية والفاشية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية وضد الشيوعية والمعسكر الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية وفي مواجهة السياسات المناوئة للولايات المتحدة الأمريكية عبر العالم ككل.
تطورات وأحداث متعددة ساهمت في تضاعف الاهتمام بالدبلوماسية العامة، من بينها:
١ - التطور السريع لوسائل الاتصال والمعلوماتية الذي أدى بسرعة إلى نقل الأفكار والقيم عن طريق وسائل الإعلام السمعية والبصرية أو الانترنت والأقمار الصناعية وغيرها وبالتالي إلى سرعة وقوة وعي الجماهير والشعوب، حيث أصبح من الصعب تجاهل الرأي العام، ليس فقط في الدول الديمقراطية، بل حتى في الدول ذات الأنظمة الشمولية. تأثير الفيسبوك وتويتر (facebook, twitter,…) على التحولات التي يعيشها العالم العربي هذه الأيام، أحدث نماذج حيّة لذلك.
٢ - أدى التطور التكنولوجي الكبير في وسائل الاتصال (communication) والإعلام (information)، إضافة إلى النقل والمواصلات السريعة والكثيفة التي جعلت الإنسان حاضرا في كل وقت، مهما كان الاختلاف في الزمن أو التباعد في المسافات. النقل والمواصلات... وغيرها من وسائل الاتصال والاحتكاك المباشر، قرّبت الآراء والمواقف. أو على الأقل فهمها وخاصة منها المتعلقة بالمجالات الإنسانية المشتركة والتي يفترض أنها تتجاوز التباين في الثقافات والديانات كما عبّر عنها الرئيس الأمريكي أوباما بالقاهرة، بأن المصالح المشتركة بيننا كبشر، أقوى من القوى الفاصلة(٢٧).